“رَحِمَ اللهُ موسى، قد أُوذِيَ بأكثرَ من هذا فصَبَرَ”
بهذه الكلماتِ واسى النبيُّ صلى الله عليه وسلم نفسَه، حين بلغَهُ أذىً من بعضِ أصحابِه،
كان ذلك بعد غزوةِ حُنَيْن، حين قسَّمَ النبيُّ ﷺ الغنائمَ،
فقال رجلٌ – في غَيْبَةِ النبيِّ ﷺ -: “واللهِ إنَّ هذه القِسْمَةَ ما عُدِلَ فيها، وما أُرِيدَ بها وجهُ اللهِ!”
اتهامٌ صريحٌ بالظُّلْمِ، وطَعْنٌ جريءٌ في نيَّةِ رسولِ اللهِ ﷺ!
فلما بلغَ ذلك النبيَّ ﷺ غَضِبَ، ثم قال: “فمَن يَعْدِلُ إذا لم يَعْدِلِ اللهُ ورسولُه؟ رَحِمَ اللهُ موسى، قد أُوذِيَ بأكثرَ من هذا فصَبَرَ”.
كلماتٌ نبويةٌ مباركةٌ تحملُ منهجاً تربوياً، ودستوراً دعوياً، وعلاجاً شافياً لكلِّ داعيةٍ يشكو من صُدودِ الناسِ، أو يتألَّمُ من
إعراضِ مجتمعِه، أو يواجهُ اتهاماتِ الجاهلين.
…………………………
هكذا هو طريقُ أصحابِ الدعواتِ، وهكذا أمرَ اللهُ نبيَّه:
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]
فلا تكادُ تجدُ حاملاً لرسالةٍ أو داعياً لمبدإٍ إلا وواجهَ حظه من النقدِ والرفضِ والصّدّ،
سواءً كانت دعوتُه حقاً يستحقُّ النُّصْرةَ أم باطلاً يستوجبُ المحاربةَ،
حتى دعاةُ الأفكارِ الهدّامةِ والرذيلةِ،
يُرْفَضونَ ويُحارَبونَ في كلِّ مجتمعٍ محافظٍ،
ويُواجَهونَ بالإنكارِ والاستنكارِ،
ومع ذلك لا ييأسونَ من نشرِ سمومِهم وترويجِ باطلِهم،
فهل يكونُ أصحابُ الباطلِ أقوى جَلَدًا من أصحابِ الحقِّ؟!
وهل يصبرُ أهلُ الضلالةِ على ضلالِهم ولا يصبرُ أهلُ الهدايةِ على هدايتِهم؟!
حاشا مَن يدعونَ الناسَ إلى الجنةِ أن يكونوا أقلَّ صبراً ممن يجرُّونَ الخَلْقَ إلى النارِ!
…………………………
إنّ الصُّدودُ جزءٌ من طبيعةِ الدعواتِ، ومقاومةُ الداعينَ سنةٌ في طريقِ البلاغِ، قال تعالى:
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34]
انظرْ إلى نوحٍ عليه السلام: تسعُ مئةٍ وخمسون سنةً من الدعوةِ المتواصلةِ،
لم يتوقفْ يوماً عن الدعوةِ، ومع ذلك خالفه قومه ولم يؤمنْ معه إلا قليلٌ،
وانظرْ إلى نبيِّكَ محمدٍ ﷺ في الطائفِ، وهو سيّدُ ولدِ آدم، رُمِيَ بالحجارةِ حتى سالَ الدمُ من قدمَيْهِ الشريفتَيْن،
وحين عُرِضَ عليه إهلاكُ مَن آذَوْه قال: “بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا.”
اختارَ الرحمةَ رغمَ الأذى، والصبرَ رغمَ التمكُّنِ من الانتقامِ،
واختارَ الأملَ في هدايتهم رغمَ شدةِ إساءتِهم له، وهو خيرُ خَلْقِ اللهِ.
…………………………
ومهمةُ الداعيةِ واضحةٌ جليةٌ في خطابِ اللهِ لنبيِّه الكريمِ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]
والبلاغُ ليس كلماتٍ تُقالُ فحسبْ، بل منظومةٌ متكاملةٌ من القولِ والعملِ والحالِ:
فأما البلاغُ بالقولِ: فأن تنطقَ بالحقِّ جهراً لا تخشى في اللهِ لومةَ لائمٍ،
وأما البلاغُ بالعملِ: فأن تكونَ أسبقَ الناسِ إلى ما تدعو إليه، وتصبرَ على أذى الخَلْقِ صبرَ الكرامِ،
وأما البلاغُ بالحالِ: فأن تكونَ إسلامًا يمشي على الأرض، يرى الناسُ في أخلاقِكَ رحمةَ الدينِ،
وفي سَمْتِكَ نورَ الإيمانِ، وفي تعاملِكَ عِظَمَ الرسالة،
والبلاغُ يلزمُه مخالطةُ الناسِ والصبرُ على أذاهُم، والخيريّة متحققة فيمن يتحمّلُ ذلك،
قال رسولُ اللهِ ﷺ: “المؤمنُ الذي يُخالِطُ الناسَ ويَصْبِرُ على أذاهُم خيرٌ من المؤمنِ الذي لا يُخالِطُ الناسَ ولا يَصْبِرُ على
أذاهُم”. [رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني]
………………………………
وليعلم الداعيةُ أن قلوبَ الناسِ بيدِ اللهِ.. خالقِهم،
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56]
هذه الآيةُ الكريمةُ نزلتْ في حقِّ أبي طالبٍ عمِّ النبيِّ ﷺ،
الذي أحبَّه النبيُّ حُباً شديداً ودعاهُ إلى الإسلامِ مِراراً، ولكنه ماتَ على الكُفْرِ،
فإذا كان النبيُّ ﷺ – وهو أكرمُ الدعاةِ – لم يستطعْ أن يهديَ عمَّه،
فكيف يتوقَّعُ الداعيةُ أن يقبلَه كلُّ الناسِ ويهتدوا به ويُطيعوه؟!
إذنْ معيارُ نجاحِكَ كداعيةٍ ليس حجمَ الاستجابةِ لكنْ كمالَ الأداءِ،
فأنتَ لا تملكُ مفاتيحَ القلوبِ، ولا تتحكَّمُ في مواعيدِ الهدايةِ.
………………………………
ولتتذكَّرْ- أخي الداعيةَ- أنَّ ثمارَ الدعوةِ قد تتأخَّرُ سنواتٍ بل عقوداً:
عمرُ بن الخطابِ كان من أشدِّ الناسِ عداوةً للإسلامِ، يُخطِّطُ لقتلِ النبيِّ ﷺ،
ثم أسلمَ وأصبحَ خليفة خليفة رسول الله، الفاروقَ الذي فرَّقَ اللهُ به بين الحقِّ والباطلِ.
خالدُ بن الوليدِ قاتلَ المسلمينَ في أُحُدٍ وكان سبباً في استشهادِ سبعينَ من الصحابةِ،
ثم أسلمَ وأصبحَ سيفَ اللهِ المسلولَ الذي لم يُهْزَمْ في معركةٍ واحدةٍ.
وحشيُّ بن حربٍ قتلَ حمزةَ عمَّ النبيِّ ﷺ، ثم أسلمَ وقتلَ مُسَيْلِمَةَ الكذّابَ بنفسِ الرُّمحِ،
وقال: “قتلتُ خيرَ الناسِ في الجاهليةِ، وقتلتُ شرَّ الناسِ في الإسلامِ”. [رواه الطبراني]
فمَن رفضَ دعوتَكَ اليومَ قد يكونُ من حَمَلَتِها غداً، ومَن عاداكَ اليومَ قد ينصرُكَ غداً، والبذرةُ تحتاجُ وقتاً للإنباتِ.
………………………………
والداعيةُ في طريقِه يواجهُ مشاقًا وتحدياتٍ، لها حِكَمٌ ومقاصدُ:
منها، تمييزُ الدعاةِ: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]
فمَن يتوقَّفُ عند أولِ صُدودٍ ليس أهلاً لحملِ الرسالةِ، ومَن ينكسرُ عند أولِ مقاومةٍ لا يستحقُّ شرفَ الدعوةِ.
ومنها، مضاعفةُ الأجرِ والثوابِ للصابرينَ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]،
فلولا الصُّدودُ لما كان هناك صبرٌ، ولولا المقاومةُ لما كان هناك أجرٌ مضاعَفٌ عند اللهِ.
ومنها، إعدادُ الدعاةِ وتهيئتُهم لحملِ أماناتٍ أعظمَ ومسؤولياتٍ أكبرَ،
فالرسالةُ الكبيرةُ لا تُحمَلُ إلا على أكتافِ رجالٍ عظامٍ مُمَحَّصينَ،
والأمانةُ الثقيلةُ لا يَنهضُ بها إلا حَمَلَةٌ أقويَاءُ صابرونَ ثابتونَ.
فالذهبُ الخالصُ لا يَصْفو إلا بالنار الشديدة،
والداعيةُ الصادقُ لا ينضجُ ويكتملُ إلا بالصبر على الابتلاءاتِ والمِحَنِ.
…………………………
ومما يؤنس الداعية، استحضارُ خطابِ اللهِ في كلِّ حالٍ:
إذا شعرتَ بالإحباطِ والإنهاكِ النفسيِّ، فتذكَّرْ قولَ اللهِ لنبيِّه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}
[الكهف: 6]،
أي: لا تُهْلِكْ نفسَكَ كَمَداً وحُزْناً على عدمِ إيمانِهم، فالبلاغُ منك والهدايةُ من اللهِ.
وإذا أصابَكَ الحزنُ والضِّيقُ من صُدودِ الناسِ، فتذكَّرْ مواساةَ اللهِ لنبيِّه: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}
[النحل: 127]، فالداعيةُ المتوازنُ أقدرُ على التأثيرِ والإقناعِ، وأطولُ نَفَساً في طريقِ الدعوةِ، وأعظمُ ثباتاً عند المِحَنِ
والابتلاءاتِ.
وإذا حاولَ الصادّونَ استفزازَكَ وتغييرَ منهجِكَ، فتذكَّرْ توجيهَ اللهِ لنبيِّه: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]،
احتفظْ بطريقتِكَ الحكيمةِ وأسلوبِكَ المتّزن، ولا تَدَعْ أحداً يُخْرِجُكَ عن حِلمِكَ ورَزانَتِكَ.
وإذا رأيتَ أنَّ عمومَ الناسِ خذلوكَ وتخلُّوْا ولا يستحقونَ تضحياتِكَ، فتذكَّرْ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]
أنتَ وريثُ الأنبياءِ، ورسولُ رسولِ اللهِ إلى الناسِ،
وهم – رغمَ كلِّ ما يبدو منهم من صُدودٍ – أحوجُ ما يكونونَ إلى ما معكَ من نورٍ وهدايةٍ ورحمةٍ.
فالسعيَ السعيَ في دعوةِ الخلقِ!
والصبرَ الصبرَ على طريقِ الحقِّ!