رأى بحث تربوي حديث أنّ المدرسة ووسائل الإعلام والمسجد وخطب الجمعة، هي أبرز العوامل المؤثرة في ثقافة الحوار الأسري الإيجابي، بينما تأتي عوامل أخرى بعدها في مستوى التأثير، مثل: الزملاء، والأنشطة الثقافية، ومراكز التدريب والاستشارات الأسرية.
وأشار البحث الذي أعده مركز الملك عبد العزيز للحوار، وشارك فيها أكثر من 5 آلاف شخص، إلى أنه نظرًا لأننا نعيش عصرًا يشهد تحولات كبيرة، ذات انعكاسات عميقة على الأسرة، فإن تنمية مهارات الحَوَار الإيجَابي يُعدّ أمرًا ضروريًّا في بناء ركيزة الأسرة، وتحقيق لغة التواصل بين أفرادها، باعتبارها الحلقة الأكثر أهمية في تضمينها رسائل للذات، تعزز إيجابياتها، وتعالج سلبياتها.
الحوار الأسري في الإسلام
ولقد جعل الإسلام الحوار الأسري بين الآباء وأولادهم هو الركيزة الأساسية في التربية، ويتجلى لنا ذلك في موقف النبي إبراهيم – عليه السلام- حينما حاور ابنه إسماعيل في أمر إلهي وهو يعرف أنه قاضيه لا محالة، لأنه وحي يُوحى وليس أمرًا بشريًّا، وفي ذلك بيان لأهمية الحوار والمناقشة، حيث جعل ابنه إسماعيل – عليه السلام- يفهم لِمَ عليه أن يقوم بما أمر به؟، فقد قال- سبحانه وتعالى- عن إبراهيم وإسماعيل: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ (الصافات: 102).
حاور إبراهيم إسماعيل ابنه – عليهما السلام-؛ ففهم الولد ما طلب منه وامتثل لأمر والده وقبله لأنه أمر الله تعالى، فكان أنّ غير الله الأضحية بكبش بدل إسماعيل – عليه السلام-، وكان يمكن أن يغير الله وحيه لإبراهيم قبل حتى أن يحاور ابنه، ولكن لله حكمة في ذلك، ولعل القصة تبرز قيمة الحوار والمناقشة وأن لها ثمارًا أبلغ بكثير من العند والعنف – والله أعلم-، فحتى وإبراهيم- عليه السلام- كان ينوي ذبح ابنه امتثالًا لوحي الله تعالى، كان رحيمًا في شرحه وقد كان بإمكانه أن يفعل دون أن يستشيره في أمر هو فاعله كيفما كان رده.
وبالحوار كان- النبي صلى الله عليه وسلم- يمتص غضب زوجاته، فقد استأذن أبو بكر – رضي الله عنه- على النبي – صلى الله عليه وسلم- فسمع صوت عائشة – رضي الله عنها- عاليًا، فلمَّا دخل تناولها ليلطمها، وقال: لا أراكِ ترفعين صوتك على رسول الله – صلى الله عليه وسلم-. فجعل النبي يحجزه، وخرج أبو بكر مُغضبًا، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- لعائشة حين خرج أبو بكر: “كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ؟!” فمكث أبو بكر أيامًا، ثم استأذن على رسول الله – صلى الله عليه وسلم، فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما. فقال النبي: “قَدْ فَعَلْنَا، قَدْ فَعَلْنَا” (رواه أحمد وأبو داوود).
وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يحاور الصغار – أيضًا- ويستمع إليهم، ويلاطفهم ويداعبهم، فعن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: “أُتي النبي – صلى الله عليه وسلم – بقدح فشَرِب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم، والأشياخ عن يساره، فقال: “يا غلام، أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟”، قال: ما كنتُ لأوثر بفضلي منك أحدًا يا رسول الله، فأعطاه إياه” (البخاري).
الحوار الأسري أفضل طريق لحل المشكلات
إن حسن إنصاتنا لأبنائنا دون وسيط، مع مراعاة مستويات تفكيرهم وعقولهم، والدخول معهم في حوار قائم على منهج الإقناع والجدل والتفكير والنقد البناء، سيساعدهم في التنفيس عمَّا بداخلهم، ومعرفة مستلزماتهم وحاجاتهم ورغباتهم وطموحاتهم.
لذا، فإن كثيرًا من المشكلات تم تجاوزها وإيجاد الحلول لها، عندما تم اتباع الحوار الأسري أسلوبًا في التعامل والمعالجة، وهذه الطريقة ستقودنا إلى غرس هذه الثقافة والتخاطب معهم بقناعاتهم، عن طريق مهارتي التعبير والإنصات، كونهما تشكلان القناة الأهم في التواصل بين أفراد الأسرة.
في المقابل، فإن إهمال هذا الجانب سيكرّس أحادية الرأي القاطع، وسيصادر الآراء المعارضة، ويخلق شخصية أنانية في التعامل البشري، وبالتالي فإننا لن نستطيع أبدًا أن نتعرف إلى مشكلات أبنائنا، وانحرافاتهم السلوكية والفكرية، ومن ثم معالجتها.
ويرى البحث أنّ بعض الحالات تعاني من مشكلة تدني، أو انعدام ثقافة الحوار داخل الأسرة، وهو ما أفرز حالة الطلاق الوجداني بين أفراد الأسرة، كما عبَّر عنه علماء النفس، أو (الرهاب الاجتماعي)، نتيجة غياب هذه الثقافة، لذا فإن إتاحة لغة الحوار بين الأبناء دون استثناء، سيكون قاسمًا مشتركًا عند تقبل الاختلاف في الآراء، وذلك بالتشاور، والتأني في الحكم.
إن خَلْق علاقات أسرية قوية، وتأطير ثقافة الحوار لديها، هو أسلوب الحياة السائد، في زمن كثرت فيه المغريات، ولن يؤتي أكله إذا لم يكن مشبعًا بقيمه الروحية، والخلقية، والفكرية، والسلوكية، والذوقية. وحتى يكون الحوار مثمرًا لا بد من نشر أسسه بين أبنائنا؛ ليكونوا الأقدر مستقبلًا في تنمية هذه الثقافة، وستكتمل أركان الموضوع، عن طريق مشاركة الجهات ذات العلاقة، كوزارة التربية والتعليم، ووزارة الشؤون الاجتماعية، ووزارة الثقافة والإعلام، في تفعيل ثقافة الحوار، وتجسيد قيمه.
ومن بين النتائج التي خلص إليها البحث بِشأن الحوار الأسري الإيجابي، أن نحو 64% من العينة، أكدوا موافقتهم على أن تكون الأم وسيطًا للحوار مع الوالد، فيما أجمع نحو 70% بوجود تأثير كبير من الأم على رأي الأب في القضايا التي تخص الأبناء، ما يدل على أنّ الأم المتعلمة بشكل جيد، تستطيع إيجاد أرضية مشتركة، وقيمًا مشتركة بين أطراف الأسرة، والتخلص من حالة الأنا، كما تستطيع تشكيل جسر قوي؛ للتواصل بين الأجيال، وتعميق لغة الحوار.
سمو الذات لدى الطفل بالحوار
وأكدت دراسة حديثة للباحثتين، عفراء ابراهيم العبيدي، وإقبال حسين الجبوري بجامعة بغداد، أن الأطفال الذين يمارسون الحوار الأسري في البيت يتمتعون بدرجة عالية من سمو الذات والاستقرار النفسي والشخصية السوية نفسيًّا واجتماعيًّا.
وأوضحت الدّراسة أن الذكور يتساوون مع الإناث في تحقيق سمو الذات نتيجة هذا الحوار، وأن مشاركة الأطفال في سن المرحلة الابتدائية في الحوار والمناقشات لا يقل أهمية عن تلبية احتياجاتهم البيولوجية من طعام وشراب وغيرها من الاحتياجات.
وأشارت إلى أن سمو الذات يمثل أحد التغيرات المهمة في الشخصية، وسمو الإنسان ورقيّه ينتج من توجيه قواه النفسية إلى الخير المُطلق الذي يجعل منه إنسانًا نقيًّا وصافيًا ومتواضعًا، وأن النقاء الفكري يقود الإنسان إلى سمو عقلي عظيم بتطوير الطاقة البيولوجية إلى الطاقة الروحية العظيمة (سمو الذات) التي يحتاجها للسيطرة على انفعالاته والتي تضع نهاية للقلق الذي أصبح ظاهرة اجتماعية تتغلغل في حياة الإنسان وتجعل منه كائنًا يهتم بتحقيق وجوده المادي الظاهري فقط.
وأوصت الدراسة بضرورة العمل على زيادة الاهتمام بالتثقيف والتوعية الأسرية والمدرسية على أهمية هذا النوع من الحوار والتأكيد على دوره في بناء الشخصية السليمة للأبناء، وذلك من خلال وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية.
أخلاقيات الحوار
لا شكّ أنّ الأخلاق عنصر أساسي في السلوك الذي يكتنف الحوار الأسري الإيجابي ويحدد علاقاته وأساليبه ونتائجه بين الأطراف المختلفة، والتربية الحوارية في الإسلام معنية بإكساب القيم والمبادئ الأخلاقية التي تنأى بالمحاور عن الطبائع والسلوكيات الذميمة، وتحرره من سوء الخلق وما يشين لغة الحوار وسلوكيات التخاطب والتعامل مع الآخرين، ومن الطبائع والسلوكيات الذميمة في هذا الخصوص:
1- لغة الشتم والجرح والسب واللعن والقدح والطعن والتطاول والهجاء والألفاظ الجارحة، والبذاءة والخرق والمساس بمشاعر الغير، والتعرض القبيح لما يحترمه الآخرون من أو أشخاص أو رموز. قال صلى الله عليه وسلم: ” ليس المُؤمِنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ”، وقال: “سِباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفرٌ”.
2- السخرية والهمز واللمز والتنابز بالألقاب: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11).
3- الذم وتتبع العورات: قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (الهمزة: 1) والهماز كثير الطعن على غيره بغير الحق، واللماز المتتبع للمعايب والعورات، وقال صلى الله عليه وسلم: “لا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ الْمُسْلِمِينَ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ”.
4- الجهر بالسوء: قال تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (النساء: 148).
5- الكبر والغرور وعدم التواضع: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان :17)، وقال صلى الله عليه وسلم: “لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ”.
6- الإعجاب بالرأي وتزكية النفس: وفي الحديث الضعيف عن أبي ثعلبة الخشني: في قوله- تعالى -: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، فقال: أما والله؛ لقد سألت عنها رسول الله– صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: “بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرا لا بد لك منه؛ فعليك نفسك، ودع أمر العوام؛ فإن وراءكم أيام الصبر، فمن صبر فيهن؛ كان كمن قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله، قال: يا رسول الله: خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم”.
7- الغلظة والفظاظة وفقدان الرفق ولين الجانب: قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159). وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا أحب الله عبدا أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير”.
8- المهاترات ومقابلة السلوك السيئ بمثله: قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 96).
9- الخصومة والحقد والعدوانية والشقاق: قال تعالى: {…رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر:10). إن المؤمن ليس حقودًا ولا يميل للعدوان، ويتجنب ما يدعو إلى الشقاق ويؤثر سلام الحوار لا المواجهة أو الصدام الجارح الذي لا فائدة منه ولا جدوى من ورائه.
المصادر والمراجع:
- العظيم آبادي: عون المعبود على سنن أبي داود، 13/234.
- حوار النبي – صلى الله عليه وسلم- مع الصغار
- تعامل الرسول مع زوجاته .