الروح هي مركز الكيان البشري ونقطة ارتكازه، وهي القاعدة التي يستند إليها وهي المهيمن الأكبر على حياة الإنسان، لذلك كانت ، فبيّن طرق هذه التربية وأساليبها؛ لتحقيق الثمرات، ومنها:
١- الإحساس الحي بالصلة الوثيقة بين الإنسان والكون:
صلة التعاطف والقربى والحب والإعجاب، فالإنسان جزء من هذا الكون وصادر من ذات المصدر الذي صدر منه الكون.. صادر من إرادة الله وهذا التعاطف يحييه القرآن بوسائل متعددة، منها إحياء مشاهد الكون وجعلها تتحرك حركة الأحياء: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)}.
٢- حب الحياة والأحياء:
فإذا أحس الإنسان بالصلة الحية التي تربطه بالكون الجامد لظاهر العين، الحي في حساب الروح، فإنه من باب أولى سيشعر بالصلة الحية بينه و بين الأحياء، التي يشعر بحياتها الحس والروح على السواء. والحديث الدائم عن الأحياء في القرآن، ولفت النظر إليها، سواء في عالم النبات أو الحيوان، ينتج هذا الأثر في النفس، فتحس بعمق الصلة وتولد في الإنسان حبا لكل كائن حي.
وهذا الإحساس – كالإحساس بالصداقة مع الكون الواسع – يعمل عمله في تهذيب النفس وإزالة جفوتها.
وإذا كان الجسم يتخلص من سمومه بطريقة ما، ويمرض إذا تراكمت السموم داخله.. فإن النفس كذلك ينبغي لها أن تطرد سمومها. وليس شيء يزيل سموم النفس كما يزيلها الحب؛ الحب على نطاقه الواسع. الحب لكل شيء ولكل موجود.. وهذا الذي يصنعه الإسلام، ويصنعه القرآن، وهو ثمرة من ثمرات التربية الروحية.
إن العبادة الدائمة لله، والحياة الدائمة في كنفه، والتطلع الدائم إلى رضاه تحدث هذا الشعور الوثيق بالحب لبني الإنسان، فالناس كلهم من خلق الله، إخوة في الخليقة، والناس كلهم من طين الأرض، إخوة في المنشأ، والناس كلهم صائرون إلى الله، إخوة في المصير، والناس كلهم في نفس واحدة، إخوة في الإنسانية، والناس كلهم، أو ينبغي لهم، أن يعبدوا الله، إخوة في الاتجاه.
ومن هنا ينشأ الحب للإنسانية، والصلة بين بني الإنسان، ويروح الإسلام يغذيه بكل توجيهاته وكل تطبيقاته حتى يصبح جزءا من العقيدة حية ممتزجة بالكيان، ذلك الشعور الإنساني النبيل هو مفتاح الحياة الصالحة في الأرض، وهو وصية الله للناس في الأرض، وهو ثمرة العبادة الدائمة والاتصال الدائم بالله.
٣- الاستعلاء على الجسد:
إن دفعة الجسد جزء من الكيان الحي للإنسان جزء مطلوب لذاته، وهو موضع الرضا الكامل، لا الكبت والاستقذار، ولكنه مع ذلك حين يترك وحده يهبط بالإنسان عن مستواه اللائق بخليفة الله في الأرض، يهبط به إلى مستوى الحيوانية، فتستعبده الشهوة، فلا يملك نفسه منها، ولا يستطيع تحررا ولا انطلاقا.
وليس في هذه العبودية سعادة للإنسان نفسه، بصرف النظر عن الآفاق العليا التي يعجز عن التحليق فيها، والتبعات الجسام الملقاة على عاتق الإنسان. ليس فيها سعادته لأن سعار الشهوات لا يهدأ، ولا ينطفئ ولا يكف عن الإحراق.
من أجل ذلك يعمل الإسلام على موازنته لا كبته بإطلاق الروح في ملكوت الله، وصلة القلب الدائمة به، فينخلع الإنسان قليلا من تشبثه بالأرض، ونشوة القلب تخفف قليلا من ثقلة الجسم؛ فيحس الإنسان بخفة في كيانه فإذا خطواته رشيقة وحركته إلى الخير سريعة، وهذه أيضا ثمرة من ثمرات التربية الروحية.
٤- الاستعلاء على قوى الأرض:
فما وزن هذه القوى الأرضية كلها بإزاء قوة الله؟ لا شيء. لا شيء على الإطلاق، وإذن فلا عبودية لقوة من قوى الأرض، ولا ذلة ولا استكانة ولا خنوع.
كل قوة على الأرض إما أن تكون مهتدية بهدي الله مستمدة من نهجه وهداه. وإذن فهي حق. وإذن فينبغي أن تسانَد بكل ما في طاقة الإنسان.
وإما أن تكون ضالة منحرفة عن الله، خارجة على نهجه مستكبرة على هداه، وإذن فهي باطل ينبغي أن تجاهَد بكل ما في طوق الإنسان من جهاد.
ولا هدنة بين الحق والباطل إنما الجهاد الدائم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، جهاد تراعَى فيه كل مبادئ الإنسانية كما رسمها خالق الإنسان، ولكنه جهاد و استعلاء، لا ضعف ولا هوان: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139).
في صميم عقيدة المؤمن أنه خير من كل قوة فاسدة على الأرض وأقوى من كل قوة فاسدة على الأرض؛ أقوى ولو ضعفت قوته المادية أمام الباطل، أقوى ولو انهزم، أقوى ولو غلب على أمره، أقوى بروحه المتصلة بالله، وأعز بروحه المهتدية بهداه.
وهذا الاستعلاء على الباطل، وهو عنصر أصيل في العقيدة الإسلامية والتربية الإسلامية، هو ثمرة من ثمار العبادة الدائمة والصلة بالله. ثمرة قد تجيء دفعة واحدة، وقد تجيء رويدا رويدا وتتمكن، ولكنها عنصر أصيل لا يكون بدونه إيمان.
٥- استمداد القوة من الله:
استمداد القوة من الله تجاه القوى المادية التي تظن النظرة القصيرة أنها هي الواقع الحق وكل ما عداها أباطيل؛ القوى الاقتصادية، والقوى الاجتماعية، والقوى السياسية، والقوى المادية كلها حقائق. ولكنها حقائق صغيرة هزيلة، ليست لها حتمية وليس في يدها وحدها تقرير الأمور، والعقيدة الحية تستطيع أن تصارعها كلها وتتغلب عليها وتوجهها الوجهة الصحيحة.
حين وقف أبو بكر في حروب الردة وحده، من كان يسنده من كل قوى الأرض؟
الجيوش لا تريد أن تحارب، والأفكار تجزع من حدوث الصدام، وأبو بكر وحده، حتى من عمر بن الخطاب، أعنف الناس حماسة في الجاهلية وفي الإسلام، فكيف وقف أبو بكر وانتصر، وضم إلى صفه قوة الجيوش وقوة الأفكار؟ هل شيء هو غير الإيمان؟
هل شيء هو غير تلك الطاقة الروحية العجيبة التي رباها الإسلام، والتي كانت أوثق الطاقات الروحية صلة بنبي الإسلام: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}؟ ومن ثم صمدت وحدها وغيرت الميزان؟
خاتمة
من أجل ذلك يحرص الإسلام على هذه الطاقة الروحية ويضعها في المقام الأول؛ لأنها – في حقيقة الأمر – هي التي تنشئ الواقع المادي وتشكل ظروفه. هي التي تهدم وتبني، وتثبت وتمحو، هي الجوهر الحق، والمادة مجرد کساء.
وتلك طريقة الإسلام في التربية الروحية؛ طريقة عميقة محيطة شاملة، توقع على كل وتر، وتلمس كل جانب حي، طريقة تشمل النشاط البشري كله وتحيط به من كل جانب.
وهي مهمة دائمة لا تسكن في نهار أو ليل، وإنما تصاحب الإنسان في كل عمل يعمله وكل سلوك يسلكه، بل تصاحبه في داخل نفسه، وتؤنس مشاعره وتشع عليه من نور الله.
المصدر: مختصر من كتاب منهج التربية الإسلامية للأستاذ محمد قطب.