إن الأثرة الغالبة آفة الإنسان وغول فضائله، إذا سيطرت نزعتها على امرئ محقت خيره ونمّت شره وحصرته في نطاق ضيق خسيس لا يعرف فيه إلا شخصه، ولا يهتاج بالفرح أو الحزن إلا لما يمسه من خير أو شر، أما الدنيا العريضة والألوف المؤلفة من البشر فهو لا يعرفهم إلا في حدود ما يصل إليه عن طريقهم ليحقق آماله أو يثير مخاوفه!
ومن هنا كانت من واجبات المربي في التربية الإسلامية أن يغرس في نفوس إخوانه شعورهم بالانتماء إلى هذه الأمة العظيمة أتباع النبي الخاتم أمة الإسلام يفرح لفرحهم ويتألم لآلامهم، ومن وسائله في ذلك أن يبين لهم منزلة الاهتمام بأمور المسلمين في الإسلام، وأن ذلك لازمة من لوازم الإيمان وأنه لا إيمان بلا أخوة؛ مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ…} [الحجرات: 10]
منزلة الاهتمام بأمور المسلمين من الدين
إن الاهتمام بشئون المسلمين وأمورهم من أهم الأمور التي يقوم عليها الدين، وكما ورد في الأثر: “من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”. “السلسلة الضعيفة” للشيخ الألباني (رقم/309-312).
ولهذا الأثر شواهد من الكتاب والسنة تدعو المؤمنين إلى التحابب والتراحم، ومراعاة الأخوة الإيمانية فيما بينهم، مثل الآية المذكورة آنفا، وقوله صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى” رواه البخاري (6011) ومسلم (2586).
وقال صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ. قالوا: لِمَن يا رسولَ للهِ؟ قال: للهِ، ولكِتابِه، ولنَبيِّهِ، ولأئمَّةِ المؤمِنينَ وعامَّتِهم”. (أخرجه مسلم (55)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تحاسَدُوا، ولا تناجَشُوا، ولا تباغَضُوا ولا تدابَرُوا، ولا يبِعْ بعضُكمْ على بيعِ بعضٍ، وكُونُوا عبادَ اللهِ إخوانًا، المسلِمُ أخُو المسلِمِ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ، ولا يَحقِرُهُ، التَّقْوى ههُنا – وأشارَ إلى صدْرِهِ – بِحسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ المسلِمَ، كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ، دمُهُ، ومالُهُ، وعِرضُهُ”.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ” رواه الشيخان. وقال أيضا: “الْمُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ، مَن كانَ في حاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه بها كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ.” رواه مسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: “وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ”.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مؤكداً هذا المعنى: ليس الإسلام رابطة تجمع بين عدد قل أو كثر من الناس فحسب، ولكنه جملة الحقائق التي تقرر العلاقة الصحيحة بين الناس وربهم ثم بين الناس وبعضهم، ومن ثم فأصحاب الإسلام وحملة رسالته يجب أن يستشعروا جلال العقيدة التي شرح الله بها صدورهم وجمع عليها أمرهم، وأن يولوا التعارف عليها ما هو جدير به من عناية وإعزاز، وبذلك يصير الدين الخالص أساس أخوة وثيقة العرى تؤلف بين أتباعه في مشارق الأرض ومغاربها، وتجعل منهم على اختلاف الأمكنة والأزمنة سامقة البناء لا تنال منها العواصف الهوج.
وهذه الأخوة هي روح الإيمان الحي ولباب المشاعر الرقيقة التي يكنها المسلم لإخوانه حتى إنه ليحيا بهم ويحى لهم فكأنهم أغصان انبثقت من دوحة واحدة أو روح واحد حل في أجساد متعددة.
الاهتمام بأمور المسلمين من لوازم الإيمان
الاهتمام بأمر المسلمين والتراحم فيما بينهم من لوازم الإيمان، فإن من أهم صفات المؤمنين {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}: يقول الحق سبحانه وتعالىواصفاً ذلك الطراز الرباني سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم جميعاً : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ …} [الفتح: 29].
والرحمة بين المؤمنين ليست وليدة أمزجة أو موروثات عصبية أو اجتماعية، ولكنها وليدة الإيمان الذى يوجه المشاعر والعواطف ويعلم الشخص الواحد متى يكون شديداً ومع من؟ ومتى يكون رحيماً ومع من؟.
كما تتبوأ الرحمة مكانة عليا فى أخلاق الإسلام، وهى كذلك فى خلق الفرد وحياة الجماعة، فهى صفة لن يتم الإيمان إلا بها فعنه صلى الله عليه وسلم قال: “لَنْ تُؤْمِنُوا حتى تراحمُوا” رواه الطبراني، وهى طريق إلى رحمة الله: “مَن لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ”. وفى الحديث المشهور: “الرَّاحِمونَ يَرحَمُهمُ الرحمنُ، ارحَموا مَن في الأرضِ يَرحَمْكم مَن في السَّماءِ”.
كذلك من حق أخيك عليك أن تكره مضرته وأن تبادر إلى دفعها فإن مسه ما يتأذى به شاركته الألم وأحسست معه بالحزن، أما أن تكون ميت العاطفة قليل الاكتراث لأن المصيبة وقعت بعيدا عنك والأمر لا يعنيك؛ فهذا تصرف لئيم، وهو مبتوت الصلة بمشاعر الأخوة الغامرة التي تمزج بين نفوس المسلمين فتجعل الرجل يتأوه للألم ينزل بأخيه، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى” (رواه البخاري).
والتألم الحق هو الذي يدفعك دفعا إلى كشف ضوائق إخوانك فلا تهدأ حتى تزول غمتها وتدبر ظلمتها، فإذا نجحت في ذلك استنار وجهك واستراح ضميرك.
إن أعباء الدنيا جسام والمتاعب تنزل بالناس كما يهطل المطر يهمر الخصب والجدب، والإنسان وحده أضعف من أن يقف طويلا تجاه هذه الشدائد ولإن وقف إنه لباذل من الجهد ما كان في غنىً عنه لو أن إخوانه هُرعوا لنجدته وظاهروه في إنجاح قصده، وقد قيل: “المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه”.
القاعدة التي تسوَّى بها الصفوف
إن القاعدة التي تسوى بها الصفوف تسوية ترد المتقدم إلى مكانه وتقدم المتأخر عن أقرانه هى الأخوة؛ فإذا نشب نزاع أو حدث هرج ومرج طبقت قوانين الإخاء على الكافة ونفذ حكمها قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10).
والاتحاد قوة وليس في شئون الناس فقط، إنه قانون من قوانين الكون، فالخيط الواهي إذا انضم إليه مثله أضحى حبلا متينا يجر الأثقال، وهذا العالم الكبير ما هو إلا جملة ذرات متحدة!
وقد شرح حكيم لأولاده هذا المعنى عند وفاته ليلقنهم درسا في الاتحاد؛ فقدّم إليهم حزمة من العصى قد اجتمعت عيدانها فعجزوا عن كسرها فلما انفك الرباط وتفرقت الأعواد كسرت واحداً واحدا:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا
ولو عقل المسلمون أحوالهم في هذه المرحلة العصيبة من تاريخهم لأحسوا أن ما لحقهم من عار يعود إلى انحلال عراهم وتفرق هواهم.
إن الهجوم الصليبي المعاصر والهجوم الصهيوني الذي جاء في أذياله لم ينجحا في ضعضعة الدولة الإسلامية وانتهاب خيرها إلا عقب ما مهدا لذلك بتقسيم المسلمين شيعا منحلة واهية ودويلات متدابرة يثور بينها النزاع وتتسع شقته لغير سبب، وسياسة الغرب في احتلال الشرق وتسخيره تقوم على قاعدة: (فرّق تسد).
إن الإسلام حريص على سلامة أمته وحفظ كيانها، وهو لذلك يطفئ بقوة بوادر الخلاف، ويهيب بالأفراد كافة أن يتكاتفوا على إخراج الأمة من ورطات الشقاق، وأعداء الإسلام يودون أن يضعوا أيديهم على شخص واحد ليكون طرفا ناتئا يستمكنون منه ويجذبون الأمة كلها عن طريقه. (خلق المسلم – للشيخ محمد الغزالى)
من حق الأخوة أن يشعر المسلم بأن إخوانه ظهير له في السراء والضراء، وأن قوته لا تتحرك في الحياة وحدها، بل إن قوى المؤمنين تساندها وتشد أزرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا” (أخرجه الشيخان).
ومن ثم كانت الأخوة الخالصة نعمة المضاعفة لا نعمة التجانس الروحي فحسب، بل نعمة التعاون المادي كذلك وقد كرر الله عز وجل ذكر هذه النعمة مرة ومرة في آية واحدة: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران: 103).