تُعدّ الألفة بين المسلمين من نعم الله تعالى على خلقه، فهي السبيل إلى تحقيق الأخوة الإيمانية، وإصلاح حال الناس فيما بينهم، وسبب لدخول غير المسلمين في الإسلام، وتزيد الترابط والتواصل، وترفع الكلفة المذمومة بين الناس، وسببٌ في الاجتماع على الخير والقوّة فيه، وتشيع روح المحبة والمودة بين المسلمين.
وتزيل الأُلفة أسباب الفرقة والعداوة بين الناس، وتعمل على توحيد صفّ المسلمين، وسببٌ في محبة الله للعبد، ثمّ محبّة الناس له، وهي علامةٌ من علامات حسن الخلق، ومصدرٌ للسرورِ والرَّاحة النفسية؛ فالإنسانُ بطبيعتِهِ كائن اجتماعي يحتاج إلى معاشرة غيرِه والشعورِ بالانتماءِ.
مفهوم الألفة في الإسلام
ويقول ابن منظور عن الألفة في اللغة، يُقال: ألِفته إلْفًا- من باب عَلِمَ- وأَلفْتُه أنِسْت به، ولزِمته وأحببته، والاسم الأُلفَة بالضمِّ، وأيضًا اسم من الائتلاف، وهو الالتئام والاجتماع. فهو مُؤْلَفٌ ومأْلُوفٌ، وأَلَّفْتُ بينهم تأْلِيفًا إذا جَمَعْتَ بينَهم بعد تَفَرُّقٍ .
وفي الاصطلاح، قال الرَّاغب- رحمه الله-: “الإلْفُ: اجتماع مع التئام، يقال: أَلَّفْتُ بينهم، ومنه: الأُلْفَة”.
وقال الكوراني: “الوِئامُ والإيناسُ ضِدُّ الوَحشةِ والنُّفرةِ”، وعرفها العيني بقوله: “الأُنسُ والمُداراةُ، ورعايةُ بَعضِهم بعضًا، وعَدَمُ الخُلفِ”. وقال الجرجاني: “اتِّفاقُ الآراءِ في المعاوَنةِ على تدبيرِ المعاشِ”.
وحثّ القرآن الكريم على الألفة بين المسلمين، فقال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: 103]، وقال- سبحانه وتعالى-: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].
وفي السُّنَّة النَّبويَّة، جاء عن جابر- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “المؤمن يأْلَف ويُؤْلَف، ولا خير فيمن لا يأْلَف ولا يُؤْلَف” (الطبراني وصححه الأباني).
وعن عوف بن مالك عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “خيار أئمتكم: الذين تحبُّونهم ويحبُّونكم، ويصلُّون عليكم، وتصلُّون عليهم، وشرار أئمتكم: الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم” (مسلم).
وقال أبو حامد الْغَزالِي في الإحياء: “الأُلْفَة ثَمَرَة حُسْن الخُلُق، والتَّفرق ثَمَرَة سوء الخُلُق، فَحُسْن الخُلُق يُوجب التَّحبُّب والتَّآلف والتَّوافق، وسُوء الخُلُق يُثمر التَّباغض والتَّحاسد والتَّناكر”.
ويقول الأبشيهي: ألفة (خلق) التَّآلف سبب القوَّة، والقوَّة سبب التقوى، والتَّقوى حصنٌ منيع وركن شديد، بها يُمْنَع الضَّيم، وتُنَال الرَّغائب، وتنجع المقاصد.
وفي أدب الدنيا والدين، قال الماورديُّ: “الإنسان مقصود بالأذيَّة، محسود بالنِّعمة، فإذا لم يكن آلفًا مألوفًا تخطَّفته أيدي حاسديه، وتحكَّمت فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تَصْفُ له مُدَّة، فإذا كان آلفًا مألوفًا انتصر بالأُلْفَة على أعاديه، وامتنع مِن حاسديه، فسَلِمت نعمته منهم، وصَفَت مُدَّتُه عنهم، وإن كان صفو الزَّمان عُسْرًا، وسِلمُه خَطَرًا”.
وسائل تربوية لاكتساب الألفة
وأسباب اكتساب الألفة بين المسلمين وتقوية الروابط والعَلاقات بينهم كثيرة، نذكر منها:
- التَّعارف ومعاشرة النَّاس: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “الأرواح جنودٌ مجنَّدة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف” (البخاري ومسلم).
- الكلام اللَّين: فهو مِن الأسباب التي تؤلِّف بين القلوب، قال تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) [الإسراء: 53].
- التَّعفُّف عن سؤال النَّاس: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “وازهد فيما في أيدي النَّاس يحبَّك النَّاس” (ابن ماجه والحاكم وصحَّحه الألباني).
- التَّواضع: فخفض الجنَاح ولين الكَلِمَة وتَرْك الإغلاظ مِن أَسبَاب الأُلْفَة واجتماع الكَلِمَة وانتظام الأَمر ولهذا قال المناوي: “مَن لانت كلمته وجبت محبَّته وحَسُنَت أُحدُوثته، وظمئت الْقُلُوب إلى لقائه وتنافست في مودته”.
- القيام بحقوق المسلمين والالتزام بها: عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “حقُّ المسلم على المسلم خمسٌ: ردُّ السلام، وعيادة المريض، واتِّباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس” (البخاري ومسلم).
- إفشاء السَّلام: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “يا أيُّها النَّاس أفشوا السَّلام، وأطعموا الطَّعام، وصِلوا الأرحام، وصَلُّوا باللَّيل والنَّاس نيام؛ تدخلوا الجنَّة بسلام” (الترمذي).
- زيارة المسلم وعيادته إذا مرض: فزيارة المسلم لأخيه المسلم تبعث على الحبِّ والإخاء، ولا سيَّما عند المرض، مع ما أعده الله من الأجر والثواب له قال- صلى الله عليه وسلم-: “مَن عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله، ناداه منادٍ بأن طبتَ وطاب ممشاكَ، وتبوَّأتَ مِن الجنَّة منزلًا”. (الترمذي وابن ماجه وحسَّنه الألباني).
- السَّعي للإصلاح بين النَّاس: قال تعالى: (فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ) [الأنفال: 1].
- الاهتمام بأمور المسلمين والإحساس بقضاياهم، قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “المؤمنون كرجُل واحد، إذا اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهر” (مسلم).
- التَّهادي: لا شكّ أنّ تقديم الهديَّة يزيد مِن الأُلْفَة والمحبَّة والتَّقارب بين المُهدِي والـمُهْدَى إليه، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- عن النَّبيِّ- صلى الله عليه وسلم- قال: “تهادُوا تحابُّوا” (البخاري).
فوائد الألفة
وتتعدد فوائد الألفة والمحبة بين المسلمين، منها:
- سبب لمحبة الله تعالى.
- داعية إلى تماسك الأُمة وترابطها وقوتها.
- تجمع الشمل وتمنع الذل.
- سلامة الصدورِ من الشحناء والتباغض والعداوة.
- سلامة البيوت من الشقاقِ والنزاعِ والخلافات، وتربية النشء في ظل حياة مستقرة.
- الشعور بالطمأنينة والأمانِ وراحة البال.
- خير في العاقبة والآجلة.
- حصول المودة بين المسلمين.
- سبب التعاونِ والتناصرِ والقوة.
- من أسباب النصرِ والتمكينِ.
- عِصمةٌ من الفشل والضعف الناتجين عن التنازعِ والتفرقِ.
- امتثال ما أمر الله به ورسوله من الاجتماعِ والأُلفة.
الألفة عبادةٌ ووسيلةٌ يتقرّب بها العبد من ربّه- عزّ وجلّ-، كما يؤدي المسلم سائر العبادات؛ من صلاةٍ، وصيامٍ، وحجٍّ، ودعاءٍ، وغيرها، وهي نعمةٌ من الله، ومنحةٌ منه؛ لِما يترتّب عليها من الأجر العظيم في الدُّنيا والآخرة، وقد دلّت على ذلك العديد من النُّصوص في كتاب الله، وسنّة نبيّه- صلّى الله عليه وسلّم-، وهي تزيد القدرة على دفع الأهواء، ونَبْذ الخلافات، وردّ المكائد؛ فالمجتمع المسلم يكون كالجسد الواحد، والبنيان المرصوص الذي يشدّ بعضه بعضا.
مصادر ومراجع:
- ابن منظور: لسان العرب 9/10.
- الأزهري: تهذيب اللغة 15/ 273.
- الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص 81.
- الكوراني: الكوثر الجاري 8/366.
- العيني: شرح سنن أبي داود 4/244.
- الجرجاني: التعريفات، ص 34.
- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 2/157.
- الأبشيهي: المستطرف، ص 130.
- المناوي: التيسير بشرح الجامع الصَّغير 434/1.