ضَرَبَ الله- سبحانه وتعالى- مثلًا في القرآن الكريم بقصّة أصحاب الأيكة وجعل لنا فيهم عبرة وتذكرة، بأنه مهما بلغ الإنسان من العلو في الأرض، فإنّ الله قادر على أن يُهلكه في لحظة إن هو كفر به وعصاه، حيث اجتمع على هذه القبيلة ألوان العذاب، نتيجة كفرهم بالله والاستهزاء بنبيّه شعيب- عليه السلام.
ولقد تعدّدت الصّفات الذميمة لهؤلاء القوم، فكانوا يظلمون، ويشركون بالله، ويبخسون حقوق الناس بالغش والحِيَل، ويعتدون على الأنفس والأعراض، وينشرون الفاحشة والآثام، ويعملون على إفساد أخلاق المجتمع، ويسعون في صد الناس عن أبواب الخير والاستقامة وهدم العمران بالجهل، فبعث الله- عز وجل- شعيبًا لهم، ليدعوهم إلى عبادة الله وحده، وإلى الأخلاق الحسنة، وعلى الرّغم من اتباع شعيبٍ اللينَ واللطف في دعوته، فإنهم قابلوا ذلك باستعلاء وقسوة، وقالوا: (يَا شعَيْب مَا نَفْقَه كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا).
من هم أصحاب الأيكة؟
ووفقًا لكثير من المصادر، فإنّ أصحاب الأيكة هم قبيلة كانت تسكن في شمال غرب الجزيرة العربية وكانوا من العرب القدماء، وآثار منازلهم في مدينة البدع بالمملكة العربية السعودية، وأُطلق عليهم هذا الاسم، لأنهم كانوا يعبدون شجر الأيك، واشتهروا بأنهم رعاة للغنم، وكان منهم تجار معروف عنهم الغش في الأوزان.
ويرى علماء ومفسرون، أن استعمال القرآن لهذا الاسم، يشير إلى النعم التي أعطاها الله لهم، فالأيكة هي الشجرة، والأيك الشجر الملتف الكثيف، وقد وصفت أرض مدين قديما بكثافة أشجارها وبساتينها، ولكنهم استبدلوا الكفر بالشكر، وأقاموا صرح الظلم والاستبداد.
قال قتادة: إنهم كانوا أهل غيضة وشجر وكانت عامة شجرهم الدوم، وعاشوا في بلدة مليئة بالماء والأشجار بين الحجاز والشام، وكانت حياتهم مُرفّهة ثرية فأُصيبوا بالغرور والغفلة، فأدى ذلك إلى الاحتكار والفساد في الأرض.
وقد بدأ سيدنا شعيب- عليه السلام- في وعظهم ونهيهم عن الكفر بالله وارتكاب المحرمات، وكان يستخدم معهم أسلوب الترغيب تارة والترهيب تارة أخرى، فأخبرهم بأنهم لو آمنوا فسيرزُقهم الله في الدنيا ويقيهم من عذاب الآخرة، وإن لم يفعلوا فسوف يخسرون النعم التي رزقهم الله بها في الدنيا وسيُعذبون في الآخرة.
لكنهم لم يستمعوا لكلامه، بل قابلوا نُصحه لهم بالاستهزاء والعصيان، والأدهى من ذلك أنهم كانوا يُهددون ويتوعدون كل مَن اهتدى إلى ما يدعو إليه شعيب، ما دفع العديد من القوم إلى تركه ودينه خوفًا من بطش وجبروت هؤلاء الظالمين.
وظل سيدنا شعيب يُحاول معهم ويستخدم أسلوب اللين، لكنه لم يجد نفعًا، وظلّوا في ضلالهم وإعراضهم عن الحق، فدعا عليهم، واستجاب الله- سبحانه وتعالى- لدعائه، فأنزل عليهم ثلاثة أنواع من العذاب، حيث أصابهم بالرّجفة والزلزلة، فقال تعالى: (وَقَالَ الملأ الذين كَفَرواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتم شعَيْبًا إِنَّكمْ إِذاً لخاسرون * فَأَخَذَتْهم الرَّجْفَة فَأَصْبَحوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [الأعراف: 90-91].
وعذّبهم الله بالصيحة، فقال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرنَا نَجَّيْنَا شعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنوا مَعَه بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَموا الصَّيْحَة) [هود: 94]، وبعذاب يوم الظلة، وتمثل هذا العذاب في أنّ الله تعالى جعلهم يُعانون الحر الشديد لمدة سبعة أيام، قال تعالى: (فَأَخَذَهمْ عَذاب يَوْمِ الظلَّةِ إِنَّه كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء: 189].
دروس وعبر من قصة أصحاب الأيكة
ومن خلال النظر في قصة أصحاب الأيكة وسردها نجد العديد من الدروس المستفادة، نذكر منها:
- أن الشرك بالله ظلم عظيم، وهو سبب رئيس لغياب عنصر الرقابة في تعديل السلوك الإنساني، لذا فإنّ الإنسان مُراقب في عمله، وأنّ هذا العمل هو سبب سعادته في الدّارين، وهو مُحاسب عليه في الدنيا والآخرة.
- تغييب دور العبادة عن الحياة هو سلوك خاطئ، ولا بُد من أن يكون للصلاة دور مُهم في تعديل السّلوك الإنساني، خصوصًا المكاييل، والاحتكام إلى المعايير التي يتواضع عليها الناس وتُقرها الشريعة.
- مهما بلغ الاستهزاء بأنبياء الله وأوليائه والداعين له؛ فإن لهم العاقبة والنجاة.
- جزاء الإحسان هو الإحسان وجزاء العدل والأخلاق الحميدة هو العلو في الدنيا والفوز بالآخرة.
- ظلم الناس وأكل حقوقهم والبخس بالكيل والميزان عذابه واقع في الدنيا لا محالة كما الآخرة.
- لا سُلطة فوق سلطة الخالق ولا قوة فوق قوته وسيعود لكل ذي حق حقه ولو بعد حين.
- قوة الله غالبة على أمر الناس، واستقوائهم على الضعفاء تجلب الوبال في الدنيا والآخرة.
- الاحتكام إلى الحق والعدل هو المعيار الضابط لاستقامة الحياة، وليس الاحتكام إلى الأغلبية والقوة المادية لظلم الناس، والاستقواء عليهم وأكل حقوقهم لتجنب عذاب الله في الدنيا والآخرة.
- الأغلبية الجاهلة لا تكون على حق، وأن الرأيَ الواحد الراشد يكون على الحق.
- الاحتكام إلى المنهج العقلي، وفهم الوجود بشقيه الشهادة والغيب، والربط بين أفعال الإنسان وسلوكه، وفهم السنن الاجتماعية التي تحكم سير الإنسان، سببا رئيسا لسعادته في الدارين.
- غياب الربط بين المقدمات والنتائج يؤدي إلى الهلاك كما في الأمم السابقة.
- شكر الله على نعمته سبب لدوامها.
- تذكرنا القصة بأن الأنبياء دعواتهم مستجابة.
ركائز دعوة شعيب
ودعا شعيب- عليه السلام- أصحاب الأيكة إلى عبادة الله وحده، والبعد عن التكبر والفساد في الأرض، وَفق ركائز أساسية، وهي:
- المعرفة الجيدة لقومه: فكان يعلم عقيدتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، وكان في دعوته لهم يُبيّن لهم نقاط الفساد والضلال بدقة ثم يوجههم نحو الحق ويبين لهم الدليل عليه.
- الأسلوب المؤثر: حيث اتبع شعيب- عليه السلام- منهجًا مؤثرًا، ليكسب قلوب قومه ومودتهم ويُشعرهم بالألفة، من ذلك مناداتهم بشيء محبب لهم مثل: (يَا قَوْمِ)، ومعاملته لهم بحُسن الخُلُق واللين، موضحًا لهم أنه يريد لهم الخير والفوز والصلاح، قال تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88].
- تكامل المنهج: فكان شعيب- عليه السلام- في دعوته يركز على التوحيد، وعلى أمور تتعلق بالأخلاق والمعاملات ليوصل إلى قومه رسالة بأن المنهج الإلهي هو منهج متكامل.
لقد كانت قصة أصحاب الأيكة من الأمثلة التي ضربها الله- سبحانه وتعالى- عن القوم الذين تكبروا وتجبروا في الأرض، رغم النعم الكثيرة التي وهبهم الله إياها، ورغم النبي الذي أرسله إليهم يدعوهم إلى طريق الله المستقيم باللين والحكمة، ومع ذلك رفضوا واستمروا في طغيانهم يعمهون، فكان مصيرهم الهلاك في الدنيا، وفي الآخرة لهم عذاب أليم.
مصادر ومراجع:
- راندا عبد الحميد: قصة أصحاب الأيكة.
- محمد سالوم: قصة أصحاب الأيكة قوم مدين.
- زين عميرة: قصة أصحاب الأيكة.
- هشام المنشاوي: أصحاب الأيكة أخذهم الله بظلمهم وضلالهم.
- هدير محمد: من هم أصحاب الأيكة “قوم مدين”؟