بقلم: مخلص برزق
إنَّه حديث الإتقان والجودة، وهل تقوم حضارة دون إتقان للعمل وحرص على أعلى مراتب الجودة لكل دقائق العمل في كل مراحله وتفاصيله.. وهل كبت أمتنا وتخلفت عن ركب الحضارة إلا بعد أن تساهل أبناؤها –أو بعضاً منهم- في ضبط أعمالهم وإتقانها وتحرّي موافقتها التامة لكتاب الله وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم اللذان يعطيانها هويتها المميزة لها. ومادام الأمر كذلك فإنه يستحق إذاً التنويه والتنبيه والتحذير والوعيد والتهديد. تأمل معي تلك المعاني الخفية لهذا الحديث: عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويلٌ للأعقاب من النار)). (متفق عليه)
الأعقاب: جمع عقب وهو مؤخر القدم، والقدمين هما آخر الأعضاء التي يشملها الوضوء، والأعقاب هي آخر شيء في الأقدام.
للوهلة الأولى يظن البعض أنَّ هذا الحديث قاصر في معناه على مسألة فقهية يمكن حصرها في باب من أبواب الطهارة، وعليه فالكثير منا يغلق بابه عن تدبر المعاني العظيمة والمفاهيم الراقية التي تحويها كلمات الحديث والتي تحتاج بحق إلى مصنفات وكتب ودراسات لإبراز ما فيها من درّ مكنون.
وهنا لابد لنا من التأكيد على ضرورة الاستغراق في الدقائق المتعلقة بالحديث لرؤية الهالة النورانية المحيطة به، واقتفاء شذرات الذهب المتناثرة من حروفه، فالحديث ليس مجرَّد أوامر أو نواهٍ أو كلمات جافة مجرَّدة، إنَّه قصة حية تنبض بالحياة وترانيم يتردد صداها عبر الزمان وفيوض نورانية تضيء بها الأرواح المؤمنة.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدر تهديداً ووعيداً شديد اللهجة.. فلمن يوجهه وما هو الجرم الذي ارتكبه أولئك المعنيون به؟
هب أنك اعتنيت بغسل كفيك ووجهك وبالغت في الاستنشاق وتحريت وصول الماء لمنابت الشعر وأعلى المرفقين وقطعت شوطاً وأنت تتحرى الدقة في وضوئك. حتى إذا وصلت للمرحلة الأخيرة وغسلت أصابع رجليك وتحريت تخليل الماء بينها كما فعلت من قبل في أصابع يديك، ثم ماذا؟
ثمَّ تراخت يديك وقصرت همتك عن إتمام ما فعلته على أحسن وجه وحدثتك نفسك بأنك قد أتممت وضوءك تقريباً إلا قليلاً.. لقد وصلت إلى نهاية المطاف فسمحت لنفسك أن تمرر الماء سريعاً على رجليك دون اعتناء بِدَلْكِها للتأكّد من وصول الماء إلى ما تبقى من أجزائها خاصة ذلك العقب البارز للوراء..
إنَّه الذي يصيب الكثير من أعمالنا، أننا نبدأ بداية جامحة نتحرى فيها كل مقاييس النجاح والإتقان، ثمَّ ما نلبث أن نصاب بالترهل والكسل والفتور والعجز عن إتمام العمل بالإتقان المطلوب فتكون النتيجة ثمرة شوهاء وعمل منقوص وأساس واهٍ ضعيف لا يمكن أن يبنى عليه بناءٌ يعتد به.
إنَّه تنبيه نبوي تربوي لنا أن نتحلّى بإتقان العمل في كل مراحله، الإتقان .. تلك العملة الصعبة النادرة في هذا الزمان، إنه توجيه نبوي فريد بأن نتحلى بعزيمة نختم بها العمل كما بدأناه، أن يكون لنا نفس طويل نرقب فيه خواتيم أعمالنا كما نرقب بداياته فنعتني بالخواتيم أكثر مما نعتني بالبدايات فإنما الأعمال بخواتيمها.. ونحن أولى بالفوز في نهاية المضمار من الجياد الأصيلة التي تعي أن عليها أن تضاعف جهدها في أواخر السباق لتفوز فيه!
ستقول: إنَّ ذلك الأمر يتعلق بجزئية دقيقة.. فلماذا كل ذلك التهويل والتخويف الذي تحويه كلمات الحديث؟ والجواب أننا نغفل كثيراً عن البدايات كما أننا نغفل عن النهايات، فنهاية الوضوء توصلنا إلى بداية طاعة أعظم وهي الصلاة، ففساد نهاية الوضوء يفسد بدايته ويترتب على ذلك فساده وبطلانه وذلك يؤدي تلقائياً إلى فساد وبطلان ما يبنى عليه وهو الصلاة فيتضاعف المصاب وتكبر المصيبة.
الأعقاب والصلاة
إنَّ من دلالات هذا الحديث ترسيخ مكانة الصلاة في النفوس، فعنه يقول العلماء: إذا كان هذا الوعيد فيمن ترك جزءاً من الرِجل، فكيف بمن ترك الرِجل بكاملها؟ وكيف بمن ترك الوضوء وعدل إلى التيمم دون عذر؟ وكيف بمن ترك الصلاة والوضوء بالكلية؟ نسأل الله السلامة والعافية.
ومن تحرَّى الإحسان في وضوئه حتى يختمه على خير وجه كان حريّاً به أن يتنبه إلى سني عمره فلا يغترّ بما قدمه من عمل صالح ويحذر أن يختم عمره وحياته إلا على خير خاتمة وخير عمل.
عود على بدء؛ فالويل تستخدم في لغة العرب بمعنى الهلاك وقد يقصد بها شيء مخصوص وهو وادٍ في جهنم – عياذاً بالله منها – قال سعيد بن المسيّب رضي الله عنه: (ويل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لانْمَاعَت من شدَّة حرّه).
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخوف به أصحابه على خطأ وخلل لا يتعلق بالعقيدة وإنما بسلوك قد يؤثر على منهج حياة لديهم، ذلك الأمر المخيف لم يتهدد به يهوداً أو نصارى أو مشركين، بل إنه كان موجهاً لمجموعة من المجاهدين من أصحابه كانوا معه في الغزو!!
إنَّها مسؤولية القائد حيال أتباعه وجنوده ألا يغفل عن أي ثلمة يمكن أن يؤتى منها المجموع.. إنه تلمس الطبيب الحاذق لمواطن المرض ووصف العلاج الناجع قبل استفحال الداء واستعصائه..
وإنَّها بركة الجهاد والخروج في سبيل الله بانكشاف النفوس وطبائعها؛ فالسفر يسفر وهو المجال الأرحب والأخصب ليتعرف القائد على مواطن الضعف والقوة عند أتباعه وهو ما نجده وفيراً في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة.
هم أصحابه وخلانه، نعم. هم مجاهدون وضعوا أرواحهم على أكفهم، نعم. ولكن، لا محاباة ولا مجاملة على حساب إتقان العمل وإتمامه وموافقته لما أرشدهم إليه من السنة. حتى لو كان ذلك مع خير القرون كي يستقيم البناء ويصلب العود.. لا مجال للقول هنا إن القوم قد شغلهم الجهاد – ذروة سنام الإسلام – عن إتقان ما هو أدنى منه. لا مجال للتعذر بالتعب والنصب المصاحب للضرب في سبيل الله عن تحري الدقة والكمال في سائر الأعمال.. وكذلك فلا مجال للتّعذر بأن أولئك قلّة بين كثرة ملتزمة، وهل أُتي المسلمون يوم أحد إلا من مخالفة قلّة قليلة لأوامر الحبيب صلى الله عليه وسلم؟
ولكن، ومع التهديد والوعيد والتّخويف فإننا لا نعدم أبداً تلك الرحمة الغامرة من الرّحمة المهداة صلى الله عليه وسلم.. تتجلّى في أسلوبه الدعويّ الأرقى والأكمل في معالجة الخلل وتصويبه، فالخطاب هنا جاء عامّاً لا يجرح ولا يحرج أحداً، على شاكلة القاعدة التربوية النبوية العظيمة (ما بال أقوام).. فيكفي هنا القول “ويل للأعقاب” ليعرف اللبيب أن أعقابه منها فيستدرك نفسه دون مكابرة أو إصرار على الذنب.. وهو في موضع آخر يواجه المخطئ مباشرة ليرتدع ويرعوي، وقد يكون هنا ممّن يصرّ على الخطأ أو يستهين به، أو يستثقل تصحيحه، أو يجهل كيفية التصحيح مثل ذلك المسيء في صلاته الذي أرشده النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة دون أن يحسنها حتى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: “والذي بعثك بالحق، ما أحسن غير هذا، علِّمني”. وعن ذلك الموضع أورد لكم حديثاً عجيباً جمع بين خواتيم الصلاة وخواتيم الوضوء تأكيداً للمعاني التي ذكرناها سابقاً، وستعجبون بأنّ رواة الحديث هم أمراء الأجناد؟! صحيح أنهم قادة الجيوش الجرّارة، لكنهم جنود مطيعون لأوامر نبيهم ونواهيه، لا يستصغرون شيئاً منها ولا يحقروه.
عن أبي عبد الله الأشعري قال: صَلَّى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلمَ بِأَصْحَابِهِ، ثمّ جَلَسَ فِي طائفَةٍ منهم، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَقَامَ يُصَلِّي، فَجَعَلَ يَرْكَعُ وَيَنْقُرُ في سجوده، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “أَتَرَوْنَ هَذَا، مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا، مَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ محمّد، يَنْقُرُ صَلاتَهُ كَمَا يَنْقُرُ الْغُرَابُ الدَّمَ، إِنَّمَا مَثَلُ الَّذِي يَرْكَعُ وَيَنْقُرُ فِي سُجُودِهِ، كَالْجَائِعِ لا يَأْكُلُ إِلا التمرة والتمرتين، فَمَاذَا تُغْنِيَانِ عَنْهُ، فَأَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ”. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَقُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَشْعَرِيِّ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ؟ فقال: أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ: عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، كُلُّ هَؤُلاءِ سمعوه من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن خزيمة ، والبيهقي ، والبخاري في التاريخ الكبير .
ولئن كان المعنيون بهذا الحديث هم عموم المسلمين، إن الأئمّة والعلماء والوعّاظ هم أولى الناس باتباع الهدي النبوي وتطبيقه في الوضوء والصلاة، والخطأ بحقهم أبشع وأشنع، ولا مجال هنا أبداً للتعذر بالتخفيف عن المصلين وما نراه من نقر للركوع والسجود في كثير من مساجدنا في أفضل الليالي وأعظمها عندما يجتمع المصلين في رمضان ويحضر من لم يكن يعتاد بيت الله فيكون نصيبه ألا يرى سوى تلك الصلاة “المنقورة” المخالفة لسنة نبينا وهديه صلى الله عليه وسلم.
ذلك الأدب النبوي الرفيع نلمسه واضحاً جلياً في سلوك أصحابه الذين تأدبوا بأدبه ونهلوا من معينه فهذا الصحابي الجليل العابد الزاهد عبد الله بن عمرو بن العاص يروي لنا قصة الحديث بقوله: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. حتى إذا كنّا بماء بالطريق. تعجل قوم عند العصر. فتوضّؤا وهم عجال. فانتهينا إليهم. وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ويل للأعقاب من النار. أسبغوا الوضوء “. صحيح مسلم.
والقصة واضحة بأن قوماً أساؤوا في الوضوء ولم يكن هو منهم كما يتضح من سياق الحديث، ومع ذلك فإنك تجده يضم نفسه معهم تواضعاً ومبالغة في إنكار الذات بقوله عن ذات الحادثة:
تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه، فأدركنا وقد أرهقنا الصلاة، صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا. صحيح البخاري
ونكتفي هنا بإيراد صورة مشرقة لمدى اهتمام الصحابة بذلك الحديث والعناية بنشره وتبليغه لكل من لم يسمعه. والصورة الأولى مع أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي كانت آية في الفقه والفهم والدعوة. يقول راوي الحديث:
دخلت على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يوم توفي سعد بن أبي وقاص. فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر فتوضأ عندها. فقالت: يا عبد الرحمن! أسبغ الوضوء. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ” ويل للأعقاب من النار “. صحيح مسلم
والصورة الأخرى للصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه ينقلها عنه راوي الحديث بقوله: سمعت أبا هريرة، وكان يمرّ بنا والناس يتوضّؤون من المطهرة، قال: أسبغوا الوضوء، فإن أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال: ويل للأعقاب من النار. صحيح البخاري
تُرى، هل سنمرّ على أبنائنا وأهلينا وأصدقائنا وأحبابنا لنعلّمهم ذلك الحديث وخفاياه الثمينة في تحرّي الدقة والإتقان في وضوئنا وصلاتنا وسائر أعمالنا لنسير بأمتنا إلى مدارج العزّ والارتقاء الذي ساقهم إليها حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده؟