ولم تكن رحلة الحاج وهبة في سبيل نشر الدعوة وغرس القيم التربوية في الأجيال المتعاقبة، مليئة بالورود، فقد جاهد الطغيان مع إخوانه في الجماعة وصبر على ابتلاءات شتى راضيًا محتسبًا، ولم ينشغل يومًا عن نشر الكتب في الإسلاميات، وعلوم القرآن، وعلوم اللغة والبلاغة، وعلم الاجتماع، والتربية، والقانون، والتراث، وغيرها من المجالات.
نشأة وهبة حسن وهبة ومسيرته العلمية
في حي الخليفة بالقاهرة القريب من مسجد السيدة عائشة- الذي يعد من أغنى أحياء القاهرة بالآثار التاريخية والدينية- وُلد الأستاذ وهبة حسن وهبة يوم الثلاثاء 12 من ربيع الأول 1342هـ، الموافق 23 من أكتوبر 1923م في أسرة عُرفت بحبها للعلم والتدين، وكانت مشهورة بتجارة الغلال.
كان ولده تاجرًا عفيفًا ورعًا تقيًا سمحًا إذا باع وسمحًا إذا اشترى، وهي الصفات التي اكتسبها وهبة خلال مسيرة حياته مع والده، ومع ذلك رفض مهنة والده في تجارة الغلال حيث كان يحلم بالعلم وأثره في تكوين شخصية الناس.
وزاد من ذلك انتقاله مع أسرته إلى حي الأزهر حيث حلقات العلم وكثرة المساجد، وروح الحياة والسمت الإسلامي والتاريخ في هذا الحي.
وحينما وجد والده منه صدودًا عن تعلم مهنة تجارة الغلال معه أرسله إلى خاله للعمل في مهنة تجليد الكتب، حيث وجد وهبة نفسه بين عالم كبير من المعرفة يحيط به فكان له أثره الكبير عليه بقية حياته، إذ شعر بقيمة تقديم العلم وتسهيله بين يدي الناس لعظم أثره فيهم، ودور هذه المكتبات في نهضة الأمم والشعوب.
وحينما وجد خاله نهمه للعلم والتعلم أرسله إلى الشيخ محمد رشيد رضا ليُتقن صناعة الكتاب وفنون البيع والتسويق في مكان أكبر من مكتبة خاله.
كان خال وهبة يبتغي أن يتربى نجل شقيقته على يدي الشيخ رشيد رضا وينهل من بحور علمه وهو في هذه السن، وقد تحقق ذلك بالفعل حيث استفاد من الشيخ رشيد رضا- رحمه الله- استفادة كبيرة في مهنة تجليد الكتب وصفّ الحروف، ناهيك عن الفوائد العلمية والتربوية الكثيرة التي لازمته بقية حياته.
وحينما بلغ الرابعة عشرة من عمره ترك “وهبة” العمل مع الشيخ رشيد رضا وانتقل للعمل في مطبعة مصطفى الباب الحلبي- التي يعود تاريخ إنشائها لمنتصف القرن الـ19 وتقع في حي الأزهر- حيث تعلم “وهبة” فيها كل أصول النشر من طبع وتجليد وتسويق وتوزيع، قبل أن يتركها عام 1946م وينتقل للعمل بالمكتبة الأهلية للنشر والتوزيع.
ثمّ أنشأ مكتبة وهبة الخاصة به لتكون منارة علمية وظل عاملًا فيها حتى توفاه الله فجر يوم الجمعة 20 من ذي الحجة 1423هـ، الموافق 21 فبراير 2003م.
تأثر وهبة حسن وهبة بالإمام البنا والإخوان
كان لطبيعة النشأة التي نشأها وهبة حسن وهبة ما بين أسرة متدينة تُحب التدين والعلم وما بين عمله القائم كله على قواعد من العلم والمعرفة، وما بين طبيعة المكان الذي عاش فيه سواء بحي الخليفة أو حي الأزهر بعد ذلك، أثره في انجذابه لخدمة الدين والعمل له وتحقيق مبتغاه في أن يكون الله جل وعلا غايته، فساقه عشقه وحبه لذلك إلى حضور الكثير من المحاضرات لعدد من العلماء والمصلحين.
وقد جذبه حديث الإمام حسن البنا ذلك الشاب الفصيح، فأخذ يتتبعه في كل مكان يذهب إليه، حتى أنه واظب على الحضور في درس الثلاثاء كل أسبوع في دار الإخوان بالحلمية الجديدة، ودفعه ذلك للتعرف إلى الأستاذ البنا وملازمته، وبدوره لمح الإمام البنا فيه حبه لدينه، فكان يحبه ويُدنِيه من مجلسه.
لم يصدق وهبة نفسه حينما نظر حوله فوجد شبابًا من مختلف الأطياف والدرجات العلمية المختلفة يُحيطون بالأستاذ البنا ويتعلمون منه، فتعرف إليهم واقترب منهم، فكان منهم الشيخ السيد سابق، والشيخ محمد الغزالي، والأستاذ خالد محمد خالد، إضافة إلى أنهم كانوا طلبة في الأزهر الشريف، وربطت بينهم أخوة قوية؛ لأنهم كانوا يلتقون في صلاة الفجر ومجالس العلم.
ظل “وهبة” ملازمًا للإمام البنا موازنا بين العمل الدعوي والعمل في المكتبات الإسلامية حتى كانت محنة الإخوان عام 1948م، فاعتقل لأيام قبل أن يخرج، ثم فُجع بموت الإمام البنا، لكنه عمل مع إخوانه حتى عادت الجماعة مرة أخرى وانتخب المستشار الهضيبي مرشدًا فشاركه وشارك إخوانه إرهاصات الثورة والصدام مع بعض رجالاتها حتى كانت محنة 1954م.
ولما اعتقل آلاف الشباب، سارع “وهبة” لمساعدة أسرهم فكان جزاؤه الاعتقال بتهمة مساعدة أسر المعتقلين وحُكم عليه بالسجن 5 سنوات. وهي الحادثة التي ماتت فيها أمه في 30 سبتمبر 1955م ولحقها أبوه بعدها بشهر واحد 30 أكتوبر تأثرًا لما لحق بابنهما من سجن واعتقال وتعذيب ومحن.
وبعدما خرج عاد إلى عمله في مكتبته التي أنشأها لكن سرعان ما اعتقل عام 1965م، بل وصودرت أمواله ومكتبته ليبقى في السّجن حتى وفاة عبد الناصر في سبتمبر 1970 ليخرج بعدها ويعيد مكتبته إلى مجدها، ويظل بجوار إخوانه التلمساني وأبو النصر ومشهور حتى وفاته.
بين التربية والنشر
لم يكن وهبة حسن وهبة مؤلفًا لكثير من الكتب، ولا مترجمًا، ولا شارحًا للتراث الإسلامي، لكنه وجد وظيفته في تبسيط العلم أمام الناس بأبسط الطرق، فكان مجموع الخبرات التي اكتسبها من عمله طيلة حياته، ومهمته كداعية أثره في إنشاء مكتبة ودار طبع ونشر للكتاب الإسلامي التي كانت بحق منارة عرفها الناس.
ففي سنة 1946م أنشأ الحاج وهبة مكتبة وهبة للطبع والنشر والتوزيع، وكانت عبارة عن محل صغير بشارع محمد علي (القلعة حاليًّا) من جهة العتبة.
ولما اعتقل لمدة أسبوع عام 1948م، وفي عام 1950م انتقل من المحل الصغير بشارع محمد علي إلى شارع الجمهورية بالاسم نفسه وكذلك المنهج، وتعرف في ذلك الوقت إلى الشيخ أبو الحسن الندوي، الذي طبع له (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، وكتاب (مذكرات سائح في الشرق) وغيرها من الكتب، وتعرف أيضًا إلى فضيلة الشيخ السيد سابق الذي طبع له كتاب (فقه السنة) بأجزائه الصغيرة.
وخرج من السجن آخر عام 1960م ليجد المكتبة خاوية على عروشها، ليعيد نشاطه مرة أخرى من جديد، حيث كانت المكتبة طوال فترة سجنه كلأً مباحًا، ولم ينشر من خلالها أي شيء أثناء تلك الفترة، ثم زاول عمله مرة أخرى فترة، ثم توالت المحن على المكتبة مع اعتقاله سنة 1965 حتى وفاة عبد الناصر.
وبعد خروجه من السجن بعد وفاة عبد الناصر سنة 1971، بدأ الصراع مع السلطات لرفع الحراسة عنه وعن عائلته لمزاولة نشاطه مرة أخرى، ومن أقدار الله أن المبنى الذي كانت به المكتبة هُدم أثناء فترة غيابه والاعتقال، وكان يشيد مبنى آخر مكانه، وكأنه كان على موعد حتى يظل اسم مكتبة وهبة كما هو، في الموقع والمكان نفسه.
ووافق صاحب العقار الجديد على استئجاره المحل، ثم عاود النشاط مرة أخرى للطبع والنشر والتوزيع، بالاسم نفسه، ليؤدي رسالته التي بذل من أجلها الغالي والثمين.
وقد كان لمكتبة وهبة دور في نشر التربية الإسلامية بين المجتمع عامة والشباب خاصة، ثم تطورت وأصبحت حصنًا أمام كل ما يخالف شريعة الرحمن ويتضح ذلك مع أول كتاب نشره كان للأستاذ خالد محمد خالد بعنوان (من هنا نبدأ) الذي طالب فيه بفصل الشريعة عن الحكم فأحدث ضجة كبيرة والتي بعدها قرر وهبة عدم نشر أي شيء يُخالف الشريعة.
فيقول في حواره مع الأستاذ صافيناز كاظم: “كان الأستاذ خالد محمد خالد قد تخرج وعمل مدرسًا، وطبع كتابه من (من هنا نبدأ) ألفي نسخة، وأعطاه لي للتوزيع، أخذت الكتاب ولأكثر من 20 يومًا لم أبع سوى نسختين أو ثلاثة، حتى كتب كاتب مقالاً في أخبار اليوم يهاجم الكتاب ويقول: إن خالدًا ينادي بما نادى به علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)”.
ويضيف: “بعد ذلك قرر الأزهر التحقيق مع المؤلف، وسحب منه العالمية، وبعد الضجة الألفين نسخة اللي عندي من الكتاب طاروا. بعتهم كلهم، كان يباع بعشرة قروش، وجاءني خالد محمد خالد، وقال: “عايزين نطبع طبعة ثانية”، فقلت له: لا. وقمت بتوزيع كتاب الشيخ الغزالي “من هنا نعلم” الذي يفند فيه كلام خالد الخاص بفصل الشريعة عن الدولة…”.
وقد نشرت مكتبة وهبة مئات الكتب لكبار الكتاب الإسلاميين في العالم الإسلامي، ومنهم الشهيد سيد قطب، ومحمد قطب، وأبو الحسن الندوي، وأبو الأعلى المودودي، وسيد سابق، ويوسف القرضاوي، ومحمد الغزالي، ومناع القطان، ومحمد حسين الذهبي، والدكتور سامح القليني، وعبد المتعال محمد الجبري، وعبد العظيم إبراهيم المطعني، والدكتور محمد عجاج خطيب وغيرهم.
ومن الكتب التي نشرتها:
- في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب حيث كان يتسلمها من الشهيد وهو في السجن ويطبعها ويوزعها في أنحاء العالم.
- شبهات حول الإسلام.
- السلام العالمي والإسلام.
- قبسات من الرسول.
- تاريخ التشريع الإسلامي.
- موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام.
- جيل النصر المنشود.
- من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم.
- الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد.
- المستقبل لهذا الدين.
- معالم في الطريق.
- جاهلية القرن العشرين.
- الحلال والحرام في الإسلام.
- الإسرائيليات في التفسير والحديث.
- الصبر في القرآن.
- التفسير والمفسرون.
- أبو هريرة راوية الإسلام.
تربية ومربي
كان وهبة حسن وهبة يرى نفسه داعية وصاحب رسالة تربوية لا تاجرًا يجمع الأموال، فحينما عُرض عليه طبع كثير من الكتب التي تُدر ربحًا وفيرًا لكنها مُخالفة لمنهجه الإسلامي، رفض نشرها، وقال: “أنا لست جامعًا للمال، ولكنني صاحب فكر ودعوة ورسالة”.
وكان طوال حياته يرى نفسه جنديًا في خدمة الإسلام ويعمل في صمت، فكان مثالًا للناشر الأمين الذي يخاف الله، وكان- رحمه الله- مدرسة كبيرة في مهنة نشر الكتاب، ولا يبخل على أحد في مهنته، سواء من أصحاب المطابع أو تجار الورق أو من المؤلفين.
وحينما كان يطبع كتابًا جديدًا يقول: “اليوم رُزقت بمولود، اللهم انفع به وانفعنا بالعلم الذي فيه”، ولعظم أثر التربية عليه وفيه حينما كان يضع سعرًا للكتاب يقول: “إنني أحاسب نفسي، وكأنني في القبر، ولو أستطيع توفير أي قرش للقارئ ما تأخرت أبدًا”.
وكان دائمًا يردد: لو صح العمل لأمرت أن يوضع معي في القبر كل ما طبعت، وأهمهم كتاب (الحلال والحرام في الإسلام)، وكتاب (المرأة في التصور الإسلامي).
كان الأستاذ وهبة صاحب رأى سديد يجمع الناس على الحق ولا يفرقهم، حيث يذكر الدكتور يوسف القرضاوي موقفا عنه فيقول: “عندما نزلت مصر في صيف (1973م)، واتفقت مع الأخ الفاضل الحاج وهبة- الذي كنت قد تعرفت إليه من قبل في الإخوان- على أن أنشر عنده سائر كتبي، التي نشرت في بيروت طيلة الأعوام التسعة الماضية التي لم أنزل فيها مصر.
وعلى رأس هذه الكتب: “الحلال والحرام”، وطلبت من الأخ وهبة: أن ينشر تعليق الاعتصام وردي عليه، وتركت له التعليق والرد، وبعد فترة مررت عليه، فقال لي: إن هذا التعليق والرد عليه، سيأخذ أكثر من ثلاث ملازم، وهذه عبء على الكتاب، ستغلي ثمنه على القارئ المسلم، دون ضرورة إلى ذلك، فالأمور التي علقوا عليها واضحة في الكتاب، وسوف تبلبل القارئ بالتعليق والرد عليه، ورأيي أن لا ضرورة لنشره. واستجبت لرغبته، ولم ينشر الرد إلى الآن.
وشاء الله تعالى أن تكون وفاة الحاج وهبة في نفس الشهر الهجري التي توفيت فيه زوجته رحمها الله، فلقد توفي فجر يوم الجمعة 20 من ذي الحجة 1423هـ / الموافق 21 فبراير 2003م – وتوفيت رحمها الله في يوم السبت 13 من ذي الحجة 1419هـ.رحم الله الحاج وهبة، وجعل عمله وجهاده في ميزان حسناته.
المصادر والمراجع:
- عبد الله العقيل: الأخ الداعية الناشر وهبة حسن وهبة، مجلة المجتمع، العدد 1875، 31 أكتوبر 2009، صـ 40.
- المرجع السابق: صـ41.
- محمد الصروي: الإخوان المسلمون: محنة 1965م الزلزال والصحوة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2004، صـ 199.
- محمد منير مرسي: التربية الإسلامية أصولها وتطورها في البلاد العربية، عالم الكتب، القاهرة، 2005، ص ـ 298.
- عماد علي جمعة: المكتبة الإسلامية، سلسلة التراث العربي الإسلامي، الطبعة الثانية، 1424هـ، 2003م، صـ 36.
- يوسف القرضاوي: وفاة التلمساني، 9 سبتمبر 2018.
- صافيناز كاظم: قصة حياة كتبي محترم، صوت الأمة، 30 أكتوبر 2003م، كان حوار حصلت عليه منه قبل وفاته ونشرته بعدما مات.
- د.مصطفى شلبي: وهبة حسن وهبة.. الداعية الناشر، 2 فبراير 2012.
- يوسف القرضاوي: السنة الدراسية (1972 – 1973م)، 3 ديسمبر 2017.
- وهبة حسن وهبة، صاحب فكر ودعوة ورسالة.