لا شك أن الحفاظ على صحة الإنسان من أسمى وأعظم أهداف الإسلام التي ربى عليها أتباعه، لذا كان هدي النبي في الوقاية من الأمراض واضحًا وجليًّا حتى قبل الوِلادة، حينما أوصى باختيار الزوجة الصالحة من أُسرةٍ خَلَت من العُيوبِ الدينيَّة وسلمت كذلك من الأمراض، وهذا لأنّ الكينونة الإنسانية أمانة من الله، ويجب الحفاظ عليها من الفيروسات والأمراض المهلكة.
وقد أوجب الله- سبحانه وتعالى- على الإنسان أن يحافظ على صحته بالمطلق، لأنه عمود الحضارة وحركة التاريخ وصيرورة الأحداث، وبدونه تنتهي وظيفة الأرض، لأنّ الحيوان لم يؤت عقلا ليقود حركة التاريخ، وقد ظن كثيرون أنّ فقه الطهارة من أجل التعبد فحسب، لكنه بالأساس لمقاومة الأوبئة والأمراض وعدم التّعرض للفيروسات، وهو ما يُبيّن حرص المشرع العظيم على سلامة أتباعه ووقايتهم من شر الوقوع في براثن المرض، لأن الأمة المريضة لا تصنع حضارة.
هدي النبي في الوقاية من الأمراض
ودلّت أحاديث نبوية كثيرة على هدي النبي في الوقاية من الأمراض وتربية الصحابة والمسلمين جميعًا على أن يحافظوا على أجسامهم سليمة، فها هو يقول- صلى الله عليه وسلم-: “الطهور شطر الإيمان” (مسلم)، وقال- صلى الله عليه وسلم-: “من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره” (مسلم).
وأثبت العلم الحديث أنّ الذين يتوضؤون باستمرار قد ظهر الأنف عند غالبيتهم نظيفًا طاهرًا خاليًا من الميكروبات؛ في حين أعطت أنوف مَن لا يتوضؤون مزارع ميكروبية ذات أنواع متعددة وبكميات كبيرة من الميكروبات الكروية العنقودية الشديدة العدوى؛ فلذلك شُرع الاستنشاق بصورة متكررة ثلاث مرات في كل وضوء.
أما المضمضة فقد ثبت أنها تحفظ الفم والبلعوم من الالتهابات، ومن تقيح اللثة، وتقي الأسنان من النخر بإزالة الفضلات الطعامية التي قد تبقى فيها.
وثبت علميًّا أن أغلب الذين يفقدون أسنانهم لو اهتموا بنظافة الفم، لما فقدوا أسنانهم قبل الأوان، وأنّ المادة الصديدية والعفونة مع اللعاب والطعام تمتصها المعدة وتسري إلى الدم.
كما ورد في حديث ضعيف عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده”، وذكر أهل العلم أن المقصود بالوضوء للطعام هو غسل اليدين قبله وبعده، وليس الوضوء الشرعي، ويؤخذ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال عند بعض أهل العلم.
وقد ثبت أنّ جلد اليدين يحمل العديد من الميكروبات التي قد تنتقل إلى الفم أو الأنف عند عدم غسلهما، لذلك يجب غسل اليدين جيدًا عند البدء في الوضوء، وعند تناول الطعام، وعند الاستيقاظ من النوم، وهذا يُفسر لنا ما رواه البخاري في الأدب والترمذي والحاكم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “مَن بات وفي يده ريح غَمَرٍ فأصابه شيء فلا يلومَنَّ إلا نفسه”. و(ريح غَمَر) أي: دسم ووسخ وزهومة من اللحم.
وورد في مسند الإمام أحمد عن قتادة، عن عبد الله بن سرجس، أنّ النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: “لا يبولن أحدكم في الجحر، وإذا نمتم فأطفئوا السراج؛ فإن الفأرة تأخذ الفتيلة فتحرق أهل البيت، وأوكئوا الأسقية، وخمروا الشراب، وغلقوا الأبواب بالليل”.
وأخرج البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا استجنح الليل- أو كان جنح الليل- فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من العشاء، فخلوهم، وأغلق بابك، واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك، واذكر اسم الله، وأوك سقاءك، واذكر اسم الله، وخمر إناءك واذكر اسم الله، ولو تعرض عليه شيئا” زاد في رواية: “فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا”.
وللوقاية من الأمراض لا يستعمل الإنسان يده اليمنى فيما قد يكون سببا في إصابته بالجراثيم والأوبئة، فقد أخرج البخاري، عن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: “إذا شرب أحدكم فلا يتنفّس في الإناء، وإذا بال أحدكم فلا يمسح ذكره بيمينه، وإذا تمسّح أحدكم فلا يتمسّح بيمينه”.
وأخرج الترمذي وأبو داود عن أبان بن عثمان عن أبيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “من قال حين يصبح: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم- ثلاث مرات- لم تصبه في يومه فجاءة بلاء، ومن قالها حين يمسي لم تصبه فجاءة بلاء في ليلته، ثم ابتلي أبان بالفالج، فرأى رجلا حدثه بهذا الحديث ينظر إليه، فقال له: ما لك تنظر إلي؟ فوالله ما كذبت على عثمان، ولا كذب عثمان على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لكن نسيت اليوم [الذي] أصابني هذا، فلم أقله ليمضي الله قدره”.
وأمر- عليه الصلاة والسلام- أن يُغطَّى إناء الطعام وتُوكأ قِرَب الشراب فلا تُترك مكشوفًا للذباب والتراب، فعن جابر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “غطوا الإناء وأوكئوا السقاء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا ينزل عليه الوباء” (مسلم).
وحرص المُشرّع على عدم تلويث مياه الشرب، فنهى أن يغمس المستيقظ من النوم يده في الإناء قبل أن يغسلها، “فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده”. ومنع التبرز أو التبول قرب موارد المياه وفي ظل الناس ومكان تجمعاتهم، بل شدد في تحريم هذه الأفعال حتى عدَّها من مسببات اللعن. وصح عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قوله: “اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل”.
ويدخل ضمن الوقاية من العلل والأمراض، تعزيز الصحة النفسية، ويكون ذلك بالصلاة، وهو ما عبر عنه النبي- صلى الله عليه وسلم- في قوله- كلما أهمه أمر-: “أرِحنا بها يا بلال”. وهى كما اكتشف الباحثون ـ تعالج الوهن الجسدي، والضعف النفسي، ففي الركوع، والسجود فائدة عظيمة لتحسين دورة الدم، وأداء القلب.
أهمية الصوم في الوقاية من الأمراض
وقد كان الصيام من هدي النبي الوقاية من الأمراض والعلل، حيث روى ابن السني وأبو نعيم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “صوموا تصحوا”.
وأوضح بعض العلماء أنّ الصوم من الأساليب القديمة في العلاج؛ لأن المعدة والجهاز الهضمي على مدار العام يحصل لديهما تعب من كثرة ما يتناول الإنسان، ويحتاجان لإجازة.
والصوم فعلاً يُجدد حياة الإنسان بتجدد الخلايا وطرح ما شاخ منها، وإراحة المعدة وجهاز الهضم، وحماية الجسد، والتخلص من الفضلات المترسبة والأطعمة غير المهضومة، والعفونات أو الرطوبات التي تتركها الأطعمة والأشربة.
ومما يزيدنا وضوحًا حول هدي النبي- صلى الله عليه وسلم- في الطعام، ما ورد عن المقداد بن معد يكرب أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه” (الترمذي).
إن تناول كمية كبيرة من الطعام تزيد عن طاقة تحمل المعدة تؤدي إلى ما يُسمَّى بالتخمة، وتفضي إلى عسر الهضم وكثرة الغازات واحتقان الكبد والتخمة الشديدة، وإلى توسع المعدة الحاد الذي يسبب ضغطًا شديدًا على القلب ما يعيق العود الوريدي إليه؛ فتحصل عسرة في التنفس واضطراب في ضربات القلب وتسوء حالة المريض وقد تنتهي بالموت.
وجاءت الدراسات الطبية لتثبت أنّ مرضى القلب يستطيعون أن يعيشوا طويلاً بعيدًا عن المضاعفات الخطيرة، إذا هم اعتدلوا في طعامهم وشرابهم.
السنة في التداوي من الأمراض
وإذا كان للنبي- صلى الله عليه وسلم- تعاليم وتوجيهات فيما يخص الوقاية من الأمراض قبل وقوعها، فإن المنهج النبوي له تعاليمه- أيضًا- مع الأمراض إذا وقعت، فيأمر بالتداوي والعلاج مع الأمراض عامة، وبالحجر الصحي مع الأمراض المعدية خاصة، فعن أسامة بن شريك- رضي الله عنه- قال: كنت عند النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله؛ أنتداوى؟ قال: “نعم، يا عباد الله، تداووا، فإنّ الله- عزّ وجلّ- لم يضع داء إلّا وضع له دواء- شفاء-، غير داء واحد، قالوا: وما هو؟، قال: الهرم” (شدة الكبر في السن) رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الألباني.
وبيّن النبي- صلى الله عليه وسلم- في عددٍ من الأحاديث مبادئ الحجر الصحي بأوضح بيان، فمنع الناس من الدّخول إلى البلدة المصابة بالطاعون، ومنع- كذلك- أهل تلك البلدة من الخروج منها، بل جعل ذلك كالفرار من الزحف الذي هو من كبائر الذنوب، وجعل للصابر فيها أجر الشهيد، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “لاَ تُورِدُوا المُمْرِضَ عَلَى المُصِحِّ” (البخاري).
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَد” (البخاري)، وعن أسامة بن زيد- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارا منه” (البخاري).
وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف” رواه أحمد. وعن عائشة- رضي الله عنها- أنها سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الطاعون فقال: “أَنَّه كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ” (البخاري).
هكذا قبل أكثر من 14 قرنًا، وقبل ظهور ما يُسمى بالطب الوقائي، أرشدنا النبي- صلى الله عليه وسلم- من خلال هديه المستمد من القرآن الكريم، إلى الوقاية من الأمراض والفيروسات، وهو ما يكفل لنا العيش في سعادة وأمان وصحة وعدم الخوف أو القلق من الأمراض والأوبئة الفتاكة.
المصادر والمراجع:
- مسعود صبري: فقه الوقاية الصحية.
- إسلام ويب: من الطب الوقائي في السُنَّة النبوية.
- محمد إبراهيم السبر: الهدي الإسلامي في الوقاية من الأوبئة.
- عامر بن محمد العثمان: من هدي النبي في الوقاية من الأمراض.
- الدكتور ناجي العرفج: هدي النبي محمد للحفظ والوقاية من الشرور والأمراض والأوبئة.
- عبد الرحمن الشثري: الهدي النبوي في الوقاية من الأسقام.