لم يقتصر هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- على تعليم المسلمين المسائل الشرعية والفقهية، ومعرفة الحلال والحرام، بل حث على التميز في جميع نواحي الحياة، ومن ذلك ممارسة الرياضة والوقاية من الأمراض على اعتبار أنهما متلازمين للحفاظ على الجسد من الهلاك.
وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة – رضي الله عنه- حثّ النبي – صلى الله عليه وسلم- على ممارسة الرياضة المفيدة النافعة التي تخلو من التعصب المقيت الذي نراه كثيرًا في عصرنا الحاضر، وأوضح النبي الكريم أنّ هذه الرياضة تجعل المؤمن قويًا سليم الجسم وبلا شك أنه خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم: “الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجَزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ” (أخرجه أحمد).
لقد كان الإسلام شاملًا في نظرته لكل أمور الحياة، إلا أنه عمل على إحاطتها بسياج من حسن الخلق والروح الرياضية العالية، فالتربية الرياضية لا تثمر ثمرتها المرجوة إلا إذا صحبتها الرياضة الروحية الأخلاقية، وكذلك النظافة لا بد من أن تكون على النهج النبوي القويم.
هدي النبي في الرياضة
لقد كان من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- إحياء الأخلاق والعادات السامية التي سبقت الإسلام وهدم ما دونها، فكان – صلى الله عليه وسلم- صاحب قوام جميل متين البنية قوي التركيب، وكان بنيانه الجسمي مثار إعجاب من حوله من الصحابة، ولا عجب فهو الأسوة الحسنة، الذي أرسله العلي القدير هاديًا لنا في كل أمر من أمور الدنيا والآخرة، حيث سعى من وراء ذلك إلى حفظ جسم الإنسان قويًّا نشيطًا لمواجهة الأعداء، وملء وقت الفراغ عند الشباب بما هو خير، وتنمية روح التعاون، بحيث يكون بالمنافسة الشريفة الهادئة بين الأفراد والجماعات.
لم يكن موقف رسول الله – صلى الله عليه وسلم- من الرياضة مُجرّد الحث والترغيب في دفع المسلمين على ممارستها، ولم يكتف بتوضيح أدوارها في الجهاد في سبيل الله وثواب ذلك عند الله – عز وجل-، وإنما أعطانا القدوة والمثل في ذلك فقد ثبت عنه – صلى الله عليه وسلم- أنه مارس الرياضة بنفسه في وقائع عديدة ثابتة في سنته المطهرة.
حتى إن اختصاصي العلاج الطبيعي يعدون أن النبي – عليه الصلاة والسلام- وضع اللبنة الأولى لبناء هذا العلم عندما شكا إليه قوم التعب من المشي، فأوصاهم بمزاولة النسلان، وهو الجري الخفيف، هذه وصية النبي عليه الصلاة والسلام، فتحسنت صحتهم، وكفاءتهم الحركية، واستطاعوا المشي لمسافات طويلة من دون تعب.
وضرب لنا النبي – صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في التحلّي بالروح الرياضية والخلق الرياضي القويم، وتقبل الهزيمة كتقبل الفوز، والاعتراف للخصم بالتفوق، وعدم غمطه حقه لئلا يُعَد ذلك نوعًا من الكِبْر، فعن عائشة – رضي الله عنها- قالت: “خرجت مع النبي – صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا؛ فتقدموا. ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس: تقدموا؛ فتقدموا. ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول هذه بتلك” (أخرجه أحمد في المسند 6/264).
وذكر السيوطي في رسالته (المسارعة إلى المصارعة) ما أخرجه البيهقي في (الدلائل) ما ذكره ركانة بن عبد يزيد، وكان من أشد الناس، قال: كنت أنا والنبي – صلى الله عليه وسلم- في غنيمة لأبي طالب نرعاها في أول ما رأى إذ قال لي ذات يوم: “هل لك أن تصارعني؟”، قلت له أنت؟، قال: “أنا”، فقلت على ماذا؟ قال: “على شاة من الغنم” فصارعته فصرعني، فأخذ مني شاة، ثم قلت: “هل لك في الثانية”، قلت: نعم، فصارعته فصرعني، وأخذ مني شاة، فجعلت أتلفت هل يراني إنسان، فقال: مالك، قلت لا يراني بعض الرعاة فيجترئون علي، وأنا في قوى من أشهدهم، قال: هل لك في الصراع الثالثة ولك شاة؟، قلت: نعم، فصارعته فصرعني، فأخذ شاة، فقعدت كئيبًا حزينًا، فقال: مالك؟ قلت: إني راجع إلى عبد يزيد وقد أعطيت ثلاثًا من نعاجه، والثاني أني كنت أظن أني أشد قريش، فقال: هل لك في الرابعة؟، فقلت: لا بعد ثلاث، فقال أما قولك في الغنم فإني أردها عليك، فردها علي، فلم يلبث أن ظهر أمره، فأتيته فأسلمت، فكان مما هداني الله أني علمت أنه لم يصرعني يومئذ بقوته، ولم يصرعني يومئذ إلا بقوة غيره.
ويتضح لنا جليًّا- في سياق الحديث الشريف- هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- وأخلاقه، فقد ردّ إليه غنمه في سماحة وعن طيب خاطر وهو ما يطلقون عليه في الرياضة المعاصرة (الروح الرياضية)، أو اللعب النظيف (كما ذكر الدكتور أمين أنور الخولي).
من هدي النبي غرس الروح الرياضية منذ الصغر
ومن هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يحث على معاملة الأطفال باللطف واللين وتربيتهم من خلال اللعب والنشاط وأن نتباسط فنعاملهم على قدر عقولهم ومن أقواله: “من كان له صبي فليتصابى له”. فقد كان – صلى الله عليه وسلم- رقيق المعاملة للأطفال، وكثيرًا ما كان يدعوهم للعب بين يديه.
وأخرج أبو يعلى عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-: رأيت الحسن والحسين على عاتقي النبي – صلى الله عليه وسلم-، قلت: نعم الفرس تحتكما، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “ونعم الفارسان هما”.
وفي رواية الطبراني عن جابر قال: “دخلت على النبي – صلى الله عليه وسلم- وهو يمشي على أربعة (أي على يديه ورجليه) وعلى ظهره الحسن والحسين، وهو يقول: نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان أنتما”.
ومن الطريف أن كثيرًا من الآباء المسلمين المحدثين يمارسون اللعبة نفسها مع أبنائهم بتلقائية شديدة دون أن يعرفوا أنها سنة عن سيد الخلق أجمعين.
وربما جاء الحسن إلى المسجد فالتزم ظهر النبي – صلى الله عليه وسلم- وهو ساجد، فيطيل سجوده من أجله ثم يقول لأصحابه بعد الصلاة: “إن ابني ارتحلني، وإني خشيت أن أعجله”. كما كان الرسول – صلى الله عليه وسلم- يفرج بين رجليه حتى يمر الحسن أو الحسين من بينهما وهو قائم يصلي.
وعن أبي داود والنسائي عن أنس قال: قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ فقالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم-: “إن الله أبدلكم بهما خيرًا منهما، يوم الأضحى ويوم الفطر”.
والإسلام لا يرضى عند الخصومة والمنافسة نسيان الشرف والذوق، والفجور، فتلك من خصال المنافقين، ومن ثم يجب أن نتعلم:
1. ألا تنسينا الرياضة الواجبات الدينية، والوظيفية، والأسرية، والوطنية، والواجبات الأخرى.
2. عدم التحزب الممقوت الذي فرق بين الأحبة وأشعل في النفوس غيرة ونارًا، وباعد بين الأخوة، وجعل في الناس أحزابًا وشيعًا، فالإسلام يدعو إلى الاتحاد، ويمقت النزاع والخلاف.
3. عدم توجيه الكلمات النابية من فريق لآخر، وكره التصرفات الشاذة التي لا تليق بكرامة الإنسان.
4. عدم ممارسة الألعاب الجماعية التي يشترك فيها الجنسان، وفيها كشف للعورات، أو التي تثير الشهوة، وتحدث الفتنة.
5. البعد عن الأنانية وحب الذات والتي لا تقبل استقبال النقد حتى الهادف أو الاستماع لوجهات نظر الآخرين.
6. عدم تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
7. عدم إساءة الظن عند بعض من ينتسب للوسط الرياضي، خصوصًا إذا كانت النتائج لا تخدم فريقه المفضل.
الوقاية من الأمراض
ومن هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- الوقاية من الأمراض للحفاظ على جسم سليم، فها هو يقول – صلى الله عليه وسلم- : “الطهور شطر الإيمان” (مسلم).
وفي بحث أعده الباحث عامر بن محمد العثمان، بين فيه أن الإسلام قدّم نموذجًا فريدًا للزينة والنظافة، والحفاظ على الصحة الخاصة والعامة، وبناء الجسد، ودعا إلى صون البيئة والمجتمع من انتشار الأمراض والأوبئة والملوثات.
فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- : “من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره”.
ولقد أثبت العلم الحديث أنّ الذين يتوضؤون باستمرار قد ظهر الأنف عند غالبيتهم نظيفًا طاهرًا خاليًا من الميكروبات؛ في حين أعطت أنوف من لا يتوضؤون مزارع ميكروبية ذات أنواع متعددة وبكميات كبيرة من الميكروبات الكروية العنقودية الشديدة العدوى؛ فلذلك شُرع الاستنشاق بصورة متكررة ثلاث مرات في كل وضوء.
أما المضمضة فقد ثبت أنها تحفظ الفم والبلعوم من الالتهابات، ومن تقيح اللثة، وتقي الأسنان من النخر بإزالة الفضلات الطعامية التي قد تبقى فيها.
وقد ثبت علميًّا أن تسعين في المائة من الذين يفقدون أسنانهم لو اهتموا بنظافة الفم، لما فقدوا أسنانهم قبل الأوان، وأن المادة الصديدية والعفونة مع اللعاب والطعام تمتصها المعدة وتسري إلى الدم.
وأخرج الترمذي في جامعه بسنده عن سلمان الفارسي أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده”، وذكر أهل العلم أن المقصود بالوضوء للطعام هو غسل اليدين قبله وبعده، وليس الوضوء الشرعي.
وقد أثبت البحث أنّ جلد اليدين يحمل العديد من الميكروبات التي قد تنتقل إلى الفم أو الأنف عند عدم غسلهما، لذلك يجب غسل اليدين جيدًا عند البدء في الوضوء، وعند تناول الطعام، وعند الاستيقاظ من النوم، وهذا يُفسر لنا ما رواه البخاري في الأدب والترمذي والحاكم عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: “مَن بات وفي يده ريح غَمَرٍ فأصابه شيء فلا يلومَنَّ إلا نفسه”. و(ريح غَمَر) أي: دسم ووسخ وزهومة من اللحم.
صوموا تصحوا
وكان الصيام من هدي النبي الكريم في الحفاظ على الجسم ووقايته من الأمراض والعلل، فقد روى ابن السني وأبو نعيم عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “صوموا تصحوا”.
وقد أوضح بعض العلماء أن العلاج بالصوم من الأساليب القديمة في العلاج؛ لأن المعدة والجهاز الهضمي على مدار العام يحصل لديهما تعب من كثرة ما يتناول الإنسان، ويحتاجان لإجازة.
والصوم فعلاً يُجدد حياة الإنسان بتجدد الخلايا وطرح ما شاخ منها، وإراحة المعدة وجهاز الهضم، وحماية الجسد، والتخلص من الفضلات المترسبة والأطعمة غير المهضومة، والعفونات أو الرطوبات التي تتركها الأطعمة والأشربة.
ومما يزيدنا وضوحا حول هدي النبي- صلى الله عليه وسلم- في الطعام، ما ورد عن المقداد بن معد يكرب أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه” (الترمذي).
إن تناول كمية كبيرة من الطعام تزيد عن طاقة تحمل المعدة تؤدي إلى ما يُسمَّى بالتخمة، وتفضي إلى عسر الهضم وكثرة الغازات واحتقان الكبد والتخمة الشديدة، وإلى توسع المعدة الحاد الذي يسبب ضغطًا شديدًا على القلب ما يعيق العود الوريدي إليه؛ فتحصل عسرة في التنفس واضطراب في ضربات القلب وتسوء حالة المريض وقد تنتهي بالموت.
وجاءت الدراسات الطبية لتثبت أنّ مرضى القلب يستطيعون أن يعيشوا طويلاً بعيدًا عن المضاعفات الخطيرة، إذا هم اعتدلوا في طعامهم وشرابهم.
وصايا ونواهٍ
ولم يقف هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- عند الحفاظ على الجسد من الأمراض بالصيام وتقليل الطعام، بل أمر -عليه الصلاة والسلام- أن يُغطَّى إناء الطعام وتوكأ قِرَب الشراب فلا تُترك مكشوفًا للذباب والتراب، كما نهى عن الشرب من الإناء أو أن ينفخ في الشراب؛ حرصًا على سلامته من التلوث.
روى مسلم عن جابر – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “غطوا الإناء وأوكئوا السقاء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا ينزل عليه الوباء” (مسلم).
كما حرص المشرع على عدم تلويث مياه الشرب، فنهى أن يغمس المستيقظ من النوم يده في الإناء قبل أن يغسلها، “فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده”.
ومنع التبرز أو التبول قرب موارد المياه وفي ظل الناس ومكان تجمعاتهم، بل شدد في تحريم هذه الأفعال حتى عدَّها من مسببات اللعن. فقد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قوله: “اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل”. كما نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أن يبال في الماء الراكد.
وفي الاستيقاظ مبكرًا فوائد للجسم وحمايته من الأمراض، فقد روى صخر بن وداعة الغامدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “اللهم بارك لأمتي في بكورها”.
أما الفوائد الصحية ليقظة الفجر فهي:
1- تكون أعلى نسبة لغاز الأوزون (O3) في الجو عند الفجر وتقل تدريجيًّا حتى تضمحل عند طلوع الشمس.
2- من الثابت علميًّا أن أعلى نسبة للكورتيزون في الدم هي وقت الصباح، حيث تبلغ (7-22) مكرو جرام/100 مل بلاسما، وأخفض نسبة له تكون مساء حيث تصبح أقل من (7) مكرو جرام/100 مل بلاسما. ومن المعروف أن الكورتيزون هو المادة الفعالة التي تزيد فعاليات الجسم، وتنشط استقبالاته بشكل عام، وتزيد نسبة السكر في الدم الذي يزود الجسم بالطاقة اللازمة له.
المصادر:
- ابن مفلح: الآداب الشرعية، 3/228.
- المنذري: صحيح الترغيب، ص 146.
- السيوطي: الجامع الصغير، ص 1452.