بقلم: د.طلعت فهمي- مدير مركز المستقبل للدراسات التربوية
لقد كان ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم علامة فارقة في تاريخ الإنسانية، وفي حديث جعفر بن أبي طالب إلى النجاشي ما يُلخِّص حال الناس قبل الإسلام، حيث قال: أيها الملك: “كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، وعدد عليه أمور الإسلام”.
لقد كانت الجاهلية في ضلال لا يتصوره ذو عقل، بعض مظاهره:
- ترى الرجل من أهل الشرك فتهابه، فإذا به يخرج من جيبه صنمًا من عجوة يعبده ويتقرب إليه، فإذا جاع أكله.
- والرجل يقتل ولده مخافة أن يطعم معه، ويئد ابنته حية مخافة أن يُعيَّر بها.
- والرجل الفخيم يرسل امرأته لتستبضع من رجل آخر رجاء نجابة الولد.
- العصبية ونعرات الجاهلية والطعن في الأنساب سمة من سمات الجاهلية الأولى.
جاء ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، الذي أرسل الله فيه طيرًا أبابيل على أبرهة وجيش الظالمين ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول، إيذانًا ببدء عهد جديد وميلاد نبي كريم وابتعاث أمة الإسلام.
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: “لينتهيَنَّ أقوامٌ يفتخرونَ بِآبائِهِمُ الذينَ ماتُوا إِنَّما هُمْ فَحْمُ جهنمَ أوْ ليكونُنَّ أَهْوَنَ على اللهِ مِنَ الجُعَلِ الذي يُدَهْدِهُ الخِرَاءَ بِأنْفِهِ” (رواه الترمذي).
وفي إعلانه العام لحقوق الإنسان، والذي سبق فيه الدنيا بأسرها، يقول:
“… فإنَّ دِمَاءَكُمْ، وأَمْوَالَكُمْ، وأَعْرَاضَكُمْ، وأَبْشَارَكُمْ، علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، ألَا هلْ بَلَّغْتُ قُلْنَا: نَعَمْ، قالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ” (رواه البخاري).
المعالم الرئيسة التي ميزت دعوة الإسلام
سنتناول بمشيئة الله خمسة معالم رئيسة ميزت دعوة الإسلام:
- الوحدانية.
- الربانية.
- الإحاطة والشمول.
- العالمية.
- العدل.
وإلى تفصيل ما سبق.
أولًا: الوحدانية:
فالله إله واحد أحد، فرد صمد لا شريك له، ولا شبيه ولا نظير له ولا ولد، فالله أحق أن يعبد، خلق الخلق ليعبدوه: {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ (56) مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ (57) إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ (58).
ثانيًا: الربانية:
فالله هو الوجهة والقصد والغاية، لا الملك ولا الرئاسة ولا الجاه ولا المال، قام عتبة بن ربيعة حتى جلس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد، أسمع؛ قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له.
ثم دعا كبار قريش محمدًا إليهم، وعرضوا عليه هذه الأمور مرة أخرى فقال لهم الرسول عليه السلام: “ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم”.
والربانية إفراد الله بالحكم والتشريع: “قدمَ [عديُّ بنُ حاتمٍ] على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهو نصرانيٌّ فسمعه يقرأُ هذه الآيةَ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ قال: فقلتُ له: إنَّا لسنا نعبدُهم، قال: أليسَ يحرمونَ ما أحلَّ اللهُ فتحرِّمونَه، ويحلُّونَ ما حرَّمَ اللهُ فتحلُّونَه، قال: قلتُ: بلى، قال: فتلك عبادتُهم”.
ثالثًا: الشمول والإحاطة:
فنحن معنيون بإقامة دين الله سبحانه وتعالى، هذا الدين الشامل الكامل الذي ارتضاه لخلقه، ربنا خاطب نبينا فقال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} (الشورى: 13).
ذهب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى قبيلة بني شيبان يعرض عليهم الإسلام فقال: من يحملني إلى قومه فأبلغ كلمة ربي وله الجنة؟ فقالوا: نحن نزلنا بين أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى، فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، أن لا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدثًا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب، فعلنا.
ولأن نبينا- صلى الله عليه وسلم- لم يقبل نصف إسلام ولا نصف إيمان ولا دينًا مجزأ فقال- صلى الله عليه وسلم: “ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه” عرض بنو شيبان المنعة والأرض، ولكن أين القلوب وأين الولاء الكامل وأين التجرد لدين الله!
قال ابن كثير في البداية والنهاية: (هذا حديث غريب جدا كتبناه لما فيه من دلائل النبوة ومحاسن الأخلاق ومكارم الشيم وفصاحة العرب).
إن دين الله يقوم أول ما يقوم في قلوب الناس وتصوراتهم وأفكارهم وعقولهم ومشاعرهم.
ولقد اقتفى الإمام البنا أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأسيسه دعوة الإخوان المسلمين فجعلها تحوط دين الله من جميع جوانبه، فارتضته دينًا ينتظم مظاهر الحياة جميعًا، أعادته إلى حياة المسلمين وأعادت المسلمين إليه.
فهو “دين ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء وهو مادة وثروة أو كسب وغنى وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة، سواء بسواء”.
وقد قال الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} {الأنعام:38}. ما فرطنا في شيء بكم إليه حاجة إلا وبيناه في الكتاب، إما نصاً، وإما مجملاً، وإما دلالة، كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ}، أي: لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين.
رابعًا: العالمية عالمية الحدث والزمان والمكان:
فالله رب العالمين رب الناس أجمعين نزل علي رسوله الأمين وهو في مكة لا يجد النصير المعين: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (الأنبياء: 107).
فالإسلام دعوة تهتم بالعالم وأحداثه: {الٓمٓ (1) غُلِبَتِ ٱلرُّومُ (2) فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ (3) فِي بِضۡعِ سِنِينَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚوَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ (4) بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ (5)}. فالقرآن يتحدث عن الصراع بين القوتين العالميتين حينها، الفرس والروم وانتصار الفرس علي الروم، وكيف سيتحقق انتصار الروم على الفرس في بضع سنين، وقد تحقق ما أخبر به القرآن.
إنها عالمية الزمان والمكان التي فهمناها من حديث أبي النعمان عن أبيه من بني سعد هذيم قال: قدمت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وافداً في نفر من قومي؛ فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نؤم المسجد حتى انتهينا إلى بابه، فنجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي على جنازة في المسجد، فقمنا ناحية، ولم ندخل مع الناس في صلاتهم حتى نلقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونبايعه، ثم انصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنظر إلينا فدعا بنا، فقال: “من أنتم؟” فقلنا: من بني سعد هذيم، فقال: (أمسلمون أنتم؟” قلنا: نعم. قال: فهلا صليتم على أخيكم؟ قلنا: يا رسول الله ظننا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أينما أسلمتم فأنتم مسلمون.
إنها عالمية الزمان والمكان التي تمثلت في حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: “إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ، قَالَ فَقُمْنَا فَصَفَفْنَا عَلَيْهِ كَمَا يُصَفُّ عَلَى الْمَيِّتِ، وَصَلَّيْنَا عَلَيْهِ كَمَايُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ” رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وفي حديث جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: “قد تُوُفِّيَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ الْحَبَشِ فَهَلُمُّوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فصففنا وَنَحْنُ صُفُوفٌ” مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
خامسًا: العدل
قال صلى الله عليه وسلم: “إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.
عن ابن عباسٍ: أنَّ نفرًا من الأنصار غزوا مع رسول الله ﷺ في بعض غزواته، فسُرِقَتْ درعٌ لأحدهم، فأُظِنَّ بها رجلٌ من الأنصار، فأتى صاحبُ الدّرع رسولَ الله ﷺ فقال: إنَّ طعمة بن أبيرق سرق درعي. فلمَّا رأى السَّارقُ ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجلٍ بريءٍ، وقال لنفرٍ من عشيرته: إني غيبتُ الدِّرعَ وألقيتُها في بيت فلان، وستوجد عنده؛ فانطلقوا إلى نبيِّ الله ﷺ ليلًا فقالوا: يا نبيَّ الله، إنَّ صاحبنا بريءٌ، وإنَّ صاحبَ الدِّرع فلان، وقد أحطنا بذلك علمًا، فاعذر صاحبناعلى رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنَّه إن لم يعصمه اللهُ بك يهلك. فقام رسولُ الله ﷺ فبَرَّأه وعذره على رؤوس الناس، فأنزل الله: {إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا (105) وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَغَفُورٗا رَّحِيمٗا (106) وَلَا تُجَٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمٗا (107)}.
إعداد النبي لأصحابه لحمل أعباء الدعوة الجديدة
سلك النبي- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه سبيل التربية والتزكية والتعليم والإرشاد وتطبيق تعاليم الإسلام، وحمل أعباء الدعوة والرسالة وأفسح المجال لبروز الكفاءات، وإلى تفصيل ذلك:
أولاً: الله هو الغاية
أن الله هو الغاية وهو المقصود بالطاعة والعبادة وإليه المقصد: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} (الأنعام).
وفي الصحيحين عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه” (رواه البخاري ومسلم).
ثانيًا: أداء الفرائض واجتناب المحرمات وعدم تجاوز حدود الله
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها” (رواه الدارقطني).
ثالثًا: سلوك سبيل التلاوة والتزكية والتعليم
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)} (الجمعة).
رابعًا: قيام الليل وترتيل القرآن
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} (المزمل).
خامسًا: التربية الجماعية والاجتماع على الخير
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمع بالمسلمين سرًا في دار الأرقم بن أبي الأرقم لتعليمهم القرآن وشرائع الإسلام، وكانت تلك الدار مركزًا للتربية والإعداد، كان اجتماعهم في أول الأمر فرادى، وحين صار عددهم ثلاثين، اختار لهم دار الأرقم على جبل الصفا؛ لقربها من الكعبة، لتكون مركزًا للدعوة، ويجتمع فيها بالمسلمين سرًا ليعلمهم القرآن الكريم وشرائع الإسلام، إذ كانت بعيدة عن أعين المشركين وتفكيرهم.
أخذ المسلمون يدخلون دار الأرقم سرًا حين ازداد اضطهاد المشركين للنبي وأصحابه، ليقيموا صلاتهم، ويتعلموا القرآن، ويتلقوا عن الرسول ما يوحى إليه ويتدارسوه معه، ويأمرهم بحفظه وفهمه. وفي تلك الدار أسلم كبار الصحابة وأوائل المسلمين. وعندما بلغ عددهم أربعين فردًا، خرجوا يجهرون بالدعوة إلى الله. وكذلك كان المسجد النبوي نموذجًا للاجتماع والتربية والتزكية.
سادسًا: البنية التنظيمية
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أسلم الرجل والرجلان ممن لا شيء له، ضمهما إلى من في يده سعة، فينالان من فضل طعامه، فكل أفراد الدعوة كانوا في إطار المعرفة والاستيعاب والرعاية.
وفي بيعة العقبة الثانية قال النبي صلى الله عليه وسلم للمبايعين: “أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم كفلاء، ككفالة حواريي عيسى بن مريم لقومهم”.
وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد سبايا ثقيف، قال للأنصار: “أيها الناس، ارجعوا إلى عرفائكم لنعرف من رضي منكم ممن لم يرضَ”.
وكانت هذه السياسة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيدًا على التنظيم الدقيق والحرص على استشارة قادة المجتمع في أمور الأمة، مما يعزز روح التعاون والمسؤولية الجماعية.
سابعا: إطلاق الطاقات في تحمل أمانة الإسلام وتبليغ الدعوة
وبرز ذلك في اتخاذ أبي بكر من محل تجارته مركزًا للدعوة إلى الإسلام، فأسلم بدعائه إلى الإسلام عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله.
كما تجلّت هذه الحكمة في إرسال مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة برفقة أصحاب بيعة العقبة الأولى، ليعلمهم الدين ويهيئهم لاستقبال الإسلام. وعاد في العام التالي ومعه ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان. وبإسلام أسيد بن حضير أسلم سعد بن معاذ، وبإسلام سعد بن معاذ أسلم بنو عبد الأشهل.
ومن خلال إطلاق الطاقات الفردية، برزت مشورة الحباب بن المنذر في تغيير مكان الجيش يوم بدر، والتي كانت لها دور حاسم في تحقيق النصر. كما كانت فكرة حفر الخندق من سلمان الفارسي، التي حفظت المدينة المنورة من الاقتحام في معركة الأحزاب.
كما أظهر نعيم بن مسعود دورًا بارزًا في تخذيل الأحزاب وأثره الكبير في تحقيق نصر المسلمين.
وقد أرسي النبي صلى الله عليه وسلم مبدأً هامًا حين قال لأصحابه: “إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أنْسَى كما تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي” (رواه البخاري).
قالَ إبْرَاهِيمُ النخعي: “صَلَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالناس-: لا أدْرِي زَادَ أوْ نَقَصَ – فَلَمَّا سَلَّمَ قيلَ له: يا رَسولَ اللَّهِ، أحَدَثَ في الصَّلَاةِ شيءٌ؟ قالَ: وما ذَاكَ، قالوا: صَلَّيْتَ كَذَا وكَذَا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ، واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، وسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمَّا أقْبَلَ عَلَيْنَا بوَجْهِهِ، قالَ: إنَّه لو حَدَثَ في الصَّلَاةِ شيءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ به، ولَكِنْ إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أنْسَى كما تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وإذَا شَكَّ أحَدُكُمْ في صَلَاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عليه، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ”. (صحيح البخاري).
ثامنًا استمرارية التفاعل مع المجتمع وقضاياه
حين خشي النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه، قالت له خديجة: “كلا والله، ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتعين على نوائب الحق” (رواه البخاري ومسلم). فكان ذاك سمته قبل النبوة وبعدها، وكان ذلك سمت أبي بكر كذلك، كما وصفه ابن الدغنة زعيم قبيلة الأحابيش: “يا أبا بكر، إن مثلك لا يُخرج، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”.
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعيشون الحياة بكل أحداثها، ويخالطون المشركين في مجالسهم فيعرفون وينكرون، كما في واقعة عثمان بن مظعون، حين رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة ودخل مكة في جوار الوليد بن المغيرة. فلما رأى المشركين يؤذون المسلمين وهو آمن، رد على الوليد جواره. وبينما هو في مجلس لقريش، وقد وفد عليهم لبيد بن ربيعة، فقعد ينشدهم من شعره، فقال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
فقال عثمان بن مظعون: “صدقت”، ثم قال: “كذبت، نعيم الجنة لا يزول”.
فقال لبيد: “متى كان يُؤذى جليسكم يا معشر قريش؟” فقام رجل منهم فلطم عثمان، فاخضرت عينه. فلامه الوليد على رد جواره، فقال: “قد كنت في ذمة منيعة”. فقال عثمان: “إن عيني الأخرى لما أصاب أختها لفقيرة”. فقال له الوليد: “فعد إلى جوارك”. فقال عثمان: “بل أرضى بجوار الله تعالى”. (وقد أسلم لبيد بعد ذلك).
تاسعًا: مقاومة الظلم والظالمين
في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يقول: “يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا” (رواه مسلم).
وكان نهج النبي صلى الله عليه وسلم مقاومة الظلم والظالمين، حتى أنه شارك في حلف الفضول، والذي تعاقد فيه المتحالفون أن يكونوا يدًا واحدة على الظالم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت” (رواه أحمد).
واستمر نهج النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإسلام. يقول محمد بن إسحاق: حدثنا عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي قال: قدم رجل من إراش بإبل له مكة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فمطله بأثمانها. فأقبل الإراشي حتى وقف على نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فقال: “يا معشر قريش، من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام؟ فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني على حقي”. فقال أهل المجلس: “ترى ذلك الرجل؟” وهم يهزؤون به، وأشاروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة: “اذهب إليه، فهو يؤديك عليه”. فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقام معه. فلما رأوه قام معه، قالوا لرجل ممن معهم: “اتبعه فانظر ماذا يصنع”. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء إلى باب أبي جهل، فضرب عليه بابه، فقال أبو جهل: “من هذا؟” قال: “محمد، فاخرج”. فخرج إليه، وما في وجهه قطرة دم، وقد انتقع لونه. فقال: “أعطِ هذا الرجل حقه”. فقال أبو جهل: “لا تبرح حتى أعطيه الذي له”. فدخل، فخرج إليه بحقه فدفعه إليه. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للإراشي: “الحق بشأنك”. فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس، فقال: “جزاه الله خيرًا، فقد أخذت الذي لي”.
وأما حديث الزبيدي، فقد حدث بعضهم قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد ومعه من الصحابة، إذا برجل من زبيد يطوف على حلق قريش، حلقة بعد أخرى، وهو يقول: “يا معشر قريش، كيف تدخل عليكم المارة أو يجلب إليكم جلب، أو يحل بساحتكم تاجر وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم؟” حتى انتهى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: “ومن ظلمك؟” فذكر أنه قدم بثلاثة أجمال، خيرة إبله، أي أحسنها، فسامه بها أبو جهل ثلث أثمانها ثم لم يسمه بها لأجله سائم، قال: “فأكسد علي سلعتي فظلمني”.
فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “وأين جمالك؟” قال: “هذه هي بالحزورة”. فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقام أصحابه، فنظروا إلى الجمال، فرأى جمالًا حسانًا، فساوم ذلك الرجل حتى ألحقه برضاه، وأخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فباع جملين منها بالثمن، وأفضل بعيرًا باعه، وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه. وكل ذلك وأبو جهل جالس في ناحية من السوق ولم يتكلم، ثم أقبل إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: “إياك يا عمرو أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الرجل، فترى مني ما تكره”. فجعل يقول: “لا أعود يا محمد، لا أعود يا محمد”. فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وعن جابر حين عاد مهاجرة الحبشة عام الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “ألا تخبروني بأعجب ما رأيتم بأرض الحبشة؟” فقال فتية كانوا منهم: “بلى يا رسول الله، بينما نحن يومًا جلوس، إذ مرت بنا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قلة ماء، فمرَّ بها فتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها، فخرت المرأة على ركبتيها وانكسرت قلتها. فلما قامت التفتت إليه ثم قالت: سوف تعلم يا غادر، إذا وضع الله الكرسي وجمع الله الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، سوف تعلم من أمري وأمرك عنده غدًا”. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صدقت، كيف يقدس الله قومًا لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم؟” (رواه ابن ماجه).
عن أبي سعيد الخدري: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينًا كان عليه، فاشتد عليه حتى قال له: “أحرج عليك إلا قضيتني”. فانتهره أصحابه، وقالوا: “ويحك، تدري من تُكلم؟” قال: “إني أطلب حقي”. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “هلَّا مع صاحب الحق كنتم”. ثم أرسل إلى خولة بنت قيس، فقال لها: “إن كان عندك تمر، فأقرِضينا حتى يأتيَنا تمرُنا فنقضيَك”. فقالت: “نعم، بأبي أنت يا رسول الله”. قال: فأقرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه. فقال الأعرابي: “أوفيت، أوفى الله لك”. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع” (رواه ابن ماجه).
عاشرًا: الجهاد ذروة سنام الإسلام
جاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلبه ولسانه وماله ونفسه منذ بعثته حتى مماته، في العام الأول لهجرته، خرجت أربعة سرايا تطارد المشركين وتبث الرعب في كفار قريش الذين آذوا المسلمين وأخرجوهم من بلادهم وصادروا أموالهم، وفي خلال تسع سنوات بلغت غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعًا وعشرين غزوة، وثلاثًا وستين سرية، وأربعة عشر بعثًا.
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهز جيش أسامة بن زيد للذهاب إلى أرض الروم، ومن قبل كانت غزوة مؤتة، وقبلها تبوك، وكل ذلك لردع الروم، وقد جاء في الحديث الذي رواه زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا” (صحيح البخاري).
عن معاذ بن جبل قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، فقال لي: “إن شئت أنبأتك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه”. قال: قلت: أجل يا رسول الله. قال: “أما رأس الأمر فالإسلام، وأما عموده فالصلاة، وأما ذروة سنامه فالجهاد” (رواه الترمذي).
ورضي الله عن شهيد الإسلام الإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حين أسس دعوة الإخوان المسلمين على خمسة مبادئ: الله غايتنا، الرسول قدوتنا، القرآن دستورنا، الجهاد سبيلنا، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، واجعلنا ممن يرد حوضه ويُسقى بيده الشريفة شربة لا يظمأ بعدها أبدًا.