إنّ من أهم واجبات المربي القدوة أنّ يكون حلقة الوصل بين الدعوة وبين إخوانه المتربين، فلا بُد من أن يجمعهم حول تعاليم الإسلام التي وصلت إليه وتشرّب بها قبل أن يتأهّل للسير على طريق أسلافه في نقل العلم والأخلاق.
وحتى يستطيع المربي أو ولي الأمر القيام بهذا الدور المنوط به، يجب أن تتحقق فيه بعض الصفات؛ أولها أن يكون قدوة صالحة، هَمَّه الوحيد العمل والتنفيذ والممارسة والتطبيق لكل ما عَرفه ورُبي عليه من نظريات ومواقف وخبرات ومعلومات شكّلت أخلاقه وسلوكياته وضميره الذي يتعامل بهم في جميع مناحي الحياة.
من واجبات المربي القدوة
ومن واجبات المربي القدوة التي يجب أن يتحلى بها للتأثير الإيجابي على المتربّين والطلاب المسؤولين منه:
1- أن يصل بالمتربين إلى مرضاة الله – سبحانه وتعالى- ويكون القلب الكبير الذي يسع آمالهم وآلامهم، والعقل الناضج الذي يحسن توجيه النصح وتقبله، والنزول على حكم الله دون أن تأخذه العزة بالإثم أو الغرور بالمكانة.
2- المحاسبة والمجاهدة لنفسه دائمًا، وأن يضع نصب عينيه: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14].
3- حسن المعاملة: روى مسلم عن عائشة – رضي الله عنها-، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه”.
4- مشاركة الطلاب فيما يعيشون فيه، لأنّ هذا هو الجو النقي الذي يفزع إليه الجميع من معاناة الحياة ومشاقّها حيث يتلاقى الجميع في ظل الحب في الله والأخوة الصادقة والتعاون على البر والتقوى والمقاومة لنزعات الشر في أنفسهم، ومن هذا كان موقف الإمام حسن البنا حين أرسل إلى إبراهيم عبد الهادي رئيس وزراء مصر يقول: “إذا كنتم قد حللتم الجماعة واعتقلتم من كان منهم في فلسطين، ومن منهم هنا، ورميتم بهم في المنفى في جبل الطور، فلتعتقلوني معهم لأني أنا الذي ربيتهم”.
5- تجنب فرض التكاليف التي تُرهق المتربين، والبعد عن التحكم الذي لا مُبرر له، يقول الله – تبارك وتعالى-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [ آل عمران: 159].
6- ومن واجبات المربي المحافظة على وقته ووقت طلابه، وليذكر دائمًا حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “لن تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن عمله فيما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه” (صحيح الترمذي).
7- ابتغاء الحق كاملا دون تحريف أو تزيّد، وتلقي الآراء والمقترحات والنصائح من الطلاب والمتربين والنزول عليها ما دامت حقًّا.
8- الأمانة العلمية، وأن يكون المربي على اطلاع بمسائل الفقه المختلفة، فقد تكون الفوارق بسيطة بينه وبين طلابه، لكنه بحكم وضعه عُرضة لأن يسألوه فيما يجهلونه من أمر دينهم، وأبسط قواعد الأمانة أن يقول: “لا أعلم”، إذا كان لا يعلم الجواب، أو يطلب منهم الانتظار حتى يعود إلى أهل الذكر، والأفضل أن يعتاد العودة إلى مصادر الإسلام: الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح.
واجبات المربي.. نماذج عملية
في السيرة النبوية وحياة الصحابة العديد من المواقف التي تحمل التطبيق العملي بشأن واجبات المربي القدوة، يُمكن أن نشير إلى بعض منها، أو الرجوع إلى كتب السيرة للتعرف إلى جوانب القدوة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها:
أ- بناء المسجد النبوي: فأول خطوة خطاها النبي – صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك هو إقامة المسجد النبوي، في المكان الذي بركت فيه الناقة، حيث اشترى الأرض من غلامين يتيمين كانا يملكانه وساهم في بنائه بنفسه فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
وكان يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أمر ربنا وأطهر
ب- موقف عمر بن الخطاب في عام الرمادة: قال الطبري: أصابت الناس في إمارة عمر سنة بالمدينة وما حولها، فكانت تسفي إذا ريحت – أصابتها الريح- ترابا كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، فآلى عمر ألّا يذوق سمنا ولا لبنا ولا لحما حتى يحيا الناس من أول الحيا، فكان – بذلك- حتى أحيا الناس من أول الحيا، فقدمت السوق بمكة من سمن ووطب من لبن فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثمّ أتى عمر فقال: “يا أمير المؤمنين قد أبر الله عينك وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن، وعكة من سمن، فابتعتهما بأربعين، فقال عمر: أغليت بهما، فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافا، وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما مسهم”.
هكذا كان الخليفة القدوة يحيا كما يحيا الناس ويعيش كما يعيشون ويشاركهم ما يقع بهم، فلا حواجز بينه وبينهم، ليضع يده على كل ما يعانيه الناس، ويسارع بحل المشكلات التي تعترض طريق حياتهم.
ولم تنتهِ هذه الأخلاق برحيل النبي – صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، فهناك الكثير من المواقف على مدار التاريخ التي تُؤكد أنّ هذا المنبع الأخلاقي نهل منه رجال ساروا على الدرب فوصلوا وتشربوا أخلاق النبي وأصحابه، فعندما اقترح أحد الطلاب بناء دار خاصة بالمدرسة في الإسماعيلية، وبجانب الدار مسجد لقلة المساجد في البلد، ولضمان مساعدة الجمهور ماديًّا، وتحمس الحاضرون للفكرة، وعندما سألوا الإمام الشهيد حسن البنا، وماذا ترى في هذا الشأن؟ قال: أما المبدأ فجميل، وأما التنفيذ فيحتاج إلى شروط أولها: إخلاص النية لله، وتوطين النفس على المشقة والصبر، ثمّ الكتمان ودوام النشاط، وأن نبدأ بأنفسنا في البذل والتضحية، فإذا كنتم صادقين فيما تتحمسون له الآن فعلامة ذلك أن تكتتبوا أنتم فيما بينكم أولا بخمسين جنيها توزعونها على أنفسكم ويدفعها كل منكم خلال أسبوع، ثم نجتمع بعد أسبوع في مثل هذه الليلة، فإذا كنتم قد أكملتم الاكتتاب فثقوا بأن مشروعكم سيتم إن شاء الله، وفي الليلة المحددة اجتمع الطلاب مرة أخرى وكان مبلغ الخمسين جنيها قد تم جمعها بالكامل.
الترهيب من القول بلا فعل
وإذا كنا نتحدث عن واجبات المربي القدوة، فلا يجب أن ننسى الإشارة إلى خطورة القول بلا فعل، فالقرآن الكريم يزخر بتهديد ووعيد مَن يخالف فعله قوله والذين يقولون ما لا يفعلون، يقول – جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [ الصف: 2 -3 ]، وقال – عز وجل-: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].
وفي كتب الحديث عشرات الروايات التي تحض على تطابق الظاهر مع الباطن، كما تُنذر وتُحذر المُعْرضين عن ذلك بالعواقب الوخيمة، فعن أسامة بن زيد أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: “يجاءُ بالرجُلِ يَوْمَ القيامَةِ فيُلْقَى في النارِ، فتَنْذَلِقُ أقتابُهُ ، فيدورُ بها في النارِ، كما يدورُ الحمارُ برحاهُ، فيُطِيفُ بِهِ أهلُ النارِ ، فيقولونَ: يا فلانُ ! ما أصابَكَ؟ ألم تكنْ تأمرُنا بالمعروفِ وتنهانا عنِ المنكَرِ؟ فيقولُ: بلَى، قَدْ كنتُ آمرُكُم بالمعروفِ ولَا آتِيهِ، وأنهاكُم عَنِ المنكَرِ وآتِيهِ” (البخاري).
وعن لقمان بن عامر قال: كان أبو الدرداء – واسمه عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي، وقيل: عويمر بن عامر- يقول: إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي يا عويمر فأقول لبيك رب، فيقول ما عملت فأقول لبيك رب، فيقول ما عملت فيما علمت؟”.
وعن جندب بن عبد الله الأزدي (صاحب النبي)، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: “مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه” (صحيح الجامع).
وصايا عملية للمربي في جانب القدوة
هناك جوانب من القدوة يجب أن يتحلى بها كل فرد مسلم أيا كان موقعه، وقد أشار إليها الأستاذ مصطفى مشهور – المرشد الخامس للإخوان المسلمين وأحد منظري الجماعة ومفكريها- في كتابه “القدوة على طريق الدعوة” نذكر منها ما هو ضروري، بجانب واجبات المربي القدوة لتكون الإفادة أشمل:
- على المربي أن يكون قدوة حسنة خاصة في الجوانب التي يُربي طلابه عليها.
- وعليه أن يعطي الاهتمام الأكبر لقضية الإيمان وسلامة عقيدة التوحيد، فذلك هو الأساس المتين الذي يقوم عليه بناء الفرد المسلم.
- ثم يلي ذلك في الأهمية، حسن أداء العبادات، من حيث صحة أحكامها وأسرارها وحياة القلوب بها، كي تثمر التقوى وسمو الروح.
- وعلى المربي أن يُولي الجانب الأخلاقي اهتمامًا خاصًّا؛ لأن التخلي عن الأخلاق السيئة والتحلي بالأخلاق الفاضلة يحتاج إلى وقت وجهد وصبر ورعاية ومتابعة قريبة، وتحقيق ذلك ممكن خلال الدروس والرحلات والكتيبة والمعسكرات والزيارات وغير ذلك من الوسائل، فالمربي في أثناء الرحلة مثلا يكون منتبها إلى كل ما يصدر عمن معه من أقوال أو تصرفات، ليجعل ما يلمسه فيها من انحرافات نصب عينيه، ليعالجها معهم، مثل الطبيب إذا لمس ظاهرة مرض معين عرفها وعالجها بالدواء المناسب.
- وعليه أن يركز في تربيته على إخلاص النية لله وخلوها من كل شائبة تفسدها.
- وعلى المربي أن يربي طلابه على الصدق والوفاء بالعهد والبيعة، وذلك من ألزم الأمور لكل طالب يأخذ مكانه في الصف ويكون على ثغرة من ثغرات العمل الإسلامي.
- على المربي أن يُربي الأفراد على أسلوب العمل الجماعي وما يتطلبه من شروط والتزامات لا بُد منها لسلامة السير وتضافر الجهود وتوفر الإنتاج.
- وعليه أن يوضح لطلابه طبيعة طريق الدعوة ومعالمه، وما يتسم به من طول وما يتخلله من أشواك وعقبات، ويوضح لهم كيفية تخطي العقبات والتحرز من المنعطفات.
- وعليه أن يطمئنهم بأنه برغم ما فيه، فإنه هو الطريق الوحيد، لأنه هو الطريق الذي سار عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وصحابته من قبل.
- وعليه أن يوضح لهم أن هناك عوامل نجاح تصاحب هذا الطريق، لن تقف أمامها أي عقبات بإذن الله، وأن الأمل كبير في أن المستقبل لهذا الدين.
- ومن واجبات المربي أن يهتم بتذكية معاني الأخوة والحب والإيثار بين الأخوة والتذكير الدائم بهذا المعنى وبالوسائل التي تنميه، والتحذير من الأمور التي تنال من هذا الحب أو تحدث فرقة وخلافا.
- وعلى المربي أن يكون متحليا بخلق الصبر، يربي طلابه على التحلي بهذا الخلق، لأهميته لمن يسلك طريق الدعوة.
- وعليه أن يكون ذا علم بقضايا الشباب ومشكلاتهم الشخصية، أو في أسرته وأهله أو في علاقته بطلابه، أو في حياته العام، هذه القضايا التي قد تكون سببا في تعويق سيره على الطريق أو انحرافه عنه، فعلى المربي التبصير بها ورسم الحل النافع لها.
- وعليه – أيضا- أن يبصر طلابه بالانحرافات الفكرية أو الحركية التي ينـزلق فيها البعض وتبعد بهم عن الطريق، كي يتحرز منها، وخاصة أنها تبدأ بسيطة ثم تزداد مع الزمن.
- وعلى المربي أن يُذكي روح الجهاد والتضحية بالنفس والمال والوقت والجهد وكل شيء في سبيل الله في نفوس طلابه، وأن يحثهم على عقد الصفقة الرابحة مع الله: “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ” [التوبة: 111].
- وعلى المربي أن يربي طلابه على السمع والطاعة في العسر واليسر، في المنشط والمكره في غير معصية، ويربيهم على الثقة وعدم الشك أو التردد، ويعودهم الدقة في أداء ما يكلفون به من أعمال وواجبات.
- من المفيد للمربي أن يتيح لمن يربيهم، مجال الأسئلة والاستفسار، ويطلب منهم ألا يبقى أحد منهم شيئا يحيك في نفسه دون سعي لاستيضاحه، ويعطي الفرصة لمن يريد أن يسأله منفردا كي لا يكون هناك حرج.
- وعلى المربي: أن يعود طلابه على سعة الإطلاع والتزود بالمعرفة، والتفقه في أمور الدين، ويعلمهم كيفية الرجوع إلى أمهات الكتب والتعرف على ما يريدون.
- وعليه أن يعودهم على العطاء ودعوة غيرهم إلى الله، وإلقاء الدروس، بل يحرص على إعداد أخوة مربين من بينهم، ليقوموا بمثل واجبه مع غيرهم من الأخوة الجدد.
- وعلى المربي ألا يغفل في تربيته جانب الرياضة البدنية، ولا بأس من اختيار من يقومون عليها، لأن قوة البدن لا بد منها لمن يسلكون طريق الدعوة.
المصادر:
- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 2/555.
- صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم، ص 122.
- حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية.
- البوصيري: إتحاف الخيرة المهرة، 8/161.
- مصطفى مشهور: القدوة على طريق الدعوة.