يُعدّ البيت المؤسسةَ التربوية الأولى ومدرسة الطفولة الأساسية التي يجري فيها استخدام أساليب تربية الطفل منذ نعومة أظفاره، خصوصًا أن هذه العملية مُركبة تتم شيئًا فشيئًا وبالتدرّج، ليتعلم الصغير المبادئ والقيم والسلوكات الإيجابية وفق مبادئ الإسلام.
وفي بحثٍ لحوريّة جميلة تيقرين، من جامعة خميس مليانة بالجزائر، حاولت التطرق إلى جوانب التربية التي اهتم بها الإسلام، مستدلةً على كل ما توصلت إليه بأدلة مستقاة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ومن منهج السلف الصالح، ممّا ينبغي أن يحتذى به من أمثلة في هذا المجال، مركزةً على اهتمام النبي- صلى الله عليه وسلم- الشديد بتربية الطفل ورعايته، إيمانًا منه أن الطفل هو اللّبنة الأولى في المجتمع. فوضع له منهجًا تربويًّا يتناول جميع النواحي الشخصية: جسميةً، وعقليةً، ونفسيةً، وخُلقيةً.
أساليب تربية الطفل
ونبدأ أساليب تربية الطفل بأسلوب القدوة الحسنة، فهي أنجح الوسائل المؤثرة في تربية الولد وإعداده من جميع الجوانب الخُلقية والنّفسية والاجتماعية؛ لأسباب كثيرة، منها:
- جعل الله تعالى لعباده أسوة عملية في الرسل والصالحين من عباده وعدم اكتفائه بإنزال الكتب عليهم، فأرسل الرسل وقَصَّ على المؤمنين قصصهم، وعرض سيرتهم ثم أمر باتباعهم والاقتداء بهم فقال: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90) وقال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21).
- من طبيعة البشر وفطرتهم أن يتأثروا بالمحاكاة والتقليد أكثر مما يتأثرون بالقراءة والسماع، سيّما في الأمور العملية ومواقف الشدة وغيرها. ويدل على ذلك حديث أم سلمة في قصة الحديبية: لما كتب رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- القضيَّةَ بينه وبين مُشركي قريشٍ، وذلك بالحديبيةِ عامَ الحُديبيةِ، قال لأصحابِه: قومُوا فانحروا واحلِقوا، قال: فواللهِ ما قام منهم رجلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مراتٍ، فلما لم يقمْ منهم أحدٌ، قام فدخل على أمِّ سلمةَ، فذكر ذلك لها، فقالت أمُّ سلمةَ: يا نبيَّ اللهِ! اخرُجْ ثم لا تُكلِّمْ أحدًا منهم بكلمةٍ، حتى تنحرَ بُدْنَكَ وتدعوَ حلَّاقَكَ فتحلقَ! فقام فخرج فلم يكلِّمْ منهم أحدًا، حتى فعل ذلك، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضُهم يحلِقُ بعضًا، حتى كاد بعضُهم يقتلُ بعضًا غمًّا.
- أن أثر القدوة عام يشمل جميع الناس على مختلف مستوياتهم، حتى الأمي منهم، فبإمكان كل امرئ أن يحاكي فعل غيره ويقلده ولو لم يفهمه.
اختيار الوقت
ومن الدراسة العملية لسيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- نلاحظ أنه استخدم ضمن أساليب تربية الطفل وتنشئته، أسلوب التوجيه في الأوقات المناسبة، من ذلك:
- وقت الطعام: ويدل على ذلك حديث عمر بن أبي سلمة- رضي الله عنه- قال: “كنتُ غلامًا في حَجْرِ رسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم-، وكانتْ يدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فقالَ لي رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم-: “يا غلامُ، سمِّ اللهَ، وكُلْ بيمينِكَ، وكلْ ممَّا يلِيكَ”. فما زالت تِلكَ طِعْمَتِي بعدُ. ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أنّ الأطفال يخلون بالآداب الاجتماعية أحيانًا، وينصرفون إلى أفعال شنيعة، فإذا لم يجلس معهم المربي باستمرار ويرشدهم إلى الصواب فإن الطفل سيبقى في براثن العادات السيئة المنفرة، وكذلك فإنّ عدم الجلوس معهم أثناء طعامهم سيفقد الوالدين وقتًا مناسبًا لتلقي الطفل وتعلمه.
- وقت المرض: ويدل على ذلك حديث أنس- رضي الله عنه- قال: كان غُلامٌ يَهودِيٌّ يَخدِمُ النبيَّ- صلى الله عليه وسلم- فمَرِض، فأتاه النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَعودُه، فقعَد عِندَ رَأسِه، فقال له: “أسلِمْ”. فنظَر إلى أبيه وهو عندَه، فقال له: أطِعْ أبا القاسمِ، فأسلَم، فخرَج النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- وهو يقولُ: “الحمدُ للهِ الذي أنقَذه من النارِ”.
فاختيار الوقت المناسب له دور فعال في ترسيخ القدوة والموعظة ونجاح مثل هذا الأسلوب التربوي في تربية الأطفال.
المساواة بين الأطفال
وتأتي المساواة بين الأطفال من بين أهم أساليب تربية الطفل وتوجيهه، لأنّ التمييز بين الصغار ظلم يُشعل نار الغيرة والغضب، ومِن صور التمييز:
- التمييز بينهم في بعض النواحي المادية، كتفضِيل الأب أحد أبنائه على إخوانه من النفقة أو العطية والهدية أو الميراث وغير ذلك. ويدل على هذا حديث النعمان بن بشير- رضي الله عنهما-: إنَّ أباه أتى به رسولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم- فقال: إني نحلتُ ابني هذا غلامًا كان لي. فقال رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم-: “أَكُلَّ ولدِك نحلْتَه مثلَ هذا؟” فقال: لا. فقال رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم-: “فأرجِعْه”.
- التمييز بينهم في النواحي المعنوية كالمفاضلة في الملاحظة والمعاملة. ويدل على ذلك حديث أنس- رضي الله عنه-: أنَّ رجلًا كان جالسًا مع النبيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَجاء بُنَيٌّ لهُ فأخذَهُ فَقَبَّلهُ وأَجْلَسَهُ في حِجْرِهِ، ثُمَّ جاءتْ بُنَيَّةٌ لَه فأخذَها وأَجْلَسَها إلى جَنبِهِ، فقال النبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: “فما عَدَلَتْ بينَهُما”.
- التمييز بين الأولاد بجميع صوره حرام، وقد دل على ذلك نصوص كثيرة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة منها قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} (المائدة:8)، وقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: “اتَّقوا اللهَ، واعْدِلُوا بينَ أولادِكمْ، كما تحبونَ أن يَبَرُّوكُم”.
وهناك نتائج سلبية مترتبة على المفاضلة بين الأولاد، منها:
- انحراف بعض الأولاد نفسيًا.
- الانطواء والخوف والخجل.
- ظهور الحقد والحسد بين الأولاد.
- ظهور الكراهية والفرقة بين الأولاد، ومن ثم ظهور التفكك في المجتمع الواحد.
- عدم العدل ظلم، والظلم يؤدي إلى الانتقام والفساد.
الاستجابة لحقوق الأطفال
للأطفال إرادة ينبغي أن تراعَى؛ حتى يعتادوا حرية التفكير منذ الصغر، فالصغار يدلون بآرائهم بما يناسب تفكيرهم وقدراتهم من أمور الحياة، وهم في هذا قد يصيبون وقد يخطئون، فإن أصابوا وجب التشجيع، وإن أخطئوا وجب التنبيه والتوضيح، من غير تسفيه مخزٍ أو زجر محطم.
لما وُلّي الإمام عمر بن عبد العزيز الخلافة وبدت الوفود تزوره للتهيئة بالمنصب الجديد، تقدم أحد الوفود غلام صغير ليتكلم باسم الوفد، فقال الخليفة عمر: “أما وجد القوم من هو أسن منك ليتكلم؟!”، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمر في كبر السن لكان مَن هو أكبر منك في مقامك، يا أمير المؤمنين! أما علمت أنّ المرء بأصغريه: قلبه ولسانه.
إن إعطاء الطفل حقه وقبول الحق منه يعطيه ثقة بنفسه وشعورًا إيجابيًّا نحو الحياة، ويتعلم أن الحياة أخذ وعطاء، ومن ثمّ يستطيع أن يكشف عن مواهبه وميولاته التي قد تجعل منه عبقريًّا حقيقيًّا، إذا أحسنا فهمه وأحسنا التعامل معه.
الدعاء للطفل لا عليه
والدعاء أحد أفضل أساليب تربية الطفل في الإسلام، حيث تنكر الشريعة الإسلامية الجفاء والغلظة بالأولاد وتوجب الشفقة والرحمة بهم، ومن مظاهر هذه الرحمة أنه لا بُد من الدعاء للأبناء، لأنه:
- يُدخل السرور إلى قلوب الأولاد، فيهذب نفوسهم ويشجعهم على الالتزام بالآداب.
- يغرس في الأولاد أصول التربية النفسية الصحيحة التي تجعل منه إنسانًا مستقيمًا.
- دعوة الأب لابنه مستجابة، فربما تغير من سلوك وتصرف الطفل، ففي الحديث الشريف: ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٍ لا شكَّ فيهنَّ: دعوةُ الوالدِ، ودعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المُسافرِ.
لذا، كان من سُنّة الأنبياء والمرسلين الدعاء للأبناء والبنات، وقد دلّ على ذلك آيات كثيرة ومتعددة من كتاب الله العزيز، منها: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} (البقرة: 128)، وقوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم: 40-41)، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان: 74).
أما خطورة الدعوة على الأولاد، فتتمثل في:
- مظهر من مظاهر الجفاء والقسوة معهم، ولذلك نهى الإسلام الآباء والأمهات وحذرهم منها: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “لا تدْعوا على أنفسِكم، ولا تدْعوا على أولادِكم، ولا تدْعوا على خَدَمِكم، ولا تدْعوا على أموالِكم، لا تُوافقوا من اللهِ ساعةَ نيْلٍ فيها عطاءٌ فيُستجابَ لكم”.
- وعن أبي الدرداء- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “إنَّ اللَّعَّانين لا يكونون شهداءَ ولا شفعاءَ، يومَ القيامةِ”.
- وعن أنس رضي الله عنه، قال: جاءت بي أمي، أم أنسٍ إلى رسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم-، وقد أزرتني بنصفِ خِمارها وردَّتْني بنصفِه. فقالت: يا رسولَ اللهِ! هذا أنيسٌ، ابني. أتيتُكَ بهِ يخدُمَكَ. فادعُ اللهَ لهُ. فقال: “اللهم أكثِرْ مالَه وولدَه”. قال أنسٌ: فواللهِ إنَّ مالي لكثيرٌ. وإنَّ ولدي وولدَ ولدي ليتعادُّونَ على نحوِ المائةِ، اليومَ.
مساعدة الطفل على البر والطاعة
ومساعدة الطفل على البر والطاعة، تأتي ضمن أساليب تربية الطفل وإعانته على حسن الخلق، والمقصود هنا تهيئة الأسباب للطفل ومساعدته على بر الوالدين وطاعتهما، لأنّ هذا البر والاحترام أساس قويم لجميع الفضائل الاجتماعية الأخرى: كاحترام الجار والكبير والمعلم، وصلة الأرحام. ومما يساهم في ذلك:
- المساواة بين الأولاد.
- أن يكون المربي على وعي بأساليب التربية، وأن يستخدم الحكمة في التربية.
- التخلق بالأخلاق الحسنة أمام الأولاد.
- معاملة الأولاد باللطف والحنان؛ لأن المعاملة اللينة تزيد في حب الولد لأبيه ومن ثم تساعده على بره، ففي حديث الأقرع بن حابس قال: إن لي عشَرةً من الولَدِ ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظَر إليه رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- ثم قال: “مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ”.
الابتعاد عن كثرة اللوم والعتاب
ومن أساليب تربية الطفل الابتعاد عن كثرة اللوم والعتاب، وقد أشار مؤدبو الأطفال كالغزالي وابن خلدون، إلى ضرورة هذا الأصل التربوي، ذلك أن الإسلام يدعو إلى الرفق، وينهى عن العنف، وفي الحديث الشريف: {إنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلَّا زانه، ولا يُنزعُ من شيءٍ إلَّا شانه}، والرسول- صلى الله عليه وسلم- ما كان يعاتب الصحابة وأهل بيته من العبيد والخدم والأطفال على تصرفاتهم.
وفي حديث أنس: “قال أنسٌ: واللهِ! لقد خدمتُهُ- صلى الله عليه وسلم- تسعَ سنينَ. ما علِمتهُ قال لشيءٍ صنعتُهُ: لم فعلتَ كذا وكذا؟ أو لشيءٍ تركتُهُ: هلَّا فعلتَ كذا وكذا”. وعن أبي هريرة قال: أن أعرابيًّا بالَ في المسجدِ، فثارَ إليه الناسُ ليقَعوا به، فقال لهم رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم-: “دعوه، وأهْريقوا على بولِه ذنوبًا من ماءٍ، أو سَجْلاً من ماءٍ، فإنما بُعثتُم مُيَسِّرين ولم تُبْعثوا مُعَسِّرين”.
وقد يترتب على كثرة العتاب واللوم للأطفال، أن يصبح إنسانًا ناقصًا يشعر بالخوف والاضطراب وضعف الشخصية، بالإضافة على عدم مقدرته مستقبلاً على وضع القرار أو الإدلاء برأيه بحرية أو المشاركة الفعالة في أي مجال من مجالات الحياة، فيكون تابعًا للآخرين في تصرفاته وجميع أنواع سلوكه.
المصادر والمراجع:
- أساليب تربية الطفل الصحيحة .
- العدل بين الأولاد .
- أهمية الدعاء للذرية والأبناء .