تُواجه المؤسسات التربوية في الدول الإسلامية مشكلات عديدة، على رأسها أزمة مناهج التربية المُعتمَدة في تلك المؤسسات، فالمُطالع لها يرى تعدّدها وتنوعها حدّ التعارض والتنازع بين اتّجاهين؛ الأول يُعلي مناهج الآباء والأجداد ويقترب بها من حدّ التّقديس وكأنّها وحي السماء أو هَدي الأنبياء، وكان من نتيجة ذلك القعود عن مراجعتها ونقدها وتمحيصها وتطويرها.
أمّا الاتجاه الثاني، فقد انبهر أصحابُه بالتقدم العلمي للأمم الغربية فاستورَد مِنهاجها التربوي وهو مِنهاج يقوم على أُسس فلسفية واجتماعية وثقافية ودينية مغايرة لِمَا عليه المجتمعات الإسلامية، وهو ما أدى إلى ما يُعرف بمشكلة الاغتراب؛ أي اغتراب المناهج عن واقع المجتمع وأصوله الحضارية، فتنازَعت الشخصية المسلمة بين موروث متجذر عاجز عن مواكبة المستجدات، وجديد مستورد يقف من التراث موقف المعادي.
سلبيات مناهج التربية التقليدية
إنّ النّاظر في مناهج التربية المُعتمدة في المؤسسات التقليدية الحاضرة، يكتشف عددًا من الصّفات السّلبية، أهمها:
1- طغيان الماضي على محتويات هذه المناهج وقلة المساحة التي تشغلها حاجات الحاضر ومشكلاته وتحديات المستقبل؛ لذلك يكون الدّارس الذي تُخرّجه هذه المؤسسات- في أحسن أحواله- راسخًا في علوم الماضي غير مُحيط بعلوم الحاضر وشؤون المستقبل.
۲- طغيان فقه الشعائر والأحوال الشخصية المتعلقة بالأسرة وشؤون الفرد، ومعاملات الأسواق على فقه شؤون الأمم وشبكة العلاقات الاجتماعية وتفريعاتها في ميادين السياسة والحكم والاقتصاد والاجتماع، وانعدام فقه الكون الطبيعي الذي يُوجه إليه القرآن الكريم باعتباره المختبر الذي يرى فيه آیات الله في الآفاق المبرهنة على صدق آيات الله في الكتاب.
۳- انعدام البحث العلمي والتربوي، والاكتفاء بتردِید علوم الماضي وتطبيقاته، وكذلك سطحية شهود التيارات العالمية الجارية في ميادين العلم والتربية وعدم التفاعل معها إلا ما يتعلق باستعارة التنظيم البيروقراطي للمؤسسات التربوية وأسماء الشهادات والمراحل التعليمية والرتب العلمية.
4- التركيز على أسلوب التلقين، والاهتمام بالجانب العقلي للطالب من خلال تحفيظه المفاهيم والمعارف.
5 – وضع المناهج الدراسية دون الرجوع إلى الطالب، أو المعلم، مع إهمال الفروق الفردية بين الطلاب، وإهمال تنمية الميول والاتجاهات، والاعتماد على نتائج الامتحانات التي تتطلب الحفظ في تحديد علامة النجاح.
6- طمس روح الابتكار، وكثرة المواد الدراسية، وكبر حجمها، ما أدى إلى ربط قضية الفشل بعدم حفظ الدروس، وبالتالي ظلم الطالب.
7- إهمال جانب الاستقصاء والبحث عن معلومات إضافية، بعيدًا عن التقيد بالمواد الدراسية.
8- وجود أعداد كبيرة من الطلاب في قاعات الدراسة، ما أدى إلى خفض قيمة التواصل بين المعلم والطلاب، بالإضافة إلى خفض القدرات الإنتاجية؛ لعدم قدرة المعلم على التواصل مع جميع الطلاب.
سلبيات المناهج المستوردة
لعب المبشرون المسيحيون الغربيون دورًا رئيسًا في تنظيم مناهج التربية التي تبنتها المؤسسات التربوية الحديثة في الأقطار الإسلامية، غير أنّ الحساسية الدينية التي أثارتها ممارسات المبشرين جعلت الدول الغربية تسند النشاطات الثقافية إلى مؤسسات جديدة اتخذت طابع المعونات الثقافية الدولية.
وقد ركّزت هذه المؤسسات على استقدام النخبة من أبناء العالم الثالث ومنه الأقطار العربية والإسلامية لتعليمهم وتدريبهم في الجامعات الغربية، ثمّ إعادتهم ليكونوا وكلاء يُهيئون الأجواء لاستهلاك نماذج الثقافة الغربية ومنتجاتها.
ولمّا كانت البعثات التبشيرية في غالبها أمريكية الجنسية، ومؤسسات المعونة الدولية، فإنّ أهدافها كانت أبعد من أهداف البعثات التبشيرية، فهي لم تقتصر على التربية وإنما أضافت لها البحث الأكاديمي الذي أسهم في تطوير برامج تقنية ونشاطات ذات أثر سياسي وأيدولوجي أعمق، ومن أشهر هذه المؤسسات: مؤسسة فورد، ومؤسسة روكفلر، ومؤسسة كارنيجي.
ولقد ترتب على نشاط هذه المؤسسات ظهور نوع جديد من الاستعمار الثقافي الذي استمد قوته من الهيمنة على مؤسسات التربية الحديثة في العالم الثالث وتوجيه وسائل الإعلام توجيها غربيًّا.
وبسبب هذا الاستعمار الثقافي صارت مؤسسات التعليم في الأقطار الإسلامية تُخرّج علماء، ولا تُطوّر علومًا فهي- مثلا- تُخرّج أطباء وليس علومًا طبية، وتُخرّج اقتصاديين ولا تُؤسس علومًا اقتصادية، وتُخرّج عسكريين ولا تُؤسس علومًا عسكرية، وهكذا.
ولم تستطع المناهج المستوردة، ضبط الطفل والتحكم فيه تربويًّا؛ فجعلت منه طفلًا مُتحررًا من كل شيء، قابلًا للثوران والفوران على نفسه وغيره، بل إن تلك الجرعة الزائدة من الحرية صاحبتها ودعمتها ثورة تكنولوجية ورقمية وقنوات وفضاءات للتواصل الافتراضي الجماعي، جعلت السيطرة عليه شبه مستحيلة، إذا كان الأب قادرًا على تتبُّع خطواته في الأزقة والشوارع، فإنه غير قادر على مجاراته في العالم الافتراضي.
ومن سلبيات هذه المناهج، أنها أقصت كل السلطات، بما فيها سلطة المُعلّم والأسرة، فتحول الأمر إلى صراع ظاهر ومضمر بين الأسرة والمدرسة، الأسرة تتهم المدرسة بالتقصير في التربية، والمدرسة تُلقي باللائمة على الأسرة، وكلاهما يوجه سهام الاتهام للإعلام، وفي ظل هذا التشابك في العلاقات والمسؤوليات في عالم معقد جعل الطفل ينعم بالتحرر الزائد.
ولا شكّ أنّ المناهج والتوجيهات التربية الحديثة كرّست التمييز بين أبناء الفقراء والأغنياء، وزادت في الشرخ والبون بينهما؛ بين مَن يتلقى تعليمًا قريبًا من منطق السُّوق، ومَن يتلقى تعليمًا بعيدًا عنه، الأمر الذي يجعل الأول متحكمًا في مستقبل الثاني.
وقد تسببت هذه المناهج الحديثة في فقدان الشخص ملامح هويته وما يميزه عن الأغيار، فأصبح كل همّه أن يكون نسخة لللاعب الفلاني، أو المغني الفلاني، أو الصيحة الحالية، إنه الاستلاب في أبشع مظاهره، فتلك السموم تمرر عبر البرامج والمناهج التربوية الحديثة.
كذلك، فإنّ البرامج والتوجيهات الحديثة نفعيةٌ في صياغتها وفلسفاتها، فقد همّشت القيم والوجدانيات بشكل واضح، وجعلت الإنسان غارقًا في مادية تُهدد استقرار حياته في جميع المجالات، وجعلت البيئة والجمال في آخر مراقي سلمها.
سباق غير متكافئ
تركزت نشاطات مؤسسات المعونات الدولية- كما عبر عن ذلك رؤساؤها- حول إعداد القيادات المحلية في أقطار آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، لترعى مصالح الولايات المتحدة كما يرعاها القائمون على مؤسسات المعونات الدولية أنفسهم، وأنه بسبب هذا الهدف بدأت هذه المؤسسات بعد عام 1945 تخوض حربًا ثقافية باردة مساندة لأولئك الذين يقومون بنشاطات عسكرية واقتصادية وسياسية فيما وراء البحار.
وكذلك فإن تبادل المعرفة والثقافة على نطاق عالمي هو من أبرز سمات العالم الحديث، ويجري ذلك من خلال مؤسسات عالمية كاليونسكو والبنك الدولي ووكالات المعونات الدولية وشبكات الكمبيوتر العالمية، وتبادل المعلومات الجامعية والمؤسساتية، وخلال هذا التوزيع العالمي للثقافة يعاني العالم الثالث من اضطراب میزان المدفوعات الثقافية حيث يستورد من المعرفة والثقافة أكثر مما يُصدّر.
والعالم الثالث يعتمد بشكل رئيس على الدول الصناعية فيما يستعمله من مناهج التربية والتعليم، وفيما يقرأه وفيما يشاهده، وفي البحث التربوي والعلمي والمعرفة التكنولوجية والإدارية والعسكرية، وحتى في المعلومات والدراسات والمعارف المتعلقة بالعالم الثالث نفسه، فهذه وأمثالها يجري إنتاجها في الأقطار الصناعية المتقدمة وفي مؤسسات البحث ودور النشر فيها، ثمّ تُوزع في العالم الثالث من خلال خبرائها وبعثاتها وإرساليّاتها ومؤسساتها الثقافية والدينية والإعلامية وغيرها.
وإن لم تقم في العالم الثالث مؤسسات وبرامج ومناهج معرفية وعلمية مستقلة يعمل فيها باحثون وعلماء مستقلو التفكير ثمّ تتضافر لإنتاج معارفها ومناهجها وعلومها الخاصة، وتتفاعل مع سوق المعرفة الدولية بكفاءة واستقلال، فسوف يظل العالم الثالث مُلحقا معرفيًّا ومختبر تجارب وسوق استهلاك تربوي وثقافي للأقطار الصناعية الكبري.
لذلك ضاعت المناهج التّربوية في الأقطار العربية والإسلامية بين ثلاثة فرقاء:
- فريق مغترب في الماضي لا وعي لهم بحاجات الحاضر وتحديات المستقبل، ولا اتصال مباشر لهم بالكتاب والسنة؛ فهم أناس يرفعون فهم الآباء للكتاب والسنة إلى منزلة الكتاب والسنة، ويُصرّون على تقليدهم ويعتقدون عصمتهم.
- وفريق المثقفين المستغربين أَسَرَتْهُم الثقافة الغربية وشكّلت أنماط التفكير عندهم، وصنعت منهم وُكلاء توزيع وتسويق لثقافاتها ومعارفها، فهؤلاء تشابهت قلوبهم- حسب تعبير القرآن- مع قلوب المبشرين الذين خطّطوا المناهج في عهود الاستعمار الاحتلالي، وقلوب الخبراء العاملين في مؤسسات المعونات الدولية الذين خططوا المناهج ومؤسساتها في عهود الهيمنة الأمريكية؛ لذلك لا يكون لجهودهم من أثر إلا تكريس الاستعمار الثقافي والاغتراب التربوي.
- وبالنسبة للمستشارين الأجانب، فهؤلاء تُوجههم أهداف بلادهم في الاستعمار الثقافي والهيمنة الفكرية؛ لذلك فإن الركون إليهم يضر بحاضر الأمة ومستقبلها، حيث عمد هؤلاء- مثلا- إلى ملء المقررات الدينية بمقررات الفِرَق والمذاهب المتصارعة، ومقررات التاريخ بأخبار العصبيات القبلية والشعوبية، ومقررات الأدب بأشعار الغزل والهجاء والمدح والفخر الجاهلي وامتداداتها فيما بعد في العصر الإسلامي، وجميع هذه المناهج أسهمت في إثارة الفتن السياسية والمفاسد الاجتماعية ونشر أنماط الحياة التي تبتعد عن قيم الإسلام.
اقتراحات وحلول
لا بُد لمؤسسات التربية في الدول الإسلامية أن تهتم بوضع خطط لإحياء مناهج التربية والتعليم وإعادة صياغتها، كي تتلاءم مع العصر الحديث وفي الوقت نفسه تُحافظ على الموروث التربوي الإسلامي الذي يحمي مجتمعنا من الثقافة الغربية التي لها آثارها السلبية، ويمكن ذلك من خلال:
- البدء في عملية تأصيل تلك المناهج بالنظر في آيات الله وفي الآفاق والأنفس، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164].
- إجراء تزاوج بين علوم الماضي مع الإحاطة بعلوم الحاضر، ويؤكد هذا المعنى ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر الغفاري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “… وعلى العاقلِ أنْ يكونَ بصيرًا بزمانِه مُقبِلًا على شأنِه حافظًا لِلسانِه، ومَن حسَب كلامَه مِن عملِه قلَّ كلامُه إلَّا فيما يَعنيه”.
- إقامة مؤسسات وبرامج ومناهج معرفية وعلمية مستقلة في الدول الإسلامية يعمل فيها باحثون وعلماء مستقلو التفكير لإنتاج معارف ومناهج وعلوم خاصة، تتفاعل مع سوق المعرفة الدولية بكفاءة واستقلال.
- مراجعة مراحل الجمود والتقليد في المناهج مراجعة ناقدة.
- القيام بتزكية شاملة جريئة لمعارف هذه المرحلة وموروثاتها.
- اكتشاف عصور الاجتهاد والازدهار لاستئناف السّير من حيث توقفت.
- المضي لمعالجة مشكلات الحاضر وتلبية حاجات المستقبل.
- التركيز على استخدام الوسائل التعليمية، والأنشطة التي تُظهر مهارات المتعلمين، بدلا من الاكتفاء بالحفظ والتلقين.
- تشجيع الطلاب على الإبداع من خلال الأنشطة البحثيَّة، وإكسابهم قدرة عالية على التعبير عن آرائهم في الأمور الأكاديمية والحياتيَّة، مع بلورة وصياغة شخصياتهم في الجوانب العقلية، والنفسية، والانفعالية، وغيرها.
أخيرًا
فإن مناهج التربية في الدول الإسلامية، لا بُد من إعادة النظر فيها وصياغتها من جديد، بحيث تنطلق من عقيدة إيمانية في فلسفتها وأهدافها ومحتواها ووسائلها، لتلائم الفطرة الإنسانية التي فطر الله- عز وجل- الناس عليها، ولا بد من النظر في الكون وما فيه وما يحكم ذلك كله من سنن وقوانين.
المصادر والمراجع:
- ماجد عرسان الكيلاني: كتاب مناهج التربية الإسلامية والمربون العاملون فيها.
- عيوب التعليم التقليدي .
- نقد مناهج وبرامج التربية الحديثة .
- أزمة التعليم المعاصر وحلولها الإسلامية الإسلامية .
- عيوب الطريقة التقليدية للتعلم .