رحم الله – عز وجل – كل مَن أرشد الأمة إلى حُسن طاعتها لربها، والدفاع عن شريعتها، والحفاظ على ثوابتها، ورحلوا بعدما تركوا آثارًا ومواقف وتاريخ أضاءت ظلمات الدُّجى أمام الحيارى في الأوطان المكلومة.
فالنّاس لا يعرفون كيف يُعبد الله – جل وعلا – من دون الرجوع إلى العلماء الرّبانيين الذين يضعون أيدي العباد على الحقائق، ويُهيئون قلوبهم وعقولهم للطاعة وحسن الاتّباع، لذا فإن حياتهم غنيمة وموتهم مصيبة يتألم بسببها كثيرٌ من الناس، وهو ما حدث بعد رحيل الأستاذ لاشين أبو شنب صاحب التاريخ الدعوي المُشرّف.
بداية رحلة لاشين أبو شنب
في قرية بتبس – إحدى قرى مركز شبين الكوم التابع لمحافظة المنوفية بمصر – وُلِدَ الأستاذ لاشين علي عبد الله لاشين أبو شنب – الذي اشتُهر بين الناس باسم لاشين أبو شنب – في 25 يونيو 1927م، الموافق 25 ذو الحجة 1345هـ، وهو من أسرة ريفية تهتم بتعاليم الإسلام.
حرص والده على تعليمه وتحفيظه القرآن الكريم في سن صغيرة، ما أهّله إلى دخول الأزهر -رغم صغر سنّه – باستثناء من شيخ الأزهر لحفظه القرآن الكريم.
والتحق بمعهد شبين الكوم الثانوي الأزهري، ثم انتقل إلى معهد الزقازيق الثانوي الأزهري في الصف الخامس الثانوي، وحصل على الثانوية الأزهرية منه، والتحق بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، التي تخرّج فيها عام 1953م. ولحبّه للعلم حصل – أيضا – على دبلوم المعهد العالي للتربية سنة 1954م.
اكتسب – أبو شنب – الكثير من الصّفات النفسية، والمهارية اللغوية، التي أهلته لارتقاء المنابر كخطيب مفوه منذ صغره.
وبعد تخرّجه عَمل في التدريس والخطابة، حتى سافر إلى الكويت عام 1960م للعمل في مجال التدريس، حيث ظل هناك ثلاث سنوات قبل أن ينتقل إلى المملكة العربية السعودية، ويعمل في جامعة محمد بن سعود لمدة خمس سنوات، وعقب عودته إلى مصر تَدَرَّجَ في مواقع وزارة التربية والتعليم حتى وصل إلى مدير عام إدارة تعليمية، ثم أُحِيل إلى المعاش على سن 65 عامًا، وكان قد حصل على لقب المدرس المثالي في وزارة التربية والتعليم على مستوى الجمهورية في إحدى السنوات.
وفي مجلس الشعب، يذكر البعض أنه كَالَ التُّهم لصفوت الشريف – ضابط المخابرات في الستينات ووزير الإعلام في عهد مبارك – التي أكدها بالأدلة والبراهين ما أعجز “الشريف” عن الدفاع عن نفسه، إلا أن يقول: “كانت أوامر وكنت باخدم مصر”.
جهود لاشين أبو شنب في الغربية
وكان من أَثَرْ جهود لاشين أبو شنب مع إخوانه في محافظة الغربية، العديد من الأعمال التي عادت بالفضل على الناس، ومنها:
1- إنشاء جمعيات أهلية، ومنها الجمعية التربوية الإسلامية.
2- بناء مدارس تعليمية، مثل مدارس الجيل المسلم، ومساجد ومنها مسجد الشهيد، ومؤسسات طبية، بينها مستشفى طيبة في طنطا.
3- إعادة لقاء الثلاثاء في المساجد التي يُديرها الإخوان، أو مَن هو قريب منهم.
4- المشاركة ولأول مرة منذ عهد الإمام البنا في الانتخابات البرلمانية.
5- المشاركة في النقابات، ونوادي هيئات التدريس، واتحادات الطلاب والأندية، وغيرها.
بين الصفوف المؤمنة
كان الأستاذ حسن البنا – مؤسس جماعة الإخوان المسلمين – يُنظم حركاته وزياراته إلى مناطق القطر المصري، فكان ينتهز فرصة إجازة نصف العام ليزور مدن وقرى وجه بحري، وفي الصيف كان يشد الرحال إلى مدن ومحافظات الصعيد.
وفي زيارة إلى مدينة شبين الكوم عام 1940م، حضر الأستاذ لاشين أبو شنب مع والده إحدى محاضرات الإمام البنا، وتعرّف إليه وعُمره ثلاثة عشرة عامًا، وأعجب بدعوته وأسلوبه، وأصبح أحد طلاب الإخوان في المعهد الأزهري، حيث اختير مسؤولا عن طلاب الإخوان في معهد شبين ومعهد الزقازيق.
وهو ما ذكره في حوارٍ أُجري معه بقوله: “كانت بداية معرفتي بالإخوان سنة 1940م تقريبًا.. حيث قابلت الإمام الشهيد حسن البنا ضمن جولاته التي كان يطوف فيها المدن في المناسبات المتعددة، واستمعت إليه، وكان ذلك في ذكرى هجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولم أكن في ذلك الوقت أستوعبُ كل ما قاله، لكني كنت معجبًا بأدائه ولباقته وقوته في العرض، وكان حريصًا بعد أن ينتهي من كلامه أن يستمع إلى كل شخص يسلِّم عليه وأن يتعرَّف به، وتعرفت عليه وذكرت له اسمي”.
في العام التالي مباشرةً، أُعلن في معهد شبين الكوم – الذي كنت أَدْرِسُ فيه وقتها – أن هناك محاضرةً للإمام حسن البنا ستكون في مدينة طنطا بجوار محطة القطار، فذهبتُ واستمعتُ إليه، وبعد ذلك استضاف الإخوان الإمام حسن البنا في مقر شعبة قسم ثان طنطا، وهناك التقيت به ووجدته يسلِّم عليَّ ويذكر اسمي، وأنّي في معهد شبين الكوم الديني، وأصابتني الدهشة لأن يظل متذكرًا اسمي، وغلبني البكاء!”.
كانت للصفات التربوية والمهارية والقيادية التي اتّصف بها “أبو شنب” وسط زملائه دور في اختياره عضوًا في جوالة الإخوان المسلمين، ثمّ اختاره الحاج فرج النجار – مسؤول التنظيم الخاص لوسط الدلتا – ضمن أعضاء التنظيم الخاص، حيث شارك في أعمال جمع السلاح للمجاهدين في حرب فلسطين عام 1948م التي تعرّض على إثرها للاعتقال في سجن الهايكستب لفترة.
وشارك ضمن فدائيي الإخوان في حرب القنال عام 1951م، الذين استطاعوا أن يقلقوا مضاجع المحتل البريطاني، لكن استشهد منهم عُمر شاهين، وعادل غانم، وأحمد المنيسي من جامعة القاهرة.
وبعد سفره للخارج كان وسط إخوانه في الكويت والسعودية حتى عاد عام 1981م، ليستقر به المقام في طنطا، ويصبح أحد قادتها البارزين، بل ويصبح من أبرز العناصر المعروفة لدى أهالي الغربية حتى اختير عضوًا بمجلس الشعب عن دائرة طنطا عام 1987م.
وفي اجتماع مجلس الشورى العام للإخوان، في يناير عام 1995م، انتُخب الأستاذ لاشين أبو شنب عضوًا لمكتب إرشاد الإخوان، وظل كذلك حتى اعتذر عن المشاركة في الانتخابات في يناير 2010م.
وكان للحاج لاشين إسهاماتٍ كبيرةٍ في مجال التعليم، حيث كان له دور ريادي في تأسيس مدارس الجيل المسلم بطنطا والغربية، التي أصبح لها مكانة تربوية عظيمة وسط المدارس بمختلف مراحلها.
كما كان له نشاط واضح وسط الإخوان في العديد من الدول الخارجية، حيث زار فرنسا، وإنجلترا، والنمسا، وألبانيا، وكرواتيا، واليونان، والولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وغيرها من الدول.
سنوات المحنة
المحنة والابتلاء سُنّة من سنن الله – عز وجل – ليُمحّص المؤمن من المنافق، وليعرف صدق المؤمنين سواء في السراء أو الضراء.
وأعطى لاشين أبو شنب نموذجًا تربويًّا، وقدوة في الثبات على المحن، والتزام طريق الحق حتى وفاته، ففي عام 1948م، ووقت ما كان الإخوان مشغولون بمحاربة الصهانية في فلسطين، صدر قرار من النقراشي باشا بحل جماعة الإخوان، واعتقال أفرادها، ومن بينهم “أبو شنب” الذي كان طالبا في الثانوية الأزهرية، وظل في السجن ما يزيد على ثلاثة أشهر.
وفي أثناء محنة عام 1954م، كان “أبو شنب” في مأمنٍ من الاعتقال حتى سافر إلى الكويت عام 1960، وحينما عاد عام 1981م، قُبِضَ عليه بتهمة إصدار حُكم عليه بخمسة عشرة عامًا في عهد عبد الناصر، غير أنه صدر عفو عنه بعد عام في عهد مبارك.
ولم يترك الأستاذ لاشين العمل الدعوي وسط الشباب والناس بالحكمة والموعظة الحسنة، فاعتقل عام 1995م على خلفية اجتماع مجلس الشورى العام، وحُكِمَ عليه في القضية العسكرية رقم (11/ 1995 جنايات عسكرية) في 23 نوفمبر في عام 1995، وصدر الحكم بعد أكثر من عام على براءته، لكن نظام مبارك عاد فاعتقله لعدة أشهر في أحداث عام 2006م، قبل أن يطلق سراحه.
وحينما وقع الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013م، كان هدفًا لقوات الانقلاب، إلا أنهم لم يتمكنوا منه حتى وفاته، حيث اقتُحم منزله أكثر من مرة لاعتقاله.
تربويات
اتّسم الأستاذ لاشين أبو شنب بالحركة وعدم الاستكانة إلى الراحة في دعوته إلى الله – تبارك وتعالى – وكان يمتاز بروحه الشبابية وخفّة دمه وذاكرته القوية، ومداومته على كتاب الله، وقد تتلمذ على يديه أجيال كثيرة داخل الجماعة وخارجها، وكان قويًّا في الحق لا يخاف في الله لومة لائم.
يقول الدكتور وصفي عاشور أبوزيد: تنقل الأستاذ لاشين في محافظات مصر، لا أذكر محافظة أو مدينة في مصر لم يزرها، مربيًا الأجيال، ومعلمًا الرجال والنساء، ومحرضًا على العمل المتواصل والتضحية النبيلة والصبر الجميل، وناشرًا الأمل والخير والعلم، وباعثًا أمارات اليقين الجازم والفأل الحسن.
كانت كلماته قوية عميقة، واختياراته الأسلوبية مؤثرة معبرة، وعباراته مُدوية مزلزلة؛ تخلع قلبك، وتأخذ عقلك، وتُمتع نفسك، وتُطْرب روحك، فلا تملك أن تتلفت عنه لحظة، ولا أن تنصرف عنه ثانية، وكيف تنصرف عن هذا النور الهادي، أو تعرض عن هذا البيان الرائق، أو تتلفت عن هذا الأفق الوضيء؟!
وفاته
مع كبر السّن أصاب الأستاذ لاشين أبو شنب بعض الأمراض التي دفعته إلى عدم الترشح مرة أخرى لانتخابات مكتب الإرشاد، حتى أصيب بالشلل أواخر حياته، وظل صابرًا راضيًا بقضاء الله وقدره حتى توفاه الله مساء الخميس 25 سبتمبر 2014م الموافق 1 ذي الحجة 1435هـ، عن عُمر ناهز 87 عامًا، وشيعت جنازته عقب صلاة الجمعة بمسقط رأسه في شبين الكرم، وشارك في تشييع الجنازة الآلاف من أعضاء ومؤيدي جماعة الإخوان المسلمين، يتقدمهم الدكتور محمد علي بشر القيادي بجماعة الإخوان.
المصادر
- عبده دسوقي: تاريخ مكتب الإرشاد ومجلس شورى الإخوان المسلمين، دار راية، القاهرة، 2012، صـ149.
- “لاشين أبو شنب” شباب الإخوان المتجدد: 15 أبريل 2006،
- لاشين أبو شنب.. فارس المنابر ومؤسس “الجيل المسلم”: 25 سبتمبر 2016،
- محمد حبيب: عن الحياة والدعوة والسياسة والفكر (مذكرات)، دار الشروق مصر، 2012، صـ426.
- وصفي عاشور أبو زيد: وداعًا لاشين أبو شنب.. سيد قطب هذا الزمان، 27 سبتمبر 2014م،