لقد نقلت أمهات المؤمنين كل شيء عن بيت النبي – صلى الله عليه وسلم-، ليقتدي به المسلمون في كل زمان ومكان، فهو الذي تركنا على المحجة الصافية النقية، بل إن الله – تبارك وتعالى- علّق سعادة الدارين بمتابعته في كل تفاصيل الحياة، خصوصًا فيما يتعلق بالأسرة والتربية وغرس الأخلاق الكريمة في الرّعية.
وعلى النقيض، جعل الله – جل وعلا- شقاوة الدّارين في مخالفة تعاليم النبي – صلى الله عليه وسلم- داخل البيت، وعدم اتباع هديه في معاملة الزوجة والأبناء والخدم، حيث يُورث كل ذلك الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة.
العبادة في بيت النبي
كانت العبادة في بيت النبي – صلى الله عليه وسلم- منهجًا لمَن يُريد من أصحابه السير على خطى نبي الرحمة في التودد إلى الله – جل وعلا-، وما زال شكل هذه العبادة وكيفيتها هي النموذج الذي يُمكن أن نتأسى به في وقت، فها هو المغيرة بن شعبة يصف لنا اجتهاد النبي – صلى الله عليه وسلم- في عبادته لربّه فيقول: قام النبي – صلى الله عليه وسلم- حتى ورمت قدماه، قالوا: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: “أفلا أكون عبدًا شكورًا” (البخاري).
ومن العبادات التي كان النبي – صلى الله عليه وسلم- مجتهدًا فيها الصيام، فقد وَصَفت عائشة – رضي الله عنها- شدة اهتمامه بها فقالت: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان” (سنن أبي داود).
أمّا عن الصدقة؛ فقد كان – صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، لِمَا وَرَدَ عن عقبة بن الحارث – رضي الله عنه- أنه قال: “صليت مع النبي – صلى الله عليه وسلم العصر، فلما سلم قام سريعا، دخل على بعض نسائه، ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته، فقال: “ذكرت وأنا في الصلاة تبرًا عندنا، فكرهت أن يمسي أو يبيت عندنا، فأمرت بقسمته” (البخاري).
ولم يخل بيت رسول الله، من الذكر، فقال تبارك وتعالى: “وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا” (الأحزاب: 34).
لقد عرف النبي – صلى الله عليه وسلم- أنّ العبادة هي طريق التمكين، لذا حرص عليها في المنشط والمكره، وحثّ عليها الصحابة الكرام، بل كانت آخر وصيّة له قبل الانتقال إلى الرفيق الأعلى هي الصلاة، فأين نحن اليوم من عبادة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في بيوتنا؟ وقد ضيع الناس الفروض قبل النوافل إلا من رحم الله!
أمهات المؤمنين في بيت النبي
لقت عاشت أمهات المؤمنين – رضوان الله عليهن- في بيت النبي – صلى الله عليه وسلم- عيشة العزة والكرامة والرفق والحنان والرحمة، فعن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي..” (صحيح الترمذي).
ولقد كان – صلى الله عليه وسلم- في خدمة أهله؛ فعن الأسود قال: سألت عائشة ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يصنع في بيته؟ قالت: “كان يكون في مهنة أهله. تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة” (البخاري)، وليعلم أن الرجل الذي يعين زوجته فهو علامة على صلاحه ودينه وخلقه وتأسيه بالنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وكان – عليه الصلاة والسلام- مرحًا، فعن عائشة – رضي الله عنها- قالت: أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم- بحريرة قد طبختها له، فقلت لسودة والنبي – صلى الله عليه وسلم- بيني وبينها: كلي، فأبت؛ فقلت: لتأكلن أو لألطخن وجهك فأبت فوضعت يدي في الحريرة فطليت وجهها فضحك النبي – صلى الله عليه وسلم- فوضع بيده لها، وقال لها: “الطخي وجهها”، فضحك النبي – صلى الله عليه وسلم- لها فمر عمر، فقال: يا عبد الله؛ يا عبد الله؛ فظن أنه سيدخل فقال: “قوما فاغسلا وجوهكما”، فقالت عائشة: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد كان – صلى الله عليه وسلم- يعدل بين نسائه ويتحمل ما قد يقع من بعضهن من غيرة، فعن أم سلمة – رضي الله عنها- أنها أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة، فجمع النبي – صلى الله عليه وسلم- بين فلقتي الصحفة وهو يقول: “كلوا، غارت أمكم”، مرتين. ثم أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة وأعطى صحفة أم سلمة عائشة (البخاري).
ولم يضرب النبي – صلى الله عليه وسلم- زوجاته أبدًا، فعن عائشة – رضي الله عنها- قالت: ما ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل.
هدي النبي مع أولاده
وفي بيت النبي – صلى الله عليه وسلم- عاش أبناؤه الصغار في ظل الرحمة والحنان، حيث كان النبي راعيا لأبنائه رعاية كاملة، حتى في الأوقات الحالكة والصعبة، ففي البخاري أنه لمّا أراد رسول الله – صلى الله عليه وسلم- الخروج إلى بدر أمر عثمان بن عفان – رضي الله عنه- أن يبقى عند زوجته رقية بنت الرسول – صلى الله عليه وسلم- لأنها كانت مريضة.
وعن ابن عمر – رضي الله عنه- قال: وأما تغيبه – أي: عثمان بن عفان- عن بدر؛ فإنه كانت تحته بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وهي: رقية. وكانت مريضة، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “إن لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه”.
نعم إنها المسؤولية الحقة التي لا تحتاج إلى بيان وتوضيح بل إلى اقتداء وعمل، فإلى مَن يلجأ للبحث عن كيفية رعاية أهل بيته بين صفحات علم النفس التربوي الحديث الذي أغلبه مصادر لا تزيد الأمر إلا تعقيدا، هلا رجعت إلى منابع دينك، ففي السنة وشروحها ما يغنيك كل الغنى، بل يكفي أنّ فيها الصفاء والنقاء والصدق والهناء والراحة والسعادة.
وكان – النبي صلى الله عليه وسلم- رحيما بأولاده؛ فقد أخذ ولده إبراهيم فقبله وشمّه وعاتب بعض الناس على قسوته وترك رحمة الصغير، كما فعل مع الأقرع بن حابس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ الأقرع بن حابس أبصر النبي – النبي صلى الله عليه وسلم- يقبل الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدًا منهم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “أَوَأملكُ لكَ أنْ نزعَ اللهُ من قلبك الرَّحمة! من لا يَرحَمُ لا يُرحم” (البخاري ومسلم).
فمن الآباء والأمهات مَن هم غلاظ شداد على أولادهم، فلا رحمة ولا شفقة عليهم، يضربونهم ضربًا مبرحًا لوقوعهم في أخطاء يسيرة يُمكن التجاوز عنها مع التوجيه لهم والتبيين، متناسين أن الراحمين يرحمهم الرحمن.
هدي الرسول مع الخدم
بل إنّ الخدم نعموا في بيت النبي – صلى الله عليه وسلم- بحياة كريمة ومعاملة حسنة، فعن أنس – رضي الله عنه- قال: “خدمت رسول الله – صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال أُفًّا قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا؟” (البخاري ومسلم والترمذي).
ومن مكارم أخلاقه عليه الصلاة والسلام- أنه كان يطعم الخادم، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “إذا صنعَ لأحدِكم خادمُهُ طعامًا ثمَّ جاءَهُ بِهِ وقد وليَ حرَّهُ ودخانَهُ فليُقعدْهُ معَهُ ليأْكلَ فإن كانَ الطَّعامُ مشفوهًا فليضع في يدِهِ منْهُ، أَكلةً أو أَكلتينِ” (مسلم).
أبعاد إنسانية من حياة الرسول
إن المتتبع لمعالم بيت النبي يتبين له بالملموس حضور البعد الإنساني في حياته الأسرية، فهو بيت التوحيد والأخلاق والتعمير والاستخلاف وهي أسس قد نجد تجلياتها من خلال العناصر الآتية:
- الاعتراف بالفطرة: إن اعتراف البيت بالفطرة وتوجيهها والتعامل وفقها يجعل منه بيت مودة ورحمة وتسامح، واستقرار وسعادة، من هنا نفهم اعتراف رسول الله بالفطرة داخل بيته وتعامله وفقها، فقد كان عليه الصلاة والسلام، يُبدي محبته لأزواجه ويعلن إرضاءه لهن ويكشف رحمته للأبناء ويتجاوز عن الزلات، لقد كان بيت الرسول، بيت اعتراف بالأحاسيس والمشاعر التي تخالج النفس البشرية، تلك النفس التي تحتاج إلى من يحنو عليها ويقدرها ويصون كرامتها.
- حرية الاختيار: إن استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة وذلك هو المراد بالحرية، وإذ جعلت الشريعة الحرية مقصدًا من مقاصدها، فقد كان بيت رسول الله ترجمة عملية لها، فقد كانت نساؤه يراجعنه في كثر من الأمور، كما خيرهن بين البقاء معه أو تسريحهن لما اشتكين ضيق الإنفاق إعلانًا بأن الحياة الزوجية هي حياة اختيار وليست حياة إجبار، وخير عليا بين الإبقاء على عصمة ابنته فاطمة أو فراقها لما هم بزواج بنت عدو الله أبي جهل، فدل كل ذلك على أن الحرية شرط أساسي لضمان إنسانية الإنسان داخل الأسرة.
- المشاركة في التعليم والسياسة والحياة العامة: لقد كان بيت رسول الله بيت علم ومشاركة في الحياة العامة، فقد كانت أمنا عائشة أوّل مرجع بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم- يرجع إليه، قال الزهري: “لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل”، وكان عمر – رضي الله عنه- يحيل عليها كل ما تعلق بأحكام النساء وبأحوال النبي البيتية، لا يضاهيها في هذا الاختصاص أحد من النساء على الإطلاق.
العيد في بيت النبي
العيد مظهرٌ من مظاهر الدين، وشعيرة من شعائره المعظمة، والنفوس مجبولة على حب الأعياد والسرور بها، وقد جاءت سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمشروعية عيدي الفطر والأضحى، فعن أنس – رضي الله عنه – قال: “قَدِم النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرًا منهما: يومَ الفطر والأضحى” رواه أبو داود.
إنّ الأعياد فرصة عظيمة للترابط الأسري وإظهار الفرح والسرور والتوسعة على الأهل والأطفال ليشعروا بسعادة العيد وشعائره بعد صيام شهر كامل.
ففي يومٍ بهيج من أيام المدينة النبوية، وفي صباح عيدٍ، كان بيت النبي – صلى الله عليه وسلم- وما حوله يشهد مظاهر الاحتفال بالعيد، على مرأى ومسمع من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقد كانت مظاهر الفرح والسرور تملأ جنباته وتتعدد من ملبس ومشرب واحتفال، وكذلك بيوت الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وفي ذلك يقول لأبي بكر فيما روته السيدة عائشة: “يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا”.
لقد كان من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- في العيد أنه يظهر الفرح والسرور، ويجتهد في إدخال الفرح في نفوس المسلمين، خصوصًا الصبيان منهم والنساء.
وفي وقتنا هذا ربما تحول الظروف التي تمر بها البشرية لإشاعة مظاهر الاحتفال بالعيد عامة، لكن هذا لا يمنع من إشاعتها على أهل بيتك وجيرانك وذوي أرحامك، فقد كان لرسول الله مظاهر، منها:
- غُسل العيد، قبل خروجه وفق بعض الروايات.
- أكله في العيد، فكان صلى الله عليه وسلم يأكل قبل خروجه في عيد الفطر تمرات، ويأكلهن وترا، وأما في عيد الأضحى، فكان لا يطعم حتى يرجع من المصلى، فيأكل من أضحيته.
- الصلاة في الخلاء: كان صلى الله عليه وسلم يصلي العيدين في المصلى ولم يصل العيد بمسجده إلا مرة واحدة أصابهم مطر، فصلى بهم العيد في المسجد.
- لبسه في العيد: فكان يلبس للخروج إليهما أجمل ثيابه، فكان له حلة يلبسها للعيدين والجمعة.
وكان صلى الله عليه وسلم يؤخر صلاة عيد الفطر، ويعجل الأضحى، وكان ابن عمر مع شدة اتباعه للسنة، لا يخرج حتى تطلع الشمس، ويكبر من بيته إلى المصلى. وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى، أخذ في الصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا قول: الصلاة جامعة، والسنة: أنه لا يفعل شيء من ذلك. ولم يكن هو ولا أصحابُه يصلون إذا انتهوا إلى المصلى شيئا قبل الصلاة ولا بعدها.
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالف الطريق الذي يذهب منه إلى المصلى، فإذا ذهب من طريق عاد من طريق آخر.
كما كان من هديه السير على الأقدام، وكان يأمر النساء والصبيان أن يخرجوا إلى المصلى ويشهدوا الذكر واجتماع الناس.
ومن هديه – صلى الله عليه وسلم- نشر البهجة في أهل بيته جميعا وإدخال السرور على أمته.
وفي هذه المناسبات الطيبة، كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يحث على صلة الأرحام.
ولم ينس النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء في هذا اليوم، كما لم ينس أهل بيته من إدخال السرور عليهم.
المصادر:
- الهيثمي: مجمع الزوائد، 4/318.
- الطحاوي: شرح مشكل الآثار، 8/423.
- ابن عساكر: تاريخ دمشق، 1/463.