من يقرأ القرآن لا بد أن يلفت انتباهه كثرة الحوارات في القرآن الكريم، المطولة منها والموجزة، فهناك حوار بين الله تعالى وملائكته الكرام، وحوار بين الله تعالى وأنبيائه، وحوار بين الله تعالى وبين إبليس، وحوارات كثيرة بين الأنبياء وأقوامهم، بل حتى الحوار بين نبي الله سليمان وطائر الهدهد، كل هذه الحوارات اعتنى بها القرآن، وذكرها مفصلة تارة ومجملة تارة أخرى، وكرر ذكر بعضها من جوانب مختلفة.
فكتاب الله عز وجل يحوي صورا ومعانٍ عجيبة، تغوص في أعماق النفس الإنسانية، تظهر ما فيها من خير، لتكثيره ومحاكاته، أو ما فيها من شر لتقليله واجتنابه، والمتأمل في القرآن يراها صورا حية، يصدق وجودها في كل زمان ومكان.
ومع هذه العناية البالغة بالحوار والجدال مع المخالفين، إلا إننا لا نرى أي حوار في القرآن مع المنافقين، فكل ما جاء في القرآن عن المنافقين – على كثرة الآيات التي تحدثت عنهم وعن مواقفهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة – لا يخلو إما أن يكون ذكراً لصفاتهم مثل قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّـهَ} [البقرة من الآية:9]، وقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّـهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء من الآية: 142]، وإما أن يكون فضحاً لمواقفهم مثل قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة من الآية: 58]، و{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة من الآية:107].
فقد تضمنت آيات القرآن الكريم هذا النوع من البشر – خاصة في الأمة الإسلامية – تذكيرا للمؤمنين، و إنذارا وتحذيرا للمنافقين الذين ادعوا الإسلام؛ لأن قبول الشريعة وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم من موجبات الإيمان، ومن بديهيات الإسلام.
وفئة المنافقين خصها القرآن بنحو ثلاثمائة وستين آية؛ وصورهم بأنهم التي تحدث عنها، ويكفي دلالة على ذلك أن بشرهم بالعذاب الأليم والدرك الأسفل من النار، قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النساء: 138).
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (النساء: 145)، كما تناولت سورة التوبة أحوال المنافقين وصورهم في المجتمع الإسلامي.
والنفـــاق في أصـــله اللغـــوي يعـــود إلى معـــان مختلفـــة حسب الاشتقاق الذي تؤول به، وإن كانـــت كلهـــا متقاربـــة، أما النفـــاق الاصـــطلاحي، فيأتي من كـــون المنـــافق يضـــع لنفســـه طريقين: “إظهـــار الإسلام، وإضمار الكفر، فمن أيهما طلبته خرج من الآخر”.
بينما النبي صلى الله عليه وسلم واجه هذه الحالات داخل مجتمعه الذي أسسه وكان يقوده، ليس على الصعيد الخارجي المتمثل في اليهود والكفار فحسب، وإنما على الصعيد الداخلي المتمثل في التيارات المناوئة، والعناصر المخالفة ، داخل المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة. وهو ما تعانيه الأمة الإسلامية في وقتها الحاضر أيضا حيث كثرت وتعددت وتنوعت صور النفاق حتى يكاد أن يصبح منهج حياة لكثير من الناس.
والنفاق لا يقتصر على فئة الرجال فحسب، بل شمل القرآن الكريم النساء أيضا ضمن هذه الفئة، حيث قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ۚ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة: 67).
وقال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} (الأحزاب: 73)
ولقد نص القرآن علـى هـذا الطـرف النسـوي في حركـة النفـاق، تنبيهـا للمـؤمنين علـى خطـره، وتحـذيرا لهم من كيده، وإن كانت التفاسير وكتب السنة ذكرت أسمـاء المنـافقين الـذين اشـتهر صـيتهم في عهـد التنزيــل القــرآني، فــلا يكــاد الباحــث يقـف علــى تســمية امــرأة واحــدة مــنهم، رغــم تأكيد القرآن على وجود المنافقات وهذا يدل بكل تأكيد على خفاء هذا الطـرف ممـا يجعلهـم أخطـر مـن غـيرهم.
كما أن النفاق في الدولة الإسلامية لم يظهر إلا في المجتمع المدني – رغم أن بعض الآيات تناولته في المجتمع المكي – لكون المسلمين في مكة مستضعفين فلم يرجو أحد منهم منفعة، بخلاف قوة الدولة في المدينة.
الغريب أن المسلمين من الماضي كان يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن مواطن الشر حتى يجتنبوه وعن مواطن الخير حتى يسلكوه، لكن في زماننا هذا فقد جلس المنافقون على بداية كل طريق يحيدون بالناس عن شرع ربهم في سبيل ترسيخ ثقافة الخوف والدعة من سلوك نهج الصالحين، وهو ما نعرفه الآن تحت مصطلح انفصام الشخصية.
طريقة تناول القرآن لهم
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان» (أخرجه الحاكم).
قال المناوي: أي كثير علم اللسان جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يتأكل بها وأبهة يتعزز بها يدعو الناس إلى الله ويفر هو منه.
والنظر في الآيات المجموعة والتأمل في سياقها القرآني المعجز يعطي فيضًا من المعاني والدلالات القرآنية، يضاف إلى ما يعطيه النظر في الآيات المفردة، ولذا نجد في القرآن خطاباً مثل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران من الآية: 65]، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [النساء من الآية: 47]، و{يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون من الآية:1]، ولا نجد فيه: «يا أيها المنافقون أو «يا أيها الذين نافقوا»، وإذا نظرنا في سورة «التحريم» نجد أن القرآن خاطب المؤمنين وخاطب الذين كفروا وحين جاء الحديث عن المنافقين توجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التحريم 9]، وهذا يشير إلى أن حديث القرآن عن المنافقين كان موجهاً بالدرجة الأولى للنبي والمؤمنين.
هدف القرآن من التعامل بهذه الطريقة مع هذه الفئة إلى تعريف المؤمنون بهم كي يحذروهم ويحققوا أمر الله فيهم بالنهي عن طاعتهم أو توليتهم أمور المسلمين وكذلك جهادهم، وقد ذكر العلماء أن معرفة المنافقين ممكنة من تتبع مواقفهم وتأمل أفعالهم وأقوالهم.
أسباب النفاق في المجتمعات
يــرى بعــض البــاحثين المعاصــرين أن حركــة النفــاق ذات بعــدين: نفســي واجتمــاعي، حيث يتمثل الجانب النفسي في أن عددا من الناس، على مدار التاريخ يسـوقهم تكـوينهم النفسـي إلى اتخاذ موقفين إزاء القضية الواحدة أحدهما ظاهر والآخر باطن، ويدفعهم الخوف إلى تغطية بواطنهم، ومن هذه الأسباب التي يجب أن يقيس كل فرد نفسه عليها:
- ضعف الإيمان واليقين في الله عزَّ وجلَّ وما عنده، فآثَر المنافق الدنيا العاجلة؛ لأنها ملموسة.
- الحقد الشديد على الإسلام والمسلمين، لأن الإسلام حرمه من الامتيازات التي كان يحصل عليها بطريق غير مشروع وبغير وجه حق.
- حب الشهوات والجاه والرياسة والزعامة، والخوف من ضياعها إذا ظهرت حقيقته فيتفرق عنه أتباعه وأعوانه.
- الابتلاءات والمحن ليعرف الصادق من الكاذب، فإذا جاءت الفتنة كانت سببًا في نفاق من كان إيمانه ضعيفًا، ولقد كان تحويل القبلة كاشفا لستر المنافقين.
خطر انتشار المنافقين على الأمة
يقول السيد طه أحمد: لخطور النفاق والمنافقين، جعل الله ثلاث عشرة آية في صدر سورة البقرة، بينما ذكر المؤمنين في أربع آيات، والكافرين في آيتين؛ لذلك يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله – يقول عن زمنه -: “لو كان للمنافقين أذناب، لضاقت بهم الطرقُ”، فمن أخطارهم:
- مُوالاتهم للكافرين وغدرهم بالمؤمنين، قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا* الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (النساء: 138).
- شقُّ صفوف المؤمنين وتخذيلهم، والسعي إلى فرقة الأمة، قال تعالى: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا }(الأحزاب: 12).
- إفساد عقيدة العامة عبر التاريخ كالسبئية الذين أغروا المسلمين على محاصرة عثمان بن عفان – رضى الله عنه – وقتلوه في بيته وهو يتلو القرآن.
- التعاون مع أعداء الأمة وما فعلوه في خيانة الأمة بالتعاون مع التتار في بغداد، وما فعله البعض بالتعاون مع الإنجليز في ضرب مقاومة أحمد عرابي في مصر وتسهيل الطريق لدخول واحتلال مصر.
بين العلاج والإبعاد
القرآن واضح وصريح في هذه الأمور، يذكرها سامي بن علي الهويدي بقوله: أن المنافقون قوم قد طبع الله على قلوبهم فلم يعودوا يقيمون وزناً للدليل الشرعي ولا للعقلي، والقرآن لم يوجه النبي ولا المؤمنين إلى جدالهم وحوارهم، وإنما هي إحدى حالين: الإعراض والصفح عنهم حال ضعف المسلمين، أو جهادهم والغلظة عليهم حال قوة المسلمين. وما سوى ذلك فلا مصلحة فيه، قال تعالى: {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّـهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63].
وقال ابن علية: “أدركت سبعين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه”.
ولقد أودع النبي صلى الله عليه وسلم سرا لسيدنا حذيفة بن اليمان، وأعطاه أسماء سبعة عشر منافقا، أمره إذا توفاه اللهُ عز وجل ألا يصلي عليهم، فجاء عمر بن الخطاب يسأل حذيفة بن اليمان، ويقول له: أُنشِدكَ الله: هل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اسمي مع المنافقين؟ هذا لعظم حق الله عليه؛ قال إبراهيم التَّيمي: “ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا”.
وللخلاص من هذا الداء يجب:
- التوبة ومحاسبة النفس والنظر ليوم القيامة.
- دعاء الله تعالى أن يجنبنا النفاق والرياء وسوء الأخلاق.
- الإيمان بالقضاء والقدر، والنظر إلى الدنيا بعين الزوال.
- الخوف من الموت وسوء الخاتمة، وعاقبة المنافقين؛ فقد جاء في الأثر عن ابن علية قال: “من خاف النفاق أمِنه، وما أمِنه أحد إلا وقَع فيه”.
- النظر في سير الصالحين المؤمنين.
- معرفة صفات المنافقين والتحلي بضدها من أخلاق الإسلام.