الوسائل التربوية ركن مهم من أركان العملية التربوية، فبها يتوصل المربي إلى تحقيق الهدف المراد، ولأن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ اهتم المسلمون بالوسائل وأحكامها وفعاليتها في تحقيق الغايات المنشودة.
فالوسائل التربوية تكتسب أهميتها من أهمية الأهداف المنشود تحققها من خلالها، فما يتوصل به إلى عظيم فهو عظيم وأي شيء أعظم من تزكية النفس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 – 10] فالفلاح في تزكية النفس، والهلاك في تركها.
الوسيلة التربوية وسط أركان التربية
الوسيلة التربوية تكون فعالة إذا كانت منسجمة مع طبيعة الهدف، ومرتبطة بالبيئة المحيطة، ومطابقة لمقتضى الحال، وملائمة لقدرات المتربي، وممكنة التنفيذ من المربي، بحيث تتساند أركان العملية التربوية ولا تتعاند، وتتعاضد ولا تتعارض، ويشد بعضها بعضًا، وأي خلل في العلاقة بين الوسيلة وغيرها من أركان العملية التربوية سيجعل من استعمالها فخًا تضيع في الجهود، وتهدر فيه الأوقات، وهناك العديد من المواصفات للوسيلة التربوية الناجحة:
-
- أن تكون الوسيلة التربوية منسجمة مع الهدف التربوي:
فالأهداف التربوية متنوعة، منها ما هو معرفي إدراكي غايته تقرير المعارف في ذهن المتربي، ومنها ما هو شعوري وجداني غرضه استثارة عواطف ومشاعر المتربي، وتوجيهها الوجهة الصحيحة، ومنها ما هو سلوكي مهاري هدفه إكساب المتربي المهارات الضرورية والسلوكيات المرضية التي تجعله فالحًا في الآخرة وناجحًا في الدنيا.
وهذا التنوع للأهداف التربوية لابد وأن يقابله تنوع في الوسائل التي تحققه، فالوسائل المخاطبة للعقل التي بها يُحصِّل المعرفة لابد أن تراعي طبيعة العقل، والوسائل المستثيرة للوجدان التي بها تتكون المشاعر لابد أن تنسجم مع طبيعة القلب، والوسائل المكسبة للمهارة لابد أن تكون قادرة على تمكين المتربي من امتلاك تلك المهاره واحترافها.
فلما قتل ابن آدم أخاه ولم يعلم كيف يواري سوءة أخيه، علمه الله هذه المهارة من خلال وسيلة البيان العملي، فتعلم ابن آدم التلميذ مهارة الدفن بالنظر والملاحظة للبيان العملي من معلمه الغراب ثم محاكاته؛ فدفن أخاه: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ﴾[سورة المائدة: 31]. - أن تكون الوسيلة مرتبطة بالبيئة المحيطة:
فالإنسان يتأثر بما حوله من بشر وحجر، ولا ريب أن المربي الذي لا يستفيد بعطاء البيئة التي يمارس فيها عملية التربية سيفقد الكثير من عطاء البيئة وتأثيرها في بناء الإنسان، بل إن المربى يحاول أن يُعرِّضه لمختلف البيئات حتى يحصل عطاءاتها الإيجابية وتأثيراتها النفسية المفيدة، فابن الجبل والصحراء تجد فيه صلابة الجبل وخشونة الصحراء، وابن الوادي والسهل تجد فيه وداعة الوديان وانخفاض السهول، وابن الساحل تجد فيه مغالبة التحديات كما نُشِّئ صغيرًا على مغالبة الأمواج …الخ. وعادة القرشيين في بعث أولادهم إلى البادية ليكونوا أقوى بنيانًا، وأشد جلدًا، وأحدّ نظرًا وعي صحيح وإدراك لتلك الحقيقة التربوية لعطاء البيئة لمن ينشأ فيها. - أن تكون الوسيلة مطابقة لمقتضى الحال:
فكما أنه من فقه المتكلم أن يراعي في كلامه مقتضى الحال الذي يتكلم فيه حتى يوصف كلامه بأنه بليغ أي بلغ الغاية منه، فكذلك المربي لابد أن يراعي في وسائله مقتضى الحال (حال الأمة العام وحال الفرد الخاص) فالأمة في حال الانكسار والهزيمة والاستضعاف تحتاج لوسائل تراعي هذا الحال وتنقلهم من حال إلى حال، والأمة في حال الانتصار والغلبة والتمكين تحتاج لوسائل تراعي هذا الحال لتستبقي فيهم عوامل الغلبة وأسباب الظهور فلا يتحول حالهم ولا تدور عليهم الأيام.
والفرد إذا فقد عزيزًا، أو ألم به مصاب، أو حاقت به محنة، يحتاج لوسائل مغايرة لما يحتاجه إذا أصاب خيرًا، أو وهب نعمة، أو حلّت عليه بركة؛ ومراعاة المربي لهذه الأحوال يسهم في نجاح رسالته التربوية.
ومن أراد أن يتأكد من أهميه ذلك فما عليه إلا أن يطالع سورتي آل عمران والأنفال ليعرف كيف عالجت السورتين قضايا المسلمين في حال انكسارهم وحال انتصارهم. - أن تكون الوسيلة ملائمة لقدرات المتربي:
فليس كل الناس سواء، فمنهم ذكي تكفيه الإشارة، وغبي لا تجدي معه العبارة، ومنهم كثيف الطبع بليد الشعور، ومنهم لطيف الطبع رقيق الفؤاد.
والمربي الناجح هو الذي قبل أن يغرس غرسه يتعرف على الأرض التي يغرس فيها فيختار لها ما يلائمها أهدافًا ووسائل مراعيًا قدرات المتربين، وملاحظًا للفروق الفردية بينهم، وإلا كان عمله هباء وداء لا دواء، وورد عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يراعي طبيعة المتلقين وفي حديث المسيء صلاته والرجل الأعرابي الذي بال في المسجد دليل وبيان على ذلك. - أن تكون الوسيلة التربوية ممكنة التنفيذ من المربي:
فالوسيلة الجيدة هي التي يجيدها المربي ويحسن تنفيذها وإلا كانت الوسيلة جسدًا بلا حياة، وصورة بلا روح، فليس كل مرب يصلح لتنفيذ كل وسيلة، كما أن كل وسيلة لا تصلح لكل مترب. فالنشيد مثلا قد يكون وسيلة تربوية ولكن لن يكون مؤثرًا إلا إذا أنشده موهوب ندي الصوت، واستمع إليه متأثر بالأناشيد الداعية إلى الفضائل، محبًا لها.
- أن تكون الوسيلة التربوية منسجمة مع الهدف التربوي:
مواصفات الوسيلة التربوية الفعالية
- أن تكون الوسيلة التربوية مبدعة:
فالإبداع فيه من الجاذبية والتأثير ما لا يوجد في غيره من وسائل تقليدية معتادة، ويكون المربي متميزًا بقدر ما يستطيع أن يُخلِّق من وسائل تربوية مبدعة لما يهدف إليه.
فلو أردنا تعريف شريحة عمرية ما ببعض المعارف المقدسية فيمكننا تنفيذ ذلك من خلال محاضرة أو ندوة ولكن استقرار تلك المعارف في ذهن المتلقي ستكون أعظم إذا اكتسب تلك المعارف عبر لعبة احترافية تستهدف تعريف اللاعبين بتلك المعارف.
ولنا في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قدوة حسنة حين استخدم وسيلة من وسائل الإيضاح المبدعة في بيان حقيقة الحياة الدنيا؛ فقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “خَطَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا، وخَطَّ خَطًّا في الوَسَطِ خَارِجًا منه، وخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إلى هذا الذي في الوَسَطِ مِن جَانِبِهِ الذي في الوَسَطِ، وقَالَ: هذا الإنْسَانُ، وهذا أجَلُهُ مُحِيطٌ به – أوْ: قدْ أحَاطَ به – وهذا الذي هو خَارِجٌ أمَلُهُ، وهذِه الخُطَطُ الصِّغَارُ الأعْرَاضُ، فإنْ أخْطَأَهُ هذا نَهَشَهُ هذا، وإنْ أخْطَأَهُ هذا نَهَشَهُ هذا” رواه البخاري.
- أن تكون الوسيلة مُجسِّدة للهدف التربوي:
لأن إدراك المعاني المجردة فيه صعوبة بخلاف الأمور المجسدة في صورة محسوسة فإنها أسهل في الإدراك، وأبلغ في إبراز المعاني وقد مارس الرسول- صلى الله عليه وسلم- تجسيد المعاني في صور مادية محسوسة بشكل كثيف ويكفي أن نذكر ما ورد عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (المؤمن لِلْمؤْمن كالبُنْيان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضا، ثُمَّ شَبّك بين أَصابعه) رواه البخاري. فنصف الحديث معنى مجرد والنصف الثاني تجسيد حسي لهذا المعنى ليكون أثبت في النفس وأرسخ في الذهن.
- أن تكون الوسيلة التربوية تفاعلية:
بحيث يكون المتربي مشاركًا في تنفيذها مع المربي فذلك أدعى لحضور ذهنه وانفعال شعوره، إذ لا يتصور أن يشارك إنسان في عمل ما وهو في غفلة وشرود ذهن، بل إن التلقين المحض الذي لا يشارك فيه المتربي يكون أقرب للملل، وأبعد عن الاستفادة، وأشق على النفس بحيث تنفر منه ولا تنتفع به، ولا تلتفت إليه.
وهناك قصة رائعة تؤكد هذا المعنى رواها الطبري، فقال: لما حضرت المهلب الوفاة دعا حبيبا ابنه ومن حضر من أولاده، ودعا بسهام فحزمت وقال لهم: أترونكم كاسري هذه السهام وهي مجتمعة؟ قالوا: لا، ففرق السهام وقال لهم: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم، قال: فهكذا الجماعة. ثم أوصاهم بأن يكون أمرهم واحدا وألا يختلفوا في كلام طويل، ثم قال:
كونوا جميعا يابني إذا اعترى ……. خطب ولا تتفرقوا آحادًا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا …….. وإذا افترقن تكسرت أفرادًا
وهذا شاهد مهم ودال على أهمية التشاركية خاصة في القضايا التي يراد لها أن تكون مستقرة في النفس استقرار الجبال.
إن تصميم الوسيلة التربوية من أهم مقومات نجاح العملية التربوية ويجب تصميم الوسيلة بحيث تنسجم مع أركان العملية التربوية الأخرى كملاءمتها لقدرات المربى ومقتضى حال المتربي ومنسجمة مع الهدف التربوي ومتصلة بالمناخ المحيط بالعملية التربوية، كما أن الوسيلة التربوية ذاتها لابد أن تكون مجسدة للهدف وتفاعلية وإبداعية غير تقليدية وبذلك تتكامل الوسيلة مع الأركان الأخرى فى تحقيق المستهدفات التربوية.