منذ ثورات الربيع العربي ونحن نقبض على الجمر، وعانينا الاعتقال أنا وزوجي، أحدنا يدخل والآخر يخرج، ثم تعاد الكرة بنفس المنوال، وفى السجن حالات من الظلم والتعذيب أكثر بكثير مما لاقيت أنا وزوجي، وأكثر مما قد يصفه أحد، أطفال يعذبون ويتم إعدامهم ونساء عليها أحكام إعدام، والأمل هارب من الجميع، وطال علينا الأمد وبلغت القلوب الحناجر!
السؤال: أحيانًا نضعف ونشك في صحة الطريق، ونتمنى لو نكون مثل الفنان فلان، أو الرياضي علان، حتى نهنأ بحياة يحوطها السلام وينعم أبناؤنا فيها بالأمان، وأحيانا نقول إن الأمر قد طال فلماذا لا يأتي الفرج؟ فهل هذا الكلام وهذا الإحساس يغضب الله؟! وكيف نعالج نفوسنا كي تهدأ وتصبر حتى يأتي الله بأمره في هذا الظلم الذي لا يرحم؟
السائلة الكريمة:
الحمد لله الذي أفاء عليك بالحرية، لا شك أن تجربة السجن تجربة مؤلمة، فالحرية ثمنها غالٍ، وتقييد حرية البعض هذا من شأن الطغاة ومما قدر على الأحرار في الدنيا من ابتلاء: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}؛ الابتلاء سنة كونية للتمحيص ورفع الدرجات واختبار رسوخ الأفكار والمعتقدات، ولكن كوني على يقين أن لكل تجربة صعبة جوانب مضيئة.
يُبتلى المرء على قدر إيمانه ففي الحديث الذي رواه سعد بن أبي وقاص، قال: “يا رسولَ اللهِ! أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلى الرجلُ على حسبِ دِينِه، فإن كان في دِينِه صلابةٌ، زِيدَ في بلائِه، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ، خُفِّفَ عنه ولا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ حتى يمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ”.
فيأتي البلاء يمحو الذنب، ويرفع الوزر، ويحط الخطيئة، كما أن من ذاق مرارة الظلم، صعب عليه أن يظلم، ومن عاش التجربة أدرك نعمة الحرية، وتعلم أن يحسب عواقب تصرفاته، فلا يخرج أمام ظالم هكذا إلا وهو مدرك عواقب اختياراته، راضٍ بما يقدره الله عليه، محتسبًا أيامه ولياليه التي يقضيها في محبسه في سبيل الله، غير عابئ ولا نادم.
ولكلمات ابن تيمية أطيب الأثر حين نذكرها في هذا المقام، يقول: “ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري إن رحت فهي معي لا تفارقني؛ إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة”.
هكذا ينظر المؤمن للابتلاءات؛ فلا يستعجل النصر بمفهومه الضيق، يعلم أن كل ابتلاء معه مندوحة، ويعلم أن الابتلاء آتٍ آتٍ، فهو سنة كونية، لكن نظرتنا للابتلاء هي التي تهونه، واصطحاب معاني الخير هي التي تعين على مرور الأيام، واستشعار معية الله ولطفه يستمد بها المؤمن السكينة والرضا بالقضاء.
فنرى الظالمين يرتعدون من السجين، الذي لا يملك أداة للمقاومة ظاهرية، لكنهم يعرفون أنهم ظلمة، ويعرفون قوة الدعاء وأثره عليهم، بل إن بعضهم يطلب من المظلومين أن يخففوا الدعاء عليهم، لأنهم يرون نتيجة هذا في حياتهم وعلى أولادهم! فأيهما أضعف!
السجن تجربة مريرة، عافى الله منها الجميع، وجعلها في ميزان الحسنات، وإذا سألنا الله نسأله العافية، فلا يتمنى هذه التجربة عاقل، ومع كل الحكايات المؤلمة التي عايشتِها؛ يقينا رأيت بعينك الرحمات، فكم حكى لنا محكومين بالإعدام أن عمرهم كان أطول من عمر سجانيهم، كتب الله لهم الحرية، قضى الظالم بما شاء ولكن مشيئة الله لا تعطلها أحكام البشر.
كما أن لنا في قصة سيدنا يوسف عليه السلام التسرية: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}، فلا نعلم كم يدخر الله من منح في هذه المحن، ففي سجن نبي الله يوسف عليه السلام آيات وفوائد كثير؛ ففيه بُرِّئَ، وفيه مُكن له، وفيه هُيِّئَ لمرحلة نصر قادمة!
وهذا الحجاج بن يوسف الثقفي، يقتل الصحابيَّ عبدالله بن الزبير ويقوم بصلبه ثم يدخل على أمه أسماء بنت أبي بكر شامتًا وهو يقول: “كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟ فترد عليه بكل ثقة ورباطة جأش: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك”، فمهما علا الظالم وتجبر؛ نعلم أنه أفسد على نفسه آخرته، فهل يعد هذا انتصارًا لهم؟! خابوا وخسروا.
{وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ}، لم يخسر هؤلاء الظلمة في الآخرة فقط، بل كم رأينا من نهايات مفزعة لمصارع هؤلاء القوم؛ يشفي الله بتلك المصارع قلوب المؤمنين، فإنما يملي الله لهم ليزدادوا إثمًا، ويقينًا عاقبة أمرهم خسرًا.
كل هذه المعاني تهون التجربة، وتجدد الثقة في الطريق، وتؤملنا في النصر وإن تأخر، يقول أحد الدعاة:
أليس نصرًا أنّا على طريق الحق، وهم على طريق الباطل؟
أليس نصرًا أن قال فينا الحبيب المصطفى: “عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له”.
نحن من أفسدنا على أنفسنا معاني النصر، باختصارها في شكلٍ واحد، لكن إذا ما تأملنا تلك المعاني السابقة؛ نقول الحمد لله الذي أفاء علينا وجعلنا في جانب أهل الحق، وغيرنا مساكين، يتمتعون بمتع دنيوية زائلة، والعاقبة للمتقين- اللهم اجعلنا منهم-.
الدنيا ساعة، الدنيا معبر للآخرة، فيا لهناء ويا لسعادة من غرس وشمر للنيل بفوز الله- رضاه والجنة-، فلا يغرنك سعادة الفنانين ومن على شاكلتهم، أكثرهم يلجأون للأطباء النفسيين بتصريحاتهم أنفسهم، أكثرهم يعيشون على المهدئات لأنهم فقدوا البوصلة، يعيشون على أهداف متواضعة، أكثرها محصور، في التلهف على جمع المال، واقتناء أفضل السيارات، ومتابعة أحدث التقنيات التي تحافظ على أجسادهم شابة، فينفقون الذي أمامهم وخلفهم على أجساد فانية، فنحمد الله أن عافانا أنا لسنا على درب هؤلاء، ونحمد الله أن اختارنا على طريق أهل الحق.
السائلة الكريمة:
ما رأينا أحدًا ابتلي هذا الابتلاء، إلا أخلفه الله في نفسه وأهله خيرًا، خير يحسدهم الظالمون عليه، يتعجبون كيف تقبل الزوجة يد زوجها، ويقبل الزوج يد زوجته أثناء الزيارة، يقولون: “زوجاتنا لا تنظر في وجوهنا؟!”؛ فمن يشفق على من؟! وهل بعد ذلك لا نرى ما في هذا البلاء من معاني الاصطفاء؟!
ذهب أحدهم إلى طبيبة نفسانية يشكو من سوء حاله ومنقلب أمره مع الله، ظلمه عمه وأخذ حقه، ظل يدعو الله عشرين عامًا، فما عاد الحق إليه، فتبدل حاله مع الله، نصحت الطبيبة زوجته أن تقف بجوار زوجها وتدعو له، وتثبته في محنته، عاد إليها بعد ثلاث سنوات وقد بدا عليه انصلاح الحال، سألته الطبيبة أمات العم، أم رد المال؟
فقالت الزوجة: لا هذا ولا ذاك، كبر الابن ورزق بعقد احتراف في بلد غني وأفاء الله علينا بالخير الوفير، ترك الزوج رسالة للطبيبة يشكرها على كلماتها التي كانت سببًا في رجوعه للطريق، تقول: “كان والدي يعلمني دائمًا أن عدل الله قائم لا محالة، يأتي ولكن بأشكال مختلفة، ولكنا نبحث عليه في مخيلتنا في صورة محددة، وإذا لم يحدث نثور، ولكن حينما نمعن النظر، نجده بجانبنا طول الوقت”، ويؤكد هذا المريض أنه حينما استفاق، أدرك أن عدل الله لم يفارقه!
فهوني على نفسك، تلك لحظات الضعف، فنحن بشر، يعلم الله ضعفنا، ونتمسك برحمته لنا، وعفوه إذا ما أسأنا الظن فيه، يكرمنا الله بأناس يذكروننا بالخير ويدعوننا إليه، فالمؤمن يعتريه الضعف، هذا من بشريتنا، فإن مررت بهذه الحال يومًا فلا تبتئسي، ولا تتركي نفسك للشيطان، بل نحيط أنفسنا بالصالحين، ونكثر من قراءة أحوال الأمم، فلا هزائم تستمر، ولا علو يدوم لأهل الباطل.
وإذ نخشى على أولادنا من الفتنة بسبب ما رأوا من ظلم، فيجب ألا نعرضهم لكثير من القصص المأساوية، فيكفي ما عايشوه في قضيتكم، وحينما يروا منكم الثبات؛ فلن يجزعوا بإذن الله.
ويجب علينا أن نعرفهم أن الله وعد بالتمكين لدينه في الأرض، ووعده الحق، والاختبار في: هل يستعملنا الله أم يستبدل بنا أقوامًا آخرين؟ فإن: {الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105).
والإسلام ساد وانتشر ووصل إلى شتى بقاع الأرض رغم ما تعرض له الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام؛ فلنكثر من حكايا العزة والنصرة في ديننا وما أكثرها بفضل الله، ولنبتعد عن قصص الهزائم، نجعلها في نطاق ضيق، حتى لا نزيف لهم الواقع، يعرفون خطوطًا عريضة، ولا داعي لدخولهم في تفاصيل تجعلهم يجزعون.
اللهم مكّن لدينك وعبادك في الأرض، واخلف من مر بهذه التجربة خيرًا، سبحانك ولي ذلك والقادر عليه.