بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة كل عام في مصر، يبدأ هوس الالتحاق بما يسمى كليات القمة المتمثلة في الطب والهندسة وغيرهما من الكليات ذات المجموع المرتفع، اعتقاد من البعض بأنها طوق النجاة من الفقر والبطالة والعيش في مستوى اجتماعي أفضل.
وفى الحقيقة فإن هذه النظرية خاطئة وتصور فاسد في ذهن المجتمع، لأنه ثبت عمليًّا وفعليًّا أن كل شخص ناجح في أي مجال هو قمة بمجاله الذى وُجِد فيه، ولا يُمكن لأي مجتمع أن ينهض إلا فى وجود الدكتور الناجح، والمهندس المتفوق، والعالم النابغة، والمعلم المتميز مُربي الأجيال، والمحاسب الخبير، والمُبدع بالفنون، والفنيين المتميزين، وغيرهم من مختلف المجالات.
حقيقة كليات القمة
يقول الدكتور عصام حجي- عالم الفضاء المصري، الذي يعمل في وكالة ناسا في مجال علم الصواريخ-: “مفيش حاجة اسمها كليات القمة وكليات درجة تانية.. مصر تحتاج جيش من المبدعين في كل التخصصات يحارب الفقر والجهل والمرض”.
وأطلق “حجي” صرخة في وجه أبنائنا طلاب الثانوية العامة الذين أصابهم القحط والألم من جراء ضعف مجاميعهم، بلغت بالعديد منهم إلى الإقدام على الانتحار تحت ضغط المجموع الضعيف، مؤكدًا أن الإبداع هو الأساس وليس الالتحاق بكلية بعينها حسب المجموع.
وعلى مدار سنوات ربطت الأسر المصرية- عن عمد أو بجهل- بين الفشل والنجاح بمجموع الثانوية العامة، حتى أضحت كابوسًا في نفس هذه الأسر المقبلة بأبنائها على الثانوية العامة، حتى تنتهي هذه السنة بالفرح أو بالعويل على ضياع المجموع أو الدرجات البسيطة التي أفقدته كليات الطب والهندسة وغيرها.
وتناست هذه الأسر أنّ كثيرًا ممن التحق بهذه الكليات فشل في حياته أو اكتفى بأن يكون طبيبًا إداريًّا في مستشفيات وزارة الصحة، أو مهندسًا في شركات الدولة، في حين أنّ كثيرًا ممن التحقوا بكليات بسيطة أصبحوا شامة- لا يشار لهم في مصر فحسب بل في العالم بعلمهم- أمثال الدكتور أحمد زويل، والدكتور عصام حجي، واللاعب محمد أبو تريكة الذي تخرج في كلية الآداب قسم التاريخ، ومحمد صلاح خريج المعهد اللاسلكي.. فالفرد هو مَن يصنع قمته ولا تصنعه له كليات عليا أو دنيا.
فعلى الأسر- آباء وأمهات- وعلى الطلاب أن يكتشفوا ما بداخل كل طالب من قدرات ليحقق بها صناعة الذات ويبدع في مجالات الحياة، راسمًا لنفسه هدفًا حقيقيًّا مصممًا على تحقيقه، والعمل من أجله، واضعا له قدوة يحتذي بها حققت نجاحات في مجالات حياته.
عظماء لم تصنعهم كليات القمة
وهناك كثير من العظماء الذين لم تصنعهم كليات القمة أو يكونوا منها في يوم ما، لكنهم هم من صنعوا القمة في حياتهم وأصبحوا شامة يشار إليها بالبنان، ومنهم:
- محمد محمد محمد أبو تريكة: وهو اللاعب الذي رسم وخطّ وحفر في سويداء قلوب الشعوب الإسلامية والعالمية اسمه بمداد من ذهب؛ لما حققه من أهداف جمّة، كروية وتربوية وخدمية.
تخرج محمد أبو تريكة في كلية الآداب قسم التاريخ بجامعة القاهرة، وعاش طفولة كلها تحمل معاني تحمل المسؤولية في أسرة فقيرة، ومع ذلك رسم لنفسه هدفًا حقيقيًّا استطاع تحقيقه، حتى أصبح اسمه يهز جنبات الاستادات في البطولات والمحافل الدولية، بعدما سطر بأخلاقه أجمل سمفونية في قلوب عُشّاق الكرة في العالم. - أحمد زويل: الذي حصل على الثانوية العامة بمجموع 80%، ولكن لم يشكل هذا الرقم أهمية كبيرة في حياته المهنية، فقد أصبح أستاذ للكيمياء والفيزياء في معهد كاليفورنيا، وحصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999، ليصبح بذلك أحد أشهر العلماء في العالم كما اختير عضوًا في مجلس علماء مصر أكبر هيئة علمية استشارية في مصر.
- عصام حجي: الذي حصل على الشهادة المتوسطة في ليبيا قبل أن يعود إلى مصر ويلتحق بجامعة القاهرة ويتخرج في قسم الفلك.
بدأ عصام حجي مشواره العلمي كمعيد بكليات العلوم بجامعة القاهرة سنة 1997، ثم باحثا بالمركز القومي للبحوث CNRS بفرنسا سنة 1999، ثم مدرسًا بجامعة القاهرة سنة 2002، ثم باحثًا بمركز الفضاء الفرنسي CNES، ثم أستاذًا مساعدًا بجامعة باريس، ثم انتقل للعمل بوكالة ناسا لأبحاث الفضاء بالولايات المتحدة.
ويعمل الدكتور عصام حجي حاليًّا في معمل محركات الدفع الصاروخي بوكالة ناسا الأمريكية في القسم المختص بالتصوير بالرادار، والذي يشرف على العديد من المهام العلمية لاكتشاف كواكب المجموعة الشمسية.
ويشرف حجي في الوقت الراهن على مشروع قمر صناعي يدرس المياه الجوفية وآثار التغير المناخي على المناطق الصحراوية.. وقد صنفته الجامعة العربية ومجلة “تايمز سنتبيتسبرج” الأمريكية كواحد من أهم الشخصيات الفكرية في مصر والعالم العربي، وهو في التاسعة والعشرين من عمره، حتى أصبح مستشارًا علميًّا لرئيس جمهورية مصر العربية في وقت من الأوقات. - محمد صلاح: اللاعب الأسطورة، هو في الحقيقة متخرج من معهد اللاسلكي، إلا أنه حرص في ذاته على تحقيق الهدف الذي رسمه لنفسه حتى أصبح من أغلى اللاعبين في الدوري الإنجليزي.
بل إن صلاح حاول أن ينتسب إلى إحدى المعاهد عام 2014م ليستكمل تعليمه، ووافق وزير التعليم العالي المصري على ذلك، ثم فوجئ صلاح بعد ذلك بتراجع الوزير عن قراره وقام بإلغاء انتساب محمد صلاح للمعهد بدعوى عدم حصوله على الدرجات المطلوبة للالتحاق بالمعهد بالإضافة إلى عدم حضوره. - فاروق الباز: كان من أحلامه دخول كلية الطب، لكن مجموعه في الثانوية لم يؤهله لدخول الكلية التي يرغب فيها، ليلتحق بكلية العلوم، ويصبح بعدها واحدًا من أهم علماء الفضاء والعالمين بوكالة ناسا.
وقد جرى تكريمه في كثير من المناسبات وحصل على جائزة الامتياز من وكالة ناسا، نظرًا لكون أحد العقول المميزة في العالم. - علي مصطفى مشرفة: عالم الفيزياء المصري، الذي كان ترتيبه الثاني على جمهورية مصر العربية في عمر 16 عاما، عام 1912 وكان حدثًا فريدًا في عالم التربية والتعليم في ذلك الوقت، وساعده تفوقه أن يلتحق بكلية الطب أو الهندسة، لكنه فضّل الانتساب إلى دار المعلمين العليا، حيث تخرج فيها حاصلا على المركز الأول، ومن ثم اختارته وزارة المعارف العمومية إلى بعثة علمية إلى بريطانيا على نفقتها، ولقب بـ”أينشتاين العرب”.
- خالد عبد القادر عودة: وهو ابن الشهيد القاضي عبد القادر عودة، الذي أعدمه عبد الناصر عام 1954م- والذي تخرج في كلية العلوم قسم الجيولوجيا ليصبح أستاذ الطبقات والحفريات قسم الجيولوجيا كلية العلوم جامعة أسيوط- نائب رئيس الفريق الدولي ورئيس الفريق البحثي المصري لمشروع القطاع الدولي العياري للباليوسين- الأيوسين.
سجل عالم الجيولوجيا المصري الكبير الدكتور خالد عودة اسمه بحروف من نور في تاريخ البحث العلمي في مصر، وذلك لإنجازه منفردًا مشروع “أطلس.. مخاطر التغيرات المناخية”، وهو المشروع الذي يُعيد رسم مصر بالخرائط، وفقًا لمعلومات وأرقام حديثة حصل عليها العالم الجليل من وكالة ناسا الفضائية الأمريكية.
ويستهدف المشروع الذى تفرغ له عالمنا الفذ ثلاث سنوات، التوضيح بالحقائق العلمية وكم المخاطر المتوقع أن تتعرض لها محافظات ومدن مصرية في الدلتا بالغرق بسبب التغيرات المناخية التي ستؤدي إلى رفع منسوب مياه البحر.
التخلص من عقدة الأجيال
لقد تسببت كليات القمة في عقدة لدى العديد من الأجيال في مصر، وآن الأوان للتخلص منها والانتباه إلى أسباب الإبداع لتنهض الأمة، فلا بد من:
- اعتبار المجموع الكلي الذي يحصل عليه الطالب ليس هو المعيار الوحيد في تحديد المسار الجامعي، بل ينبغى أن تكون ميول الطالب وقدراته العلمية ومهاراته الشخصية، هي المعيار والمحدد لاختياره الكلية التي ينوي الالتحاق بها.
- وعلى الأسر أن تعي أن الثانوية العامة ليست نهاية العالم، إنما مُجرّد خطوة في رحلة تعليمية طويلة، فمن لم يُحالفه الحظ فى الحصول على نتيجة مُرضية فهذا لا يعني أن الدنيا قد انتهت، لكن قد تكون البداية التي تضع الطالب على الطريق الصحيح.
- على أولياء الأمور وأبنائهم، أن يعلموا بأن ما يطلقون عليهم “خريجي كليات القاع” مثل دار العلوم والآداب والتربية، هم الذين يُعلمون الطبيب، والمهندس، والسفير، والوزير، وحتى رئيس الجمهورية.
- ويجب على الطلاب الناجحين في الثانوية العامة، أن يلتحقوا بالكليات التي تتفق مع ميولهم وقدراتهم دون النظر إلى مجموع درجاتهم، حتى يضمنوا دوام التفوق والتميز، ويكونوا نافعين لأنفسهم ولمجتمعهم، ولوطنهم، وقبل كل ذلك دينهم.
- الانتباه إلى متطلبات سوق العمل الذي لم يعد قاصرًا على الطب والهندسة، بل أصبحت هناك تخصصات عليها الطلب بكثرة منها مجالات الطاقة والمياه ونظم الحاسبات وتكنولوجيا المعلومات واللغات بكل أنواعها.
- وإذا حصل الطالب على مجموع يؤهله لدخول كلية قمة، ولا يرغب فيها، عليه الالتحاق بالكلية التي يرى نفسه مبدعًا فيها، حتى لو كانت من “كليات القاع”.
إن صناعة القمة لا تحتاج لأن يكون الطالب أو الطالبة من خريجي كليات القمة ذات المجموع المرتفع، لكنها تحتاج إلى إرادة وعزم قوي على تحقيق هدف وطموح، يصنع المجد في أي مجال يحبه الطالب ويحرص على التميز فيه.