لقد غيّر الإسلام كثيرًا من الأعراف القديمة ونظّم شؤون المسلم ليكون مسلمًا حقًّا باعتقاده وقوله وعمله انطلاقًا من قيمة الإحسان التي تدخل في كل شيء، مصداقًا لقول النبي – صلى الله عليه وسلم- “إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسَانَ علَى كُلِّ شيءٍ” (صحيح مسلم).
وهذه القيمة لها أهميتها في ترابط وتضافر أفراد المجتمع وانصِهارهم في لحمة متماسكة واحدة، كما أنها مجلبة لرحمة الله – عز وجل- حيث تُعد من أعلى مراتب الإيمان لكونها جزء من عقيدة المسلم.
يقول الراغب الأصفهاني: “الإِحْسَانُ على وجهين، أحدهما: الإنعام على الغير، والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علم علمًا حسنًا أو عمل عملًا حسنًا” (1)، وقال ابن القيم في كتابه مدارج السالكين إن “منزلة الإِحْسَانِ هي لُبّ الإيمان وروحه وكماله”.
معنى الإحسان
ذكر العسكري في الفروق اللغوية أن الإحسان معناه في اللغة إتقان الشيء وإتمامه، وهو ضِدُّ الإساءة، وهو مصدر أحسن أي جاء بفعل حسن.
أما في الاصطلاح فهو نوعان: إحسان في عبادة الخالق: بأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه. وهو الجِد في القيام بحقوق الله على وجه النُّصح، والتَّكميل لها.
وإحسانٌ في حقوق الخَلْق، وهو بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحْسَن إليهم، وحقهم ومقامهم، وبحسب الإحسان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحْسِن وإخلاصه، والسبب الدَّاعي له إلى ذلك (2).
الإحسان في القرآن والسنة
مقام الإحسان رفيع، فهو خُلُقٌ يُحيي قلب المسلم بأن يجعله يراقب الله وكأنه يراه، فإذ لم يكن يراه فهو يدرك أن الله يراه، فيحسن بهذا الخلق إلى نفسه مع الله ومع مخلوقات الله، كمن رفع شعار (الله معي، الله ناظري، الله شاهد عليّ).
ولعظم هذه القيمة وهذا الخلق امتلأت سور القرآن الكريم بهذا المعنى وهي تأكيد على سلوك سبل المحسنين، فقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النَّحل:90].
وقال تعالى آمرًا عباده بالإحسَانِ: {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195].
وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
كما قال – عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل:128].
فالله أمر بالإحسان بالقول وفي كل أمور الإنسان، وهو المعنى الذي يذكره الشيخ السعدي بقوله: “ولـمَّا كان الإنسان لا يسع النَّاس بماله، أُمِر بأمرٍ يقدر به على الإحْسَان إلى كلِّ مخلوق، وهو الإحْسَان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النَّهي عن الكلام القبيح للنَّاس حتى للكفَّار” (3).
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}[النساء:125].
وقال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
ولم تهمل السنة هذه قيمة لعظم أهميتها على الفرد والجميع، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه شداد بن أوس: “ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُما عن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسَانَ علَى كُلِّ شيءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ” (صحيح مسلم).
وقالَ رَجُلٌ: “يا رَسولَ اللَّهِ، أنُؤاخَذُ بما عَمِلْنا في الجاهِلِيَّةِ؟ قالَ: مَن أحْسَنَ في الإسْلامِ لَمْ يُؤاخَذْ بما عَمِلَ في الجاهِلِيَّةِ، ومَن أساءَ في الإسْلامِ أُخِذَ بالأوَّلِ والآخِرِ” (صحيح البخاري).
وعن عبد الله بن مسعود قال: “كيف لي أن أعلمَ إذا أحسنتُ وإذا أسأتُ قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ إذا سمعتَ جيرانَك يقولون أن قد أحسنتَ فقد أحسنتَ وإذا سمعتَهم يقولون قد أسأتَ فقد أسأتَ” (ابن ماجه). والأحاديث كثيرة في هذا المعنى.
ثمرات الإِحْسَان ومراتبه وأنواعه
تتجلى ثمرات الإحسان في حياة المسلم، كما وصفها ابن القيم في قوله: “إنَّ الإحْسَان يفرح القلب ويشرح الصَّدر ويجلب النِّعم ويدفع النِّقم، وتركه يوجب الضَّيم والضِّيق، ويمنع وصول النِّعم إليه، فالجبن: ترك الإحْسَان بالبدن، والبخل: ترك الإِحْسَان بالمال” (4).
ومن الثمرات، تماسك بنيان المجتمع، وحمايته مِن الخراب والتهلكة ووقايته من الآفات الاجتماعية، ومجازاة الله للمحسنين، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام:84].
وهو وسيلة لإزالة ما في النفوس من الكدر وسوء الفهم وسوء الظن وغيرها من الأمراض القلبية، بل ويحول العدو إلى صديق حميم: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
بل يُطفئ نار الحسد والحقد والغيرة، ويُولد الألفة والحب وتمنى الخير للمُحسن: {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [القصص: 54].
كما أنه تكفير للذنوب والنجاة من شدائد الدنيا وعذاب الآخرة ودخول الجنة ورؤية الله سبحانه وتعالى: {للَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:26].
وسطرت سير الصحابة والسلف الصالح كثيرًا من قصص الإِحْسَان ومراقبتهم لله عز وجل، وهو المعنى الذي عبّر عنه الإمام على بن أبي طالب – رضي الله عنه- بقوله: “الناس أبناء ما يحسنون”.
وقد مرَّ عبد الله بن عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما- على غلام يرعى أغنامًا لسيّده، فأراد ابن عمر أن يختبر الغلام، فقال له: بع لي شاة. فقال الصبي: إنها ليست لي، ولكنها ملك لسيدي، وأنا عبد مملوك له. فقال ابن عمر: إننا بموضع لا يرانا فيه سيدك، فبعني واحدة منها، وقل لسيدك: أكلها الذئب. فاستشعر الصبي مراقبة الله، وصاح: إذا كان سيدي لا يرانا، فأين الله؟! فسُرَّ منه عبد الله بن عمر، ثم ذهب إلى سيده، فاشتراه منه وأعتقه (5).
وللإحْسان مراتب ودرجات على المسلم أن يسعى للتحلي بها، لتطهير النفس وتزكية القلب، والسيطرة على الجوارح، منها:
- مرتبة المراقبة والمشاهدة والخوف من الله عزَّ وجلَّ، وهذه أعلى المراتب “أن تعبد الله كأنك تراه”.
- مرتبة الحياء من الله سبحانه وتعالى، فإذا لم تعبد الله كأنك تراه، فاعبده كأنه هو الذي يراك عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، متذلل له “فإن لم تكن تراه فإنه يراك”. فقد جاء في كتاب مجموع رسائل ابن رجب الحنبلي قول بعضهم: “خف اللَّه عَلَى قدر قدرته عليك واستحي منه عَلَى قدر قربه منك” (6).
- مرتبة الأنس برب العالمين: ويصلها صاحب القلب النقي التقي الذي اجتهد في الوصول إلى ربّه، فلم يشعر بالوحشة ما دام يعيش في كنف الله سبحانه وتعالى. قيل لمالك بن مغفل وهو جالس في بيته وحده: ألا تستوحش؟ قال: “أَوَ يستوحش مع الله أحد؟”، وقال ذو النون رحمه الله: “من علامات المحبين لله؛ أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه (7).
وتتعدد صور هذه القيمة في العبادات والمعاملات، بل إلى الحيوانات، وفي غيرها من شؤون الحياة، وهو ما يجب على المسلم أن يتعرف إلى هذه الصور:
- ففي عبادة لله وحده وحسن مراقبته “بأن تعبد الله كأنَّك تراه فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك”.
- وللوالدين، يعد من أعلى المراتب الجليلة في زمن انعدمت فيه الرحمة وجحد فيه الأبناء، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23].
- وإلى الجار، بهدف توثيق العلاقات الاجتماعية بين الأفراد “مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ” (البخاري).
- وإلى اليتامى والمساكين بالعطف عليهم والمحافظة على حقوقهم ومعاونتهم والوقوف بجانبهم: “إن أردت أن يلين قلبك، فأطعم المسكين، وامسح برأسِ اليتيم” (رواه أحمد والبيهقي).
- أما في الشؤون العامة والتجارية والمعاملات المالية، فقد وصفه الله سبحانه بقوله عن قارون: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77].
- وفي القول والعمل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162](8).
تربية الأولاد بالإحْسَان
الأولاد فلذة كبدنا، وبهم نغزو المستقبل، ولذا لا بُد من إعدادهم إعدادًا جيدًا لمجابهة معترك الحياة، والتسلح بسلاح الدين والأخلاق، ومن هذه الأخلاق التي يجب أن نغرسها في أولادنا منذ الصغر خلق الإحسان إلى الفقراء وإلى كل شيء.
فالطفل لا يدرك جيدًا ما سيقال له، لكنه يتعلم جيدا ما يحدث أمامه من أفعال، ومن ثم يجب أن نكون القدوة الصالحة في تصرفاتنا أمامهم، بل علينا أن نغرس فيهم الغرس لنحصده في كبرهم مثل:
- تنمية هذه القيمة في نفوسهم أولا ثم دفعهم للإحسان إلى الآخرين، وبخاصة الأقربين وكبار السن من أقربائنا.
- من المهم أن يشجع كل من الأب والأم الأطفال على تقديم المساعدة للجيران وإغاثتِهم وقت حاجتهم {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36].
- تعليم أولادنا حب التصدق بأن تعطيه مالًا ليعطيه هو للفقير والمحتاج ويشعر بسعادة هذا العمل وتعرفه بأنه من أعظم الرحمات.
- توجيه الطفل بالإحْسَان إلى أطفال الفقراء بأن لا يُعيرهم بلبسه الجديد، وأن يحرص أن يسعدهم ويشاركهم، وإن كان لديه فائض من ملابس وألعاب يتصدق بها عليهم بحيث تكون صالحة للاستعمال، وأن يقدمها بطريقة مهذبة حتى لا تجرح مشاعرهم.
- حثُّ الأطفال على الرحمة والإحسَانِ إلى كل الحيوانات، فلا يؤذيها ولا يعذبها بنار أو غيرها.
- وحثّ الأطفال على المشاركة في الأعمال الجماعية والتطوعية، لأنها تساعدهم على استيعاب ما يحدث، ويخلُق التنافس في الإِحْسَانِ بين أقرانهم من الأطفال (9).
المصادر
- الراغب الأصفهاني: مفردات غريب القرآن، دار القلم، دمشق سوريا، 2009، صـ236.
- عبدالرحمن ناصر السعدي: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، طـ1، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الرياض، 2002، صـ204.
- تفسير السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، دار الحديث، 2005، صـ57.
- ابن القيم الجوزية: طريق الهجرتين وباب السعادتين، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2019، صـ460.
- حمزة الجبالي: أخلاق المسلم قصص ومواعظ، Dar Al Ousra Media.، 2016، ب ص.
- ابن رجب الحنبلي: مجموع رسائل ابن رجب، ت طلعت بن فؤاد الحلواني، طـ2، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، القاهرة، 2003، صـ164.
- ابن رجب الحنبلي: جامع العلوم والحكم، دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة، مصر، 2000، صـ38.
- صور الإحسان: الدرر السنية،
- حنان عتوم: أهمية وطرق تعليم الأطفال الإحسان للفقراء، 6 فبراير 2021،