إن الدعوة إلى الله- تبارك وتعالى- هي أشرف الأعمال، يقول تعالى: {وَمَن أَحسَنُ قَولًا مِمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسلِمِينَ} [فصلت:33]، ويلزم من ذلك التزام الداعية ببعض القواعد التي توصله لحسن أداء المهمة على أكمل وجه.
وقد أشار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أن الداعين إلى الله، العاملين بعلمهم، المعلمين لغيرهم هم أعلى الناس درجة، وأكثر الناس تأثرًا وتأثيرًا بالدين الحنيف، وأعظم الناس انتفاعًا بالغيث الذي أغاث الله به الأرض، لكن لا بد من الالتزام بأصول وقواعد هذه المهمة والوظيفة التي عمل بها الرسل والأنبياء، حتى نصلح ولا نفسد، ونبشر ولا ننفر، وهو ما فصّله الدكتور همام سعيد في كتابٍ له بعنوان (قَواعِد الدّعوة إلى الله).
القاعدة الأولى من قواعد الدعوة إلى الله
تنطلق القاعدة الأولى في الدعوة إلى الله جل في علاه، من الدعوة إلى النجاة في الدنيا والآخرة باعتبار أنها أسمى غاية للناس جميعًا، ويكون ذلك من خلال العبادة لله وحده، الذي يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، يقول الرازي: “ما العبادة التي خلق الجن والإنس من أجلها؟ قلنا: التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله”.
والدعوة إلى الله هي أبلغ مظهر من مظاهر تعظيمه، فالذي يدعو إلى فكرة أو هدف ويصرف جهده في سبيله، فإنما يفعل ذلك لامتلائه بهذا الهدف أو الفكرة، ومن دعا إلى فكرة فإنه يحسب عليها كما تحسب هي عليه.
وفي الدعوة إلى الله تعالى دليل شفقة على عباد الله، لأن الداعية يريد إخراج الناس من أوضاع التمزق والشتات إلى سعة الدين وآفاقه الواسعة الرحيبة، ونظمه الكفيلة بإسعاد البشر، وأن يخرجهم من النار إلى الجنة كذلك.
ولقد التزم أنبياء الله ورسله الكرام أمر الله في الدعوة إليه والحفاظ على الغاية من خلق الله لهم، وحرص كل رسول كريم على دعوة الخلق إلى هذه النجاة، وقص القرآن الكريم علينا حال الأنبياء مع أقوامهم، مؤكدًا نجاة الدعاة وهلاك الظالمين المُعْرِضِين.
يا قوم لا أسألكم عليه أجرا
وتأتي القاعدة الثانية من قواعد الدعوة إلى الله سبحانه، من قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: لعلي بن أبي طالب عندما أعطاه الراية يوم خيبر، فَقالَ: انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ. (البخاري ومسلم).
فالداعية يُقدّم الجنّة هدية للناس مِن حوله، ويدلّهم على مقامات السّعادة، وأي أجر يكتب للداعية عند ربه إلا الأجر الذي يليق بجلال المعطي سبحانه، ويتناسب مع قدر العطية، ومن يهتدي على يد الداعية يكون عونًا للداعية على أداء رسالته، ويضم جهده إلى جهد الداعية.
إن الدعوة لا تنتشر إلا بمزيد من الدعوة، ولا تتقوى إلا بالعناصر الجديدة الرافدة، وما تغير حال المسلمين من السر إلى العلن إلا يوم أن دخل عُمر وحمزة في دين الله، وما تغير حالهم من الجماعة إلى المجتمع إلا يوم أن دخل الأنصار في دين الله تعالى.
الأجر يقع بمجرد الدعوة
ومن قواعد الدعوة إلى الله- تعالى-، أن الأجر يقع بمجرد الدعوة ولا يتوقف على الاستجابة، لقول الله- تبارك وتعالى- (فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ] [الشورى: 48] ؛ لأن أمر الهداية بيده سبحانه الذي يقول: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56].
إذا، فلا حرج على الداعية ولا تثريب ولا إحباط إذا لم يثمر بلاغه، ولم يستجيبوا له، لقول الحق- جل وعلا-: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف: 6] ، وتدبر أمر الحق سبحانه للخليل عليه السلام: (نادِ وعلينا البلاغ)، أي أدّ دورك بأمثل طريقة، ودع النتائج عليه سبحانه.
والداعية يخرج من هذا الملمح التربوي الفريد بسهام وافرة الغنائم حول فقه هذه الوظيفة من حيث ماهيتها ومنهجية تنفيذها والأجر المترتب عليها، وكيفية تلقي التكاليف وحسن تنفيذها، وحسن عرض البضاعة الربانية العظيمة، وضرورة استشعار خطورة بلوغ درجة البلاغ المبين للفكرة، وفهم الدور المطلوب، واستشعار عظم الأجر.
ثم وهذا هو الأهم استشعار هذا التفاعل والتعاضد الفريد بين دور البشر ودور المدد الرباني في تنفيذ المشروع الحضاري المنشود. وهذه النقطة هي النبراس الذي يعطي الأمل للعاملين، وهي العلامة الفارقة التي تميزهم عن غيرهم من أصحاب المشاريع المغايرة.
رتبة المبلغ
أما القاعدة الرابعة في كتاب الدكتور همام سعيد فتتلخص في أنه على الداعية أن يصل إلى رتبة المبلغ وأن يسعى إلى البلاغ، فليس أمر الدعوة إلى الله بأقل من أمر الدعوة أو الدعاية إلى سلعة دنيوية.
فنرى أن صاحب البضاعة يستخدم أقوى الوسائل وأوسعها انتشاراً من أجل إيصال الجمهور إلى درجة القناعة ببضاعته، ونراه في سبيل ذلك يستخدم الكلمة والصورة والهدية وغير ذلك من الوسائل.
وقد جعل الله تعالى مهمة رسله وأنبيائه البلاغ، فقال جل شأنه: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُل إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبِين} [النحل: 35]. ووصف البلاغ بأنه المبين. وقال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39].
ومن مقتضيات البلاغ أن يعي الداعية ما يُبلغه، لأنه لا تبليغ بلا وعي، ويستفاد هذا من قوله- صلى الله عليه وسلم- : “نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمِعَ مقالتي، فبلَّغَها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ، غيرُ فَقيهٍ، وربَّ حاملِ فِقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ، ثلاثٌ لا يُغلُّ علَيهِنَّ قلبُ مؤمنٍ: إخلاصُ العملِ للَّهِ، والنَّصيحةُ لوُلاةِ المسلمينَ، ولزومُ جماعتِهِم، فإنَّ دَعوتَهُم، تُحيطُ مِن ورائِهِم” (الترمذي وأحمد).
قال الخطابي في شرحه لهذا الحديث: “نَضَّر الله معناه الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة”.
تقديم الجهد البشري أثناء طلب المدد الرباني
وتقول القاعدة الخامسة من قواعد الدعوة إلى الله- عز وجل-: “على الداعية أن يقدم الجهد البشري وهو يطلب المدد الرباني”. ولقد شاء الله تبارك وتعالى أن تعمل هذه الدعوة بالوسائل البشرية، والداعية الحق هو الذي يستطيع أن يوظف عالم الأسباب من أجل دعوته.
وهذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يواصل ليله بنهاره آخذًا بالأسباب ومستخدمًا أساليب عصره المتاحة ولم يقل: بما أنه يوحى إلي فإن لي طريقة أخرى في التماس النظر. وإننا لنجد في تفاصيل سيرته- صلى الله عليه وسلم- تطبيقات واسعة لهذا المبدأ.
ويوم أن خالف بعض الصحابة أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- وقصروا في الأخذ بالأسباب كانت تلك النتيجة المفجعة في معركة أحد رغم أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- بين ظهرانيهم، والوحي يتنزل عليه.
وفي قول الله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، بيان شاف لهذا المبدأ، والتكليف هو الأمر بما يشق عليه. والتكليف هنا مرتبط بالوسع الذي هو الطاقة والجِدَّة، قال القرطبي: “نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وفي هذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأويلهم أمر الخواطر”، أي لم يكلفهم الله بما في خواطر النفوس وخلجات القلوب.
الداعية مرآة دعوته والنموذج المغير لها
وتتلخص القاعدة السادسة من قواعد الدعوة إلى الله سبحانه، في أن الداعية مرآة دعوته والنموذج المغير لها، والاقتران بين الداعية والدعوة قائم في أذهان الناس.
والداعية نفسه شهادة للدعوة، وهذه الشهادة قد تحمل الناس على قبل الدعوة، وقد تحملهم على ردها ورفضها. والذين يتعاملون مع المبادئ مباشرة قلة قليلة في كل عصر ومكان، وأما أكثر الناس فيتعاملون مع حملة المبادئ والناطقين باسمها.
وعندما يكون الداعية بعيدًا عن الالتزام بواجبات الإسلام وتكاليفه فإنه يكون فتنة للناس يصرفهم بسلوكه عن دين الله، ويقطع الطريق على الناس، فمثله كمثل قاطع الطريق، بل هو أسوأ، وينبغي على الداعية أن يدعو دائما بقوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [يونس:85].
وقد ذُكر في تفسير هذه الآية: “لا تمكنهم من أن يحملونا بالظلم والقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه” . وكذلك فإن الكافرين عندما يتسلطون على المسلمين فإن تسلطهم شبهة لهم في أنهم على الحق، وأن المسلمين على الباطل، فيكون تسلطهم على المسلمين واستضعافهم للمؤمنين فتنة تصرف الكافرين عن الإيمان.
خاطبوا الناس على قدر عقولهم
ومن قواعد الدعوة إلى الله سبحانه، مخاطبة الناس على قدر عقولهم، لأن الدعوة إلى الله تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، وتظهر الحكمة في معرفة المناسب من الدعوة لكل فئة من الناس.
والداعية الحكيم لا يقول كل ما يعرف لكل مَن يعرف. وهو يتعامل مع العقول حسب مقدرتها لا حسب مقدرته، ولا يحملها فوق طاقتها. وقد فهم ابن عباس- رضي الله عنهماـ قول الله تعالى: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) فقال: (كونوا حلماء فقهاء) وقال البخاري: “ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره”.
والبدء بصغار العلم مرجعه مراعاة العقول حتى لا تنفر من الدعوة. قال ابن حجر: “والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دقّ منها”.
ويشهد لهذا الأصل من أصول الدعوة كثير من النصوص نذكر منها، ما ساقه البخاري حديثاً ترجم له بقوله: “باب من ترك بعض الاختيار مخالفة أن يقصُر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه”. ثم أخرج من طريقه إلى “الأسود” قال: قال لي ابن الزبير: “كانت عائشة تُسِرّ إليك كثيرا، فما حدثتك في الكعبة؟ قلت: قالت لي: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم- قال ابن الزبير: بكفر- لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون”.
الابتلاء سنة الله تعالى
والابتلاء من قواعد الدعوة إلى الله جل وعلا، وسنة الله والسبيل إلى تمثل الدعوة وصياغة النفس وفق العقيدة، وكلما كان العمل شاقًا ودقيقًا ومعقدًا احتاج المرء إلى بذل جهد أكبر في الإعداد والتدريب لكي يكون على مستوى ذلك العمل.
والعمل لدين الله تعالى مستمر ومتنوع وفسيح. ومهمته لا تقف عند حدود أشكال معينة، بل تتعدى الشكل إلى المضمون والمحتوى، ومسؤولية العامل تزداد يومًا بعد يوم، ومسؤوليته بعد انتصار فكرته أعظم منها قبل ذلك.
من أجل ذلك وغيره شاءت إرادة الله سبحانه أن يخضع الدعاة لصنوف من الاختبارات الشاقة، ولا تصل الجماعة المؤمنة إلى تحقيق أهدافها إلا مرورًا بالابتلاء، ومن خلال الآيات الكريمة والأحاديث النبوية فإننا نتبين وظائف الابتلاء ونتائجه.
فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء. ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تُستحصد”(مسلم ).
وهذا الحديث يكشف عن وظيفة الابتلاء البنائية بالنسبة للجماعة المسلمة، فإن تعرض الزرع للحركة الدائمة يكسبه قدرة على الثبات أمام الأعاصير، في حين أن الأرزة التي لا تحركها الرياح العادية فإنها لا تقف أمام الأعاصير والرياح الشديدة، ولذلك فإنها تتحطم. وكذلك الدعاة فإن لديهم قوة احتمال على مواجهة الصعاب لكثرة إجراء الابتلاء عليهم.
مجال الدعوة واسع فليتخيّر الداعية لدعوته
ثم تأتي القاعدة التاسعة من قواعد الدعوة إلى الله، وملخصها أن مجال الدعوة واسع فليتخر الداعية لدعوته. وعندما تكون الدعوة في طور التأسيس والتكوين فإن الجهد المبذول قد يقع في مكانه المناسب إذا راعى الداعية مبدأ التخيُّر لدعوته.
فليبدأ بالقريب قبل البعيد، فإنه لا داعي لقطع المسافات من أجل دعوة إنسان ما، سيما إذ كان لا على التعيين، في حين أن الأقربين والمجاورين في السكنى أو العمل محتاجون لمثل هذه الدعوة، وهؤلاء الأقربون معروفون عند الداعية، ولا يحتاج إلى جمع المعلومات عنهم، وهم يعرفونه فلا داعي لكثير من المقدمات.
وهم يعتبون عليه إذا أهملهم وذهب إلى الأبعدين. وهو يعيش بينهم، فهم العين الساهرة في الخير والشر، وهم الشهداء على السراء والضراء، وهو عند الله مسؤول عنهم فقد أخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- على قومه أنهم لا يفقهون جيرانهم ولا يُعَلِّمونهم فتوعدهم بالعقوبة وأمهلهم سنة للقيام بهذا التكليف.
وعندما بدأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالدعوة أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين، فقال: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعرء: 214]. قال الرازي: “ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، ذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولاً ثم على الأقرب فالأقرب ثانيًا، لم يكن لأحد فيه مطعن البتة، وكان قوله أنفع وكلامه أنجع”.
وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: قال: “لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صعد النبي- صلى الله عليه وسلم- الصفا فجعل ينادي: يا بني فِهْر، يا بني عَدِيّ- لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو. فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد”.
الزمن عنصر فعال من عناصر الدعوة
ومن قواعد الدعوة إلى الله جل شأنه، أنّ الزمن فيها عنصر فعّال، فكثيرًا ما يشعر الدعاة بخيبة الأمل عندما يدعون إلى الله بالحجج والبراهين، ولكن لا يجدون استجابة كبيرة من قبل المدعوين. وهذا الشعور بالخيبة ناشئ عن إسقاطهم لعنصر مهم من عناصر معادلة الدعوة وهو عنصر الزمن.
إن أول ما يجب أن نعلمه أن الواقع الذي نتعامل معه واقع غير إسلامي، وأنه تشكل بفعل عوامل كثيرة، معظمها نشأ بفعل مؤثرات مادية إلحادية أو فاسدة، وقد سيطر هذا الواقع على أفراد المجتمع، وأصبح الداعية يتعامل مع الفرد القابع تحت هذه التراكمات الفكرية والسلوكية، التي هي بمثابة الحجاب المانع من الاتصال بين الداعية والمدعو.
وأي كلمة يقولها الداعية لا تذهب هباء منثورًا، وإنما تدخل في مكونات المدعو، ويختزنها عقله وتتراكم خبراته الخَيِّرة، وقد يظهر أثر كلمة قيلت قبل سنوات بفعل موقف محرك أدى إلى استرجاع تلك الخبرة، ثم إن ما يقوله الداعية اليوم يجده داعية آخر رصيدًا بعد سنين. وكثيرًا ما يحدث أنه عندما نتحدث مع إنسان ما يقول: هذا شيء سمعته من فلان.
واختيار زمن الدعوة أمر في غاية الأهمية، وهناك أوقات يخلو المرء فيها مع نفسه، ولا يكون مستعدًا فيها لتقبل الأفكار. وإن الدعوة تتأثر بالجو العام والظرف الذي يمر فيه الداعية والمدعو، ولهذا فإن على الداعية أن يختار أنسب الأوقات التي لا إحراج فيها ولا مشقة. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: “كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا” (البخاري).
الدعوة فن وقيادة
ولا شك أن الدعوة إلى الله فن وقيادة وهي تقوم على التخطيط والمتابعة، ويظن كثير من الدعاة أن الدعوة تقوم على قول الكلمة الخيرة في أي وقت وفي أي مكان، وأنها تسير بطريق عشوائي يستوي فيه الدعاة على اختلاف إمكانياتهم.
وهناك دعاة آتاهم الله تعالى قدرة فائقة على التبليغ، وتراهم يألفون ويُؤلفون، وقد وضع الله لهم القبول في قلوب الخلق، كما أن هناك دعاة لا يحالفهم التوفيق في المنطق والأسلوب. وكلا الفريقين بحاجة إلى مبادئ الدعوة وأساليبها والتدرب عليها، وبذلك تكون الدعوة فناً يُتلقى، وقواعد وأساليب تُطَوَّر، ووسائل تتأثر بالتحديث والمعاصرة.
والتخطيط الواعي هو الذي ينقل الدعوة إلى الإطار الفني المنتج. والتخطيط هو التصور النظري لسير الدعوة وكلما اكتمل التخطيط واستوعب عناصره أدى إلى النتيجة المتوقعة بعون الله وبعد الاتكال عليه.
بين الدعوة والجهاد
ومن ضمن قواعد الدعوة إلى الله سبحانه، أنها صورة كبيرة من صور الجهاد وتشترك مع القتال في الهدف والنتيجة، فلم تعد كلمة الجهاد تعطي المدلولات التي فهمها الصحابة والتابعون، والتي جاء بها القرآن الكريم والسنة الشريفة، إذا إنها تعني في عرف بعض الدعاة القتال، وأنه لا جهد بلا قتال.
ونتيجة لهذا الفهم فقد ظهر في العالم الإسلامي أناس يريدون القتال ولو لم يحن وقته وتستكمل عدته، شعورًا منهم بأن الإثم يطاردهم وهم لا يقاتلون.
وتصويبًا لهذا الفهم فإن علينا الرجوع إلى لسان الشرع في كلمة الجهاد، إذ إن مراجعة المعاني الشرعية ضرورة تعصم من الزلل والانحراف؛ قال في اللسان: “الجهاد محاربة الأعداء، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل:”. وقال أيضًا: “والجهاد المبالغ واستفراغ ما في الوسع في الحرب، أو اللسان، أو ما أطاق من شيء”.
الدعوة سلعة شريفة لا تباع بالأغراض الدنيوية
والدعوة سلعة شريفة لا تباع بالأغراض الدنيوية والأجر الدنيوي يفسد المروءة ولا يصلح للدعوة، تلك قاعدة من قواعد الدعوة إلى الله جل شأنه، لأن الداعية يعمل بمقتضى تكليف الله تعالى، ووظيفة الدعوة ليست من جنس الوظائف الدنيوية، فهي أسمى وأشق.
وما من وظيفة تحتمل كل صور الهلاك والإنهاك كوظيفة الدعوة: ففيها توقع هلاك النفس والمال، وفيها احتمال البعد عن الأهل والولد والأوطان. ووظيفة فيها مثل هذا الجهد لا تعادلها الدنيا كلها.
ولقد كان كل نبي من أنبياء الله الكرام يؤكد هذا المبدأ قائلاً: (لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) [الأنعام:90]. وقد أُمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالتزام هذا النهج، وعندما أعرض أهل مكة عن الإيمان جاءت الآية تسألهم عن سبب إعراضهم، وتقول: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [الطور: 40].
علما بأن طلاب الدنيا لا يفعلون شيئًا إلا بأجر دنيوي. وإن قصة السّحرة مع موسى- عليه السلام- تثبت هذا عندما قالوا لفرعون: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) [الشعراء: 41]. فأكد لهم فرعون ذلك وقال: (نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ) [الشعراء:42].
وبعد دخول الإيمان إلى قلوبهم لم يتركوا الأجر فقط، بل قالوا له: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [طه:72].
التعرف إلى المدعو عامل أساسي في كسبه
إن الدعوة إلى الله ليست كما يظنها بعض الدعاة كلمة تقال من أجل إبلاغ العذر وإقامة الحجة؛ ويُتوصل إليها بأن يُقال كل شيء في كل مكان وفي أي زمان ولأي إنسان، مهما كان ظرفه، ولا فرق في ذلك بين محزون ومسرور ومريض ومشغول وغيره.
وبالرغم من كون هذا الأمر دعوة؛ فدعوة على غير بصيرة، والداعية مطالب بالبصيرة مع الدعوة، لقول الله تعالى: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف:108].
ويقول الإمام الرازي في تفسيره: وهذا يدل على أن الدعاة إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط، وهو أن يكون على بصيرة مما يقول، وعلى هدى ويقين.
وفي صلح الحديبية يأمر النبي- صلى الله عليه وسلم- بأن يُعرض الهدي في وجه الحُلَيْس بن علقمة، سيد الأحابيش، الذي أرسلته قريش إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، يقول ابن هشام: “ثم بعثوا إليه الحُلَيْس بن علقمة، وكان يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه النبي قال: “إن هذا من قوم يتألهون- أي يتعبدون- فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه”.
فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إعظامًا لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك، فغضب عند ذلك، وقال: “يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيُصدُّ عن بيت الله من جاء معظمًا له”.
المعاصرة ومعرفة البيئة العامة من أسباب نجاح الدعوة
أما القاعدة الأخيرة من قواعد الدعوة إلى الله جل وعلا، فهي المعاصرة ومعرفة البيئة العامة من أسباب نجاح الدعوة، فكلما تقدم الزمن، واتسعت الحياة وتعقدت، كان الداعية أحوج إلى مزيد من المعارف، ويصبح من الضروري أن يتعرف الداعية على البيئة العامة: الاجتماعية والاقتصادية والسكانية والسياسية.
والداعية الأوسع اطلاعًا هو الأقوى أثرًا في الغالب ولما كان الداعية يقوم بدور قيادي في المجتمع فإن أفراد هذا المجتمع يتوقعون أن يجدوا عند الداعية ثقافة واسعة، ومعارف متنوعة المستوى المحلي والعالمي.
ومعرفة البيئة العامة تساعد الداعية على الاستفادة من فرص البيئة، وتساعده كذلك على الاستفادة من البيئة المحلية والعالمية؛ فها هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينظر في الدول المعاصرة فيجد الأمن والطمأنينة عند النجاشي في الحبشة، وإن كان ذلك بوحي من الله تعالى، فإن على الداعية أن يبذل جهده لمعرفة معطيات الزمان والمكان والسكان.
ومما لا شك فيه أن كل بيئة لها مميزاتها ومتطلباتها، فالبيئة الصحراوية غير البيئة القروية، والبيئة القروية غير البيئة الحضرية، والبيئة التجارية غير الصناعية والزراعية.
المصادر والمراجع:
- همام سعيد: كتاب قواعد الدعوة إلى الله، دار الفرقان، يناير 2014.
- ابن سُنَيْنَة السامرّي: كتاب الفروق، 1/2.
- مجلة البيان لمجموعة من المؤلفين، ص 34، ج 140.
- الخطابي: معالم السنن، 4/187.
- القرطبي: تفسير القرطبي 3/429.
- الرازي: مفاتيح الغيب، 17/146.
- البخاري: متن فتح الباري 1/160.
- الهيثمي: مجمع الزوائد، 1/164.
- ابن منظور: لسان العرب، 4/109.
- ابن قيم الجوزية: زاد المعاد، 2/38.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 2/313.