لقد كانت قصة وفد ثقيف حدثًا مهمًّا في تاريخ الدعوة الإسلامية، حيث دلّت على عزة الإسلام والمسلمين وتمسّكهم بالمنهج الإلهي الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنه لا يجوز التنازل في عقائد الإسلام أو شرائعه، وفي الوقت نفسه هو دين يسر وسماحة، لا يجبر الناس على الدخول فيه. والفوائد من قصة هذا الوفد كثيرة، وهي دعوة لإعادة قراءتها والاستفادة منها في هذا الزمن الذي تقاربت فيه الأمم، وحق فيه التبليغ الأمثل والأجمل لهدايات الإسلام.
مختصر قصة وفد ثقيف
وبدأت قصة وفد ثقيف في رمضان من السّنة التاسعة للهجرة النبوية، الموافق عام 630 ميلادي، حينما قدم وفد من قبيلة ثقيف بالطائف إلى المدينة المنورة للقاء النبي- صلى الله عليه وسلم-، بهدف التفاوض مع النبي على شروط صلح تسمح لهم بالحفاظ على بعض شعائرهم الدينية، مثل عبادة اللات، والسماح لهم بشرب الخمر، وتحريم الصلاة عليهم، فرفض النبي طلباتهم، وأصر على أن الإسلام لا يقبل أي تنازلات، وفي النهاية تأثر بعض أعضاء الوفد بالإسلام، وأعلنوا إسلامهم، وعاد الأغلبية وهم على شركهم.
وأرسل كبراء الطائف الوفد، حينما رأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب الذين أسلموا، فأجمعوا على أن يرسلوا رجالاً إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقدم عليه ستة منهم في رمضان بعد رجوعه من تبوك سنة تسع. وكان على رأس الوفد عبد ياليل بن عمرو.
وكان الصحابة يعرفون اهتمام الرسول- صلى الله عليه وسلم- بإسلام ثقيف؛ لذلك ما إن ظهر الوفد قرب المدينة، حتى تنافس كل من أبي بكر والمغيرة على أن يكون هو البشير بقدوم الوفد للرسول، وتنازل المغيرة لأبي بكر.
واستقبل النبي- صلى الله عليه وسلم- الوفد راضيًا وبنى لهم خيامًا ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلّوا، وكانت ضيافتهم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكانوا يفدون عليه كل يوم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم، فكان عثمان كلما رجعوا وقالوا بالهاجرة، عمد إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسأله عن الدين واستقرأه القرآن، حتى فقه في الدين وعلم، وكان إذا وجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نائما عمد إلى أبي بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك الرسول وعجب منه وأحبه.
ومكث الوفد أياما يختلفون إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- والنبي يدعوهم إلى الإسلام، فقال له عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى أهلنا وقومنا؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “نعم إن أنتم أقررتم بالإسلام قضيتكم، وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم”.
قال عبد ياليل: أرأيت الزنا؟ فإنا قوم عزاب بغرب، لا بد لنا منه، ولا يصبر أحدنا على العزبة! قال: “هو مما حرم الله على المسلمين، يقول الله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) [الإسراء: 32]. قال: أرأيت الربا؟ قال: “الربا حرام” قال: فإن أموالنا كلها ربا، قال: “لكم رءوس أموالكم، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) [البقرة: 278].
قال أفرأيت الخمر؟ فإنها عصير أعنابنا، لا بد لنا منها. قال: “فإن الله قد حرمها” ثم تلا رسول الله هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90]. فارتفع القوم وخلا بعضهم ببعض، فقال عبد ياليل: ويحكم! نرجع إلى قومنا بتحريم هذه الخصال الثلاث! والله والله لا تصبر ثقيف عن الخمر أبدا، ولا عن الزنا أبدا.
قال سفيان بن عبد الله: أيها الرجل، إن يرد الله بها خيرا تصبَّر عنها، قد كان هؤلاء الذين معه على مثل هذا، فصبروا وتركوا ما كانوا عليه، مع أنا نخاف هذا الرجل، قد أوطأ الأرض غلبة ونحن في حصن في ناحية من الأرض، والإسلام حولنا فاش، والله لو قام على حصننا شهراً لمتنا جوعاً، وما أرى إلا الإسلام وأنا أخاف يوماً مثل يوم مكة.
وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى كتبوا الكتاب، كان خالد هو الذي كتبه وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرسل إليهم الطعام فلا يأكلون منه شيئًا حتى يأكل منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أسلموا.
قالوا: أرأيت الرَّبَّة، ما ترى فيها؟ قال: “هدمها”. قالوا: هيهات لو تعلم الربة أنا أوضعنا هدمها قتلت أهلنا!! قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: ويحك يا عبد ياليل، إن الربة حجر لا يدري من عبده ممن لا يعبده، قال عبد ياليل: إنا لم نأتك يا عمر، فأسلموا وكمل الصلح، وكتب ذلك الكتاب خالد بن سعيد، فلما كمل الصلح كلموا النبي- صلى الله عليه وسلم- يدع الربة ثلاث سنين لا يهدمها، فأبى، قالوا: سنتين، فأبى، قالوا: سنة، فأبى، قالوا: شهرًا واحدًا، فأبى أن يوقت لهم وقتًا وإنما يريدون بترك الربة لما يخافون من سفهائهم والنساء والصبيان، وكرهوا أن يروعوا قومهم بهدمها، فسألوا النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يعفيهم من هدمها، فوافق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على طلبهم ذلك، وسألوا النبي أن يعفيهم من الصلاة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “لا خير في دين لا صلاة فيه”.
لقد طلب وفد ثقيف أن يعفيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من بعض الفرائض وأن يحلل لهم بعض المحرمات إلا أنهم فشلوا في طلباتهم وخضعوا للأمر الواقع. وأكرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفادتهم وأحسن ضيافتهم في قدومهم وإقامتهم وعند سفرهم، وأمَّر -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن أبي العاص على الطائف، فقد كان أحرصهم على تعلم القرآن والتفقه في الدين، وكان أصغرهم سنًا.
وتأثر الوفد من معاملة النبي ومن اختلاطهم بالمسلمين حتى إنهم صاموا ما بقي عليهم من شهر، ومكثوا في المدينة خمسة عشر يوماً ثم رجعوا إلى الطائف، وبعد رجوعهم جهز رسول الله سرية بقيادة خالد بن الوليد- رضي الله عنه- ومشاركة المغيرة بن شعبة وأبي سفيان بن حرب -رضي الله عنهما- وبعثهم في أثر الوفد.
وبينما نجحت مساعي الوفد في إقناع ثقيف بالدخول في الإسلام وأخبَروهم بمصير اللات، وإذا بالسرية قد وصلت إلى الطائف، وخرجت ثقيف عن بكرة أبيها رجالها ونساؤها وصبيانها حتى الأبكار من خدورهن، وكانوا -لقرب عهدهم بالشرك- لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة ويظنون أنها ممتنعة.
وقُضِيَ على ثاني أكبر طواغيت الشرك في الجزيرة العربية، وحل محلها بيت من بيوت الله عز وجل يوحد فيه الرب الذي لا إله إلا هو، وذلك بتوجيه كريم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عثمان بن أبي العاص عامله على الطائف حيث أمره “بأن يجعل مسجد الطائف حيث كان طاغيتهم”.
دروس وعبر من قصة وفد ثقيف
وفي قصة وفد ثقيف الكثير من الدروس والعبر والفوائد، أبرزها:
- حب الخير والتبشير به: لهذا فرح أبو بكر بقدوم الوفد من ثقيف وأسرع لبشارة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك، وهكذا حال المؤمن الصادق مع الله.. إنه يفرح إذا أسلم قوم، وإذا انتصر المسلمون، وإذا اهتدى الضالون، لا كحال المنافق الظلوم الذي يحزنه انتصار المسلمين، وهزيمة أعوانه من الكافرين، وليس كالذي لا همة له ولا حب للإسلام إلا مجرد الانتساب.
- الإسلام دين قوي: فهو لا يقبل المداهنة على حساب مسلماته القطعية، فمن يطلب إسقاط أي حكم شرعي قطعي عنه فلا يقبل منه ذلك، ولا يمكن أن يسمى الشخص مسلما حتى يدخل في السلم كافة.
- الإسلام والأصنام ضدان لا يجتمعان: فهو دين التوحيد الخالص لله رب العالمين، ولا يُمكن أن يبقى صنم في دولته ودياره ما دام مهيمنا عليها.
- الله غالب على أمره: ولو كره الكافرون والفاسقون والظالمون والمنافقون،، وسيتم دينه بعز عزيز وبذل ذل، عزا يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر وأهله.
- الأمان لمن أسلم: ففي قصة هذا الوفد من الفقه أنّ الرجل من أهل الحرب إذا غدر بقومه وأخذ أموالهم، ثم قدم مسلما لم يتعرض له الإمام، ولا لما أخذه من المال، ولا يضمن ما أتلفه قبل مجيئه من نفس، ولا مال، كما لم يتعرض النَّبيٌّ- صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- لما أخذه المغيرة من أموال الثقفيين، ولا ضمن ما أتلفه عليهم، وقال: “أما الإسلام فأقبلُ، وأما المال، فلست منه في شيء” (البخاري).
- جواز إنزال المشرك في المسجد: ولا سيما إذا كان يرجو إسلامه وتمكينه من سماع القرآن، ومشاهدة أهل الإسلام وعبادتهم.
- حسن سياسة الوفد وتلطفهم: حَتَّى تمكنوا من إبلاغ ثقيف ما قدموا به فتصوروا لهم بصورة المنكر لما يكرهونه، الموافق لهم فيما يهوونه، حَتَّى ركنوا إليهم واطمأنوا، فلما علموا أنه ليس لهم بد من الدخول في دعوة الإسلام أذعنوا، فأعلمهم الوفد أنهم بذلك قد جاءوهم، ولو فاجئوهم به من أول وهلة لما أقروا به ولا أذعنوا، وهذا من حُسن الدعوة وتمام التبليغ.
- هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتا للطواغيت: وهدمها أحب إلى الله ورسوله، وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير.
- استحباب اتخاذ المساجد مكان بيوت الطواغيت: فيعبُد الله وحده لا يشرك به شيئا في الأمكنة التي كان يشرك به فيها، وهكذا الواجب في مثل هذه المشاهد أن تهدم وتجعل مساجد إن احتاج إليها المسلمون، وإلا أقطعها الإمام هي وأوقَافها للمقاتلة وغيرهما.
- الاستقبال الحسن: فقد أنزل النبي- صلى الله عليه وسلم- الوفد منزلا حسنا على بيتين كبيرين،، وأنزلهم وسمح لهم بدخول مسجده على الرغم من شركهم.
- الوعظ الدائم والصبر على الإقناع: فقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يختلف إليهم مذكرا وواعظا، حتى كان يراوح بين قدميه في السهر معهم ملاطفا ومؤنسا.
- الثبات على المبادئ والقيم: حيث حاول الوفد في مفاوضاته مع النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يتنازل لهم عن بعض المحرمات، وأن يتغاضى عن بعض القيم الضامنة للحياة الصالحة، ففاوضُوه على إباحة الخمر والزنا والربا، وكانت هذه المناشط من أعمدة اقتصاد الطائف، فأبى عليه الصلاة والسلام. وذلك بعدما أخذ عليهم الإقرار بالإسلام كشرط أولي لإمضاء الصلح..
- الإسلام على الشرط الفاسد: وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم-، وبعد إمضائه الصلح معهم وعدم تفريطه في القيم الكبرى، تنزّل معهم في بعض القضايا، كعدم إيجاب الزكاة عليهم عامهم ذلك، وعدم استنفارهم للجهاد، تأليفا لقلوبهم، وانتظارا لتمكن الإيمان منه بالتربية والمخالطة، وهو ما تم، فلم ترتد ثقيف عندما ارتدت العرب.
- مراعاة الواقع الاجتماعي: فقد علم النبي- صلى الله عليه وسلم- تمكن الشرك منهم، وحبهم المفرط لربّتهم “اللات” التي كانت لها كعبة تضاهي كعبة مكة، فلما فاوضُوه على عدم هدمها خوفا على أنفسهم من ردة فعل قومهم إن باشروا هم ذلك، فرفض المصطفى ترك مظهر من مظاهر الشرك، ففاوضُوه على تركها سنتين ثم سنة، فاقترح عليهم- عليه الصلاة والسلام- أن يرسل من ينوب عنه لهدم الطاغية.
- مراعاة الواقع القبلي: وذلك في قراءة الحال لقوم ذوي عصبية كبيرة، حيث كانت المنافسة بينهم وبين قريش شديدة من الجاهلية، فخَشوا أن يحكمهم قرشي، فاشترطُوا ألا يتولى أمرهم إلا واحدا منهم، وهو ما كان، حيث تولى أمرهم سادتهم ورؤوسهم السابقين في الجاهلية الذين أسلموا وحسن إسلامهم من أمثال عبد ياليل بن عمرو، وعثمان بن أبي العاص.
هكذا خضع وفد ثقيف أمام قوة الإسلام وعزته، ولم يكن أمام أهل ثقيف إلا أن يدخلوا في الإسلام كافة بعد أن كانوا أشد الناس حرصا على الدنيا والخوف من التغيير الذي قد يفقدهم ثرواتهم، وما كان ليحدث ذلك لولا قوة الإسلام ومنعته.
مصادر ومراجع:
- الصلابي: السيرة النبوية 2 /741-746.
- موقع مداد: قدوم وفد ثقيف على رَسُول اللهِ – صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
- محمد سعيد القصيباتي: إسلام وفـد ثقيـف.. مبادئ الإسلام لا محاباة فيها.
- محمد عبدالحليم بيشي: عبر وفكر من قصة وفد ثقيف.
- إسلام ويب: إسلام ثقيف دروس وأحكام.
- ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/751.