يُصاب كل مَن يتأمّل قصة السامري بمشاعر متضاربة، لأنّ شخصية بطلها عجيبة ومُحيّرة، وتحتاج إلى تحليل نفسي لتصرفها الشائن وجرمها الأنكر، فهو رجل من بني إسرائيل عاش في مصر وتعرّض للذل والمهانة والاستعباد وسوء العذاب على يد فرعون وأنصاره، ثمّ رأى الآيات والمعجزات التي خُوطب بها فرعون، ورحل مع موسى- عليه السلام-، وعَبَرَ معه البحر الذي انفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وشهد غرق فرعون وجنوده في اليمّ. ثم بعد ذلك كلّه قرر أن يكفر بالله، بل ويُضلّل الناس بابتداع معبود باطل.
مختصر قصة السامري
لقد وَرَدَ ذِكر قصة السامري في ثلاث سور من القرآن الكريم هي: البقرة، والأعراف، وطه، وفيها يذكر الله تعالى ما كان مِن أمر بني إسرائيل، حين ذهب موسى- عليه السلام- إلى ميقات ربه فمكث على الطور يُناجي ربّه ويسأله عن أشياء كثيرة وهو تعالى يجيبه عنها.
وفي هذه الأثناء عَمد رجل منهم يُقال له السّامري، فأخذ ما كانوا استعاروه من الحلي، فصاغ منه عجلًا وألقى فيه قبضة من التُّراب، كان أخذها من أثر فرس جبريل، حين رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه. فلما ألقاها فيه خار كما يخور العجل الحقيقي.
قال الله تعالى مبينًا بطلان ما ذهبوا إليه: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) [طه: 89]. وقال سبحانه: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) [الأعراف: 148].
ولمّا رجع موسى- عليه السلام- إليهم، ورأى ما هُم عليه من عبادة العجل، ومعه الألواح المتضمنة التوراة، ألقاها، ويقال إنه كسرها. ثم أقبل عليهم فعنّفهم ووبّخهم على صنيعهم فاعتذروا إليه، وقالوا: إنهم تحرجوا من تملك حلي آل فرعون وهم أهل حرب، وقد أمرهم الله بأخذه وأباحه لهم، ولم يتحرجوا بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الجسد الذي له خوار، مع الواحد الأحد الفرد الصمد القهار!
ثم أقبل موسى- عليه السلام- على أخيه هارون- عليه السلام- قائلًا له: هلا لما رأيت ما صنعوا اتبعتني فأعلمتني بما فعلوا، فقال: تركتهم وجئتني وأنت قد استخلفتني فيهم. وقد كان هارون- عليه السلام- نهاهم عن هذا الصنيع الفظيع أشد النهي، وزجرهم عنه أتم الزجر.
وأقبل موسى- عليه السلام- على السامري وقال له: ما حملك على ما صنعت؟، قال: رأيت جبريل وهو راكب فرسًا فقبضت قبضة من أثر فرس جبريل. وقد ذَكَرَ بعضهم أنه كلما وطئت الفرس بحوافرها على موضع اخضّر وأعشَب، فأخذ من أثر حافرها، فلمّا ألقاه في هذا العجل المصنوع من الذهب كان من أمره ما كان.
وعمد موسى- عليه السلام- إلى هذا العجل، فحرقه بالنار ثم ذرّاه في البحر، وأمر بني إسرائيل فشربوا، فمَن كان من عابديه علّق على شفاههم من ذلك الرماد ما يدل عليه، وقيل بل اصفرت ألوانهم.
ثم قال تعالى إخبارًا عن موسى أنه قال لهم: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) [طه: 98]. ثم أخبر تعالى عن حلمه ورحمته بخلقه، وإحسانه على عبيده في قبوله توبة من تاب إليه، بتوبته عليه، فقال: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأعراف: 153].
لكن لم يقبل الله توبة عابدي العجل إلا بالقتل، كما قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 54]، فيقال إنهم أصبحوا يومًا وقد أخذ من لم يعبد العجل السيوف في أيديهم، وألقى الله عليهم ضبابًا حتى لا يعرف القريب قريبه ولا النسيب نسيبه، ثم مالوا على عابديه فقتلوهم وحصدوهم.
واختار موسى- عليه السلام- من قومه بعد ذلك سبعين من علماء بني إسرائيل، ذهبوا معه ليعتذروا إلى الله- عز وجل- عن بني إسرائيل في عبادة مَن عبد منهم العجل. وكانوا قد أمروا أن يتطيبوا ويتطهروا ويغتسلوا، فلما ذهبوا معه واقتربوا من الجبل وعليه الغمام وعمود النور ساطع صعد موسى الجبل. ودنا موسى فدخل في الغمام، وقال للقوم: ادنوا، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل. فلما فرغ الله من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم فقالوا: (يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) [البقرة: 55]. فأخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة فماتوا جميعا.
ودعا موسى ربه قائلا: ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء الذين عبدوا العجل منا، فإنا برءاء من فعلتهم. ثم لما جاءهم موسى بالألواح فيها التوراة أمرهم بقبولها والأخذ بها بقوة وعزم. فقالوا: انشرها علينا فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها. فقال: بل اقبلوها بما فيها، فراجعوه مرارًا، فأمر الله الملائكة فرفعوا الجبل على رؤوسهم حتى صار كأنه ظله، أي غمامة، على رؤوسهم.
وأمروا بالسجود فسجدوا فجعلوا ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم، فلمّا نشر التوراة لم يبقَ على وجه الأرض أي يهودي صغير ولا كبير تُقرأ عليه إلا اهتز ونفض لها رأسه. ثم بعد مشاهدة هذا الميثاق العظيم والأمر الجسيم نكثوا عهودهم ومواثيقهم.
فوائد وعبر من قصة السامري
وهناك وقفات ودروس تربوية عديدة من قصة السامري والعجل، نذكر منها ما يلي:
- بنو إسرائيل ألفوا الاستعباد: فقد استعبدهم فرعون سنين طويلة ورغم ذلك لما جاءهم موسى- عليه السلام- لم يتبعوا ما جاء به ولم يسيروا على الطريق الذي رسمه لهم؛ فما كاد يتركهم في رعاية هارون أخيه ويبتعد عنهم قليلاً حتى تخلخلت عقيدتهم، وانهارت أمام أول اختبار.
- طبيعة بني إسرائيل الملتوية: فرغم أنّ نبي الله موسى- عليه السلام- أراهم آيات الله على يديه، ما استجاب أكثرهم ولا انقاد له، وقالوا: (أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً) [النساء: 153].
- الاستعباد يخرب النفوس: بل يجعل الناس أذلاء صاغرين خائفين، وهذه الأشياء كلها يُمارسها الطواغيت مع الناس لتركيعهم وإذلالهم، فإذا فقه دعاة الله هذه النقطة عرفوا كيف يربون الناس تربية القادة، وتربية الأحرار لا تربية العبيد!
- حكمة موسى– عليه السلام- في مواجهة السامري وعَبَدَة العجل: فبعد أن ثار عليهم لما اقترفوه من جرم ووبّخهم على صنيعهم الشنيع، حاصر مصدر الفتنة مباشرة واتجه إلى السامري ليحقق معه، ثم إنه أخذ مصدر الفتنة، السبب وهو العجل، وحرقه ونسفه في اليم نسفًا بحيث لا يعود أبداً كما كان. فكان تعامل موسى مع القضية تعاملاً عجيبا فيه حزم وسرعة.
- الحذر من الشخصيات المخادعة: مثل السامري الذي عنده قدرة على البهرجة بالقول، وخداع الناس، وصنع الأشياء التي تذهب بالقلوب، وتُحيّر الألباب، فهذه الشخصية لا بد من الحذر منها، ومن عذوبة منطقها وحلاوة لسانها.
- الحذر من الإصابة بخيبة الأمل: فالداعية إلى الله، يجب ألا يصاب بخيبة الأمل عندما يرى انتكاسًا خطيرًا قد حصل في قومه، ولو كان قد مشى معهم فترة طويلة.
- عدم التعلق الشخصي بشخصية الداعية: يجب التأكيد على عدم التعلق الشخصي بشخصية الداعية، وإنما يكون التعلق بمنهج الداعية، حتى إذا غاب الداعية بقي المنهج موجودا حياً في قلب المدعو، فيستمر هو على المنهج، ويستمر في الدعوة إلى الله.
- مراعاة أدنى المفسدتين: فبقاء هارون في قومه على الشرك الذي حصل معهم مفسدة، وخروجه منهم مفسدة أخرى، فالحل أنه يبقى مراعاة للمفسدة الأعظم ودرءًا لها. فكان بإمكانه أن يتخذ إجراء حاسماً ويخرج منهم ويتركهم وشأنهم، ولا يبالي بما حصل، لكنه آثر أن يبقى بناءً على أوامر موسى، وبناءً على مواصلة الدور في الدعوة لعل الله أن يهديهم، يُحاول فيهم حتى يرجع موسى.
- عدم غيبة المربي عمن يربيهم: فلا بد للمربي أن لا يغيب عمن يربيه، ولا ينبغي للداعية أن يغيب عمن يدعوهم، فإن الغياب في هذه الحالة يؤدي إلى وقوع القوم في الانتكاسات، ومهما حاول أن لا يربطهم بشخصه لكن وجوده سيبقى مهماً؛ لأنه هو مصدر الخير والإشعاع بالنسبة لهؤلاء القوم.
- طريقة موسى في عتاب هارون -عليه السلام-: حيث كان موسى- عليه السلام- فيه غضب وفيه حدة، لكن كانت لله لا لشخصه.
- عدم الخلط بين المسؤوليات والعاطفة عند المحاسبة: فما قال: هذا أخي، أدعه، لأنه أخي لن أحاسبه، بل إنه حاسبه حساباً شديداً، ودقق معه، وحاصره بالأسئلة، ولم تغلبه العاطفة يقول: هذا أخي، ولا أفشله أمام الناس.
- بقاء السامري معذبا ليكون عبرة: حتى لا تسول لأي واحد أن يعمل عملاً مثل هذا وهو يرى السامري منبوذاً مقبوحاً، لا أحد يقترب منه.
- عدم خروج الخلاف بين المربين إلى الناس: فالخلاف بين المربين ينبغي أن لا يخرج ٍإلى الناس، الخلاف بين الدعاة لا ينبغي أن يخرج إلى الناس ما دام ضمن الدائرة الشرعية، يعني في مسائل الاجتهاد، تبعاً للقاعدة الشرعية العظيمة: “لا إنكار في مسائل الاجتهاد” لا يشنع بعضهم على بعض في مسائل الاجتهاد.
- عظم نعمة الله -سبحانه وتعالى- على هذه الأمة: بأن جعل توبتها كلمات، وتوبة بني إسرائيل كان في القتل. فالواحد مهما أجرم لو أشرك بالله يتوب إلى الله: “من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله” [رواه البخاري: 4860، ومسلم: 1647].
- تقبل الوصية ولو كان فيها شدة: فينبغي تقبل الوصية ولو كان فيها شدة، موسى يقول لهارون: {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] قد يرى الإنسان هذه الكلمة ثقيلة، لكن موسى يعرف طبيعة بني إسرائيل، خبرهم، عاش معهم منذ صغره، يعرف طبيعة قومه، ولذلك كان شديداً في وصيته لأخيه: {وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] انتبه لا تتبع سبيل المفسدين.
- عدم التوقف عن إنكار المنكر: أن الحرام لا ينبغي التوقف فيه، ولذلك كان من سفاهة عقول هؤلاء عباد العجل أنهم قالوا: {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طـه: 91].
- خطورة أصحاب الموروثات السابقة على الصف الإسلامي: فهذا السامري الذي قيل: أنه كان من قوم يعبدون العجل فأظهر الإسلام ودخل مع بني إسرائيل، كيف صار خطره عظيم؟ لذلك لا بد من الانتباه لأصحاب الموروثات السابقة الذين يدخلون في الصف فقد يفسدون وقد يخربون؛ لأن خلفياتهم فيها هذه القضية.
- سلبية المربي لا يمنع من التلقي عنه: لأنه ما من إنسان يخلو من سيئات، فكل واحد فيه أخطاء وفيه سلبيات، لذلك إذا كان الشخص سجاياه الحميدة أكثر من سيئاته فهذا يناصحه إخوانه، لكن لا شك أن موقع القدوة والقيادة يتطلب وجود صفات عالية، وأن تكون الصفات السلبية أقل ما يمكن.
- عدم التحمس الزائد في تخطئة المخالف: أن الإنسان عليه ألا يتحمس وينفعل جداً ويزيد في التخطئة والهجوم؛ لأنه لو اكتشف أن رأيه خاطئ سيكون الانسحاب عليه صعباً، لو سمع واحد أن فلانا أخطأ فذهب يشنع عليه ويصب عليه جام غضبه ويعنفه تعنيفا شديداً، ثم بعد ذلك يتضح له أن القصة ليست كما سمع، وأن المسألة فيها اختلاف، وأن الرجل هذا قد يكون له عذر، فسيكون الانسحاب صعبًا.
- خطر إضفاء الشرعية على الباطل: لقد حاولت الفئة الضالة إضفاء الشرعية على هذا الانحراف، فقالوا لبقية القوم: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى) حاولوا إضفاء الشرعية على هذا العجل على هذا الشرك على هذا الكفر، وأن يجعلوه مقرًا.
- التحرج من الأشياء الصغيرة والوقوع في الأشياء العظيمة: فكيف يتحرج الإنسان من الشيء الذي ليس فيه حرج ويقع في الطامة والشيء العظيم، قالوا: هذه حلية تورعنا منها خفنا أن تكون ما هي حلال علينا أخذناها من الفرعونيين القبط وهربنا بها، ما هي حلال علينا، فنبذناها وألقيناها، ثم عبدوا العجل.
تبين لنا قصة السامري والعجل العواقب الوخيمة للفتنة، وكيف أنّها قد تُضلّل الإنسان وتُبعده عن طريق الحقّ، وفي الوقت نفسه تبيُن لنا فضل التوبة ورحمة الله تعالى بعباده، فمن تاب وأناب وتمسك بالعقيد الصحيحة غفر الله له ذنبه وعصمه من الفتن والشهوات وارتكاب المعاصي.
مصادر ومراجع:
- شريف عبد العزيز: قصة السّامري: عبيد العجل عبر العصور.
- محمد صالح المنجد: السامري دروس لأهل التربية.
- صالح المغامسي: سلسلة محاسن التأويل 7/55.
- محمد علي يوسف: تأملات في شخصية السّامري.
- الدكتور طارق السويدان: قصة السامري.