لقد كانت قصة أصحاب الفيل من الإشارات المهمة على قرب حدث عظيم وهو ميلاد النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- الذي ساق الله- سبحانه وتعالى- على يديه الخير للبشرية بأسرها بعد أن كانت تعيش في ظلام دامس، جرّاء البعد عن الخالق، والانغماس في الشهوات، وظلم القوي للضعيف، وانتهاك الحرمات.
ووقعت أحداث هذه القصة حينما أراد أبرهة الحبشي الذي كان حاكمًا لليمن أن يهدم الكعبة المشرفة، لأنها تنافس كنيسته التي بناها ليحج الناس إليها بدلا من الكعبة، لكن الله- عز وجل- خذله وأهلكه هو وجيشه، ليكون عبرة لكل من يفكر في الاعتداء على حرمات الله، ولهذه القصة دروس وعبر منها وجوب الاستعانة بالله وحده واللجوء إليه بالدعاء والتضرع في الأزمات، والأمل في نصر الله الذي ينصر عباده المؤمنين.
مختصر قصة أصحاب الفيل
وذكرت كُتب السيرة تفاصيل قصة أصحاب الفيل التي وقعت أحداثها في عام 571 م، وهو العام الذي وُلِد فيه النبي- صلى الله عليه وسلم-، حيث كان أبرهة الحبشي نائبا للنجاشي على اليمن، فرأى العرب يحجون إلى الكعبة ويعظمونها، فلم يرقَ له ذلك، وأراد أن يصرف الناس عنها، فبنى كنيسة كبيرة بصنعاء ليحج الناس إليها بدلاً من الكعبة.
ولمّا سمع بذلك رجل من بني كنانة دخل الكنيسة ليلاً، فبال وتغوط فيها، فلما علم أبرهة بذلك سأل عن الفاعل، فقيل له: صنع هذا رجل من العرب من أهل البيت الذي تحج العرب إليه بمكة، فغضب أبرهة وحلف أن يذهب إلى مكة ليهدمها.
جهَّز أبرهة جيشا كبيرا، وانطلق قاصدًا البيت العتيق يريد هدمه، وكان من جملة دوابهم التي يركبون عليها الفيل- الذي لا تعرفه العرب بأرضها- فHصيب العرب بخوف شديد، ولم يجد أبرهة في طريقه إلا مقاومة يسيرة من بعض القبائل العربية التي تعظم البيت، أما أهل مكة فتحصنوا في الجبال ولم يقاوموه.
وجاء عبد المطلب يطلب إبلاً له أخذها جيش أبرهة، فقال له أبرهة: كنتَ قد أعجبتني حين رأيتُك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أخذتها منك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك، قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًّا يحميه، فقال أبرهة: ما كان ليمتنع مني، قال عبد المطلب: أنت وذاك.
وأما قريش ففروا من أرض الحرم إلى رؤوس الجبال، يحتمون بها، ويترقبون ما الذي سيحل بأبرهة وقومه. فلما أصبح أبرهة عبأ جيشه، وهيأَ فيله لدخول مكة، فلما كان في وادي محسر- بين مزدلفة ومنى- برك الفيل، وامتنع عن التقدم نحو مكة، وكانوا إذا وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق انقاد لذلك، وإذا وجّهوه إلى الكعبة برك وامتنع.
وبينما هم على هذه الحال، أرسل الله عليهم طيراً أبابيل- أي يتبع بعضها بعضا- مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجر في منقاره وحجران في رجليه، لا تصيب منهم أحدا إلا تقطعت أعضاؤه وهلك.
أما أبرهة فقد أصابه الله بداء، تساقطت بسببه أنامله، فلم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل فرخ الحمام، وانصدع صدره عن قلبه فهلك شر هلكة. وأخبر الله تعالى بذلك في كتابه فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)) [سورة الفيل].
دروس وعبر من قصة أصحاب الفيل
وتحمل قصة أصحاب الفيل العديد من العبر والدروس، ومن أبرزها:
- قدرة الله تفوق قدرة البشر، فمهما تجهزت الجيوش، وتسلحت بأقوى الأسلحة فلن تنتصر على قدرة الله سبحانه، فهو مالك الملك، لا ينازعه ملك ولا أمير ولا سلطان.
- كانت حادثة الفيل تمهيدًا لرسالة الإسلام، حيث بيّنت لقريش قدرة الله ومعجزة من معجزاته وأن الكعبة ستكون في حماية الله عز وجل لأنها قبلة المسلمين الأولى فيما بعد.
- بينت الحادثة حُرمة البيت الحرام والكعبة المشرفة، قال النبي- صلى الله عليه وسلم- عنها: “إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عن مَكَّةَ القَتْلَ، أوِ الفِيلَ – قَالَ أبو عبدِ اللَّهِ كَذَا، قَالَ أبو نُعَيْمٍ واجْعَلُوهُ علَى الشَّكِّ الفِيلَ أوِ القَتْلَ وغَيْرُهُ يقولُ الفِيلَ – وسَلَّطَ عليهم رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمُؤْمِنِينَ، ألَا وإنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، ولَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ بَعْدِي” (البخاري).
- أظهرت الحادثة نِعَم الله على قريش، وكانت آية للتذكرة بقدرة الله عز وجل الذي تضرعوا إليه وأجاب تضرعهم ودعائهم.
- ذكرت القصة مواساة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين من بعده، لأنها بيان لقدرة الله حتى في لحظات ضعف الأمة وهوانها.
- التضحية في سبيل المقدسات: حيث قام ملك من ملوك حمير في وجه جيش أبرهة ووقع الملك أسيرًا، وقام النفيل بن حبيب الخثعمي ومن اجتمع معه من قبائل اليمن فقاتلوا أبرهة إلا أنهم انهزموا أمام الجيش العرمرم وبذلوا دماءهم دفاعا عن مقدساتهم.
- خونة الأمة مخذولون: فهؤلاء العملاء الذين تعاونوا مع أبرهة وصاروا عيونا له وجواسيس وأرشدوه إلى بيت الله العتيق ليهدمه، لُعنوا في الدنيا والآخرة، لعنهم الناس، ولعنهم الله- سبحانه وتعالى-، وأصبح قبر أبي رغال رمزًا للخيانة والعمالة، وصار ذاك الرجل مبغوضا في قلوب الناس، وكلما مر أحد على قبره رجمه.
- حقيقة المعركة بين الله وأعدائه: في قول عبد المطلب زعيم مكة: “سنخلي بينه وبين البيت فإن خلى الله بينه وبينه، فوالله ما لنا به قوة” وهذا تقرير دقيق لحقيقة المعركة بين الله وأعدائه، فمهما كانت قوة العدو وحشوده، فإنها لا تستطيع الوقوف لحظة واحدة أمام قدرة الله وبطشه ونقمته.
- تعظيم الناس للبيت وأهله: ازداد تعظيم العرب لبيت الله الحرام الذي تكفل بحفظه وحمايته من عبث المفسدين، وكيد الكائدين، وأعظمت العرب قريشا، وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم العدو، وكان ذلك آية من الله، ومقدمة لبعثة نبي يبعث من مكة ويطهر الكعبة من الأوثان، ويعيد لها ما كان لها من رفعة وشأن.
- أنّ اللهَ تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فالكعبة لم تمس بسوء، فهي أول بيت وضع للناس، وما حاول أحد أن يعتدي عليها إلا أهلكه الله.
- أكرم الله تعالى أهل قريش إذ جمعهم بعد الفرقة، وأمنهم من أصحاب الفيل، وأطعمهم بعد أن كانوا فقراء، فكان لزاما عليهم أن يؤمنوا باللهِ تعالى وحده وأن ينصرفوا عن عبادةِ الأصنام.
- كان في هذهِ القصة أثر بالغ وعظيم في نفوسِ الصحابة- رضي الله عنهم-، فقد بينَ الله تعالى لهم أنه مهما بدا العدو لهم ضخماً فالله تعالى قادر على أن ينجيهم منه ويحول خرابهم عليهم.
- اعتبار الناس من أحوالِ الماضين، وإن كانت هذه القصةُ موجزة إلا أنها تُبيّن صدق رسالة رسول الله محمد- صلى الله عليه وسلم-.
- قدرة الله تعالى في إهلاك أصحاب الفيلِ ذَوي القوة الكبيرة والمالِ الوفيرِ بشيءٍ لا يمكن أن يؤذي الإنسان، فقد أرسل عليهم طيوراً، حتى يعتبر أهل الكبر والإفساد في الأرض بذلك فلا يعتزون بمالٍ ولا بقوة، فإنه إذا جاءَ عذابُ الله -تعالى- فلا راد له إلا هو.
- تعظيم مشركي العرب للكعبة، وتعود هذه المنزلة إلى بقايا ديانة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
- حسد النصارى وحقدهم على مكة وعلى العرب الذين يعظمون هذا البيت، لذلك أراد أبرهة أن يصرف العرب عن تعظيم بيت الله ببناء كنيسة القليس، وعلى الرغم من استعماله أساليب الترغيب والترهيب، فإنّ العرب امتنعوا.
- جعل الحادثة تاريخًا للعرب: استعظم العرب ما حدث لأصحاب الفيل، فأرّخوا به، وقالوا وقع هذا عام الفيل وولد فلان عام الفيل، ووقع هذا بعد عام الفيل بكذا من السنين، وعام الفيل صادف عام 570م.
إن قصة أصحاب الفيل وإن كانت حادثة عظيمة، وشأناً كبيراً، فهي رمز واضح على نصرة الله تعالى لدينه ولبيته، فإذا كان أبرهة قد أهلكه الله، فإن أتباعه في كل مكان وزمان هالكون لا محالة، والله يمهل ولا يهمل.
مصادر ومراجع:
- الشيخ عبد الله بن علي الطريف: في قصة أصحاب الفيل عبرة.
- الفخر الرازي: مفاتيح الغيب 32/94.
- أبو الفارس: السيرة التحليلية، ص 112.
- الماوردي: أعلام النبوة، ص 185-189.
- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 4 /584، 549.
- الصلابي: السيرة النبوية 1 /51-58.