تناولت سورة القلم تفاصيل قصة أصحاب الجنة التي تبدأ بأنّ رجلا من ثقيف كان مؤمنًا وكان لديه بستان فيه نخيل وزروع بالقرب من صنعاء في اليمن، وكان يقسم من ناتج ثمارها عند الحصاد نصيبًا كبيرًا للفقراء، وعندما مات هذا الرّجل ورث البستان أبناؤه، وقرروا ألا يعطوا المساكين ما كان يعطيه لهم أبوهم، وتحججوا بأن عيالهم كثيرون والمال الناتج قليل، فكانت نتيجة فعلهم أن أحرق الله -عز وجل- بستانهم.
وتحتوي هذه القصة على دروس وعبر جليلة، منها: أنّ الدنيا زائلة، والآخرة هي الدار الباقية، ويجب ألا نغتر بزينة الحياة الدنيا، وننسى الآخرة، والصدقة تُطهر المال وتُكفّر الذنوب، كما أنّ التوبة تُمحو الخطايا، وتُفتح أبواب الجنة، والله تعالى غفور رحيم، يغفر الذنوب لعباده إذا تابوا إليه بصدقٍ.
مختصر قصة أصحاب الجنة
لقد حدثت قصة أصحاب الجنة قبل بعثة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- لرجل صالح من أهل الكتاب وكان في قرية يُقال لها “ضَرَوان” على سِتَّة أميال من صَنعاء، عاش هناك وكانت له جَنَّة فيها من كل الثمرات وكان هذا الرجلُ الصالح لا يُدخِل بيتَه ثمرةً منها حتى يقسمَ الثمار ثلاثة أقسام: قسم للفقراء والمساكين، وقسم لأهل بيته، وقسم يردُّه في المحصول؛ لِيزرعَ به الأرض؛ لذلك بارك الله له في رِزْقه وعياله.
ولمّا مات هذا الرجل ووَرِثه بَنُوه- وكان له خمسة من البنين- فحَملت جنَّتُهم في تلك السَّنة التي مات فيها أبوهم حملاً لم تكن حملَتْه مِن قبل ذلك فلمَّا نظروا إلى الفضل طَغَوا وبَغَوا، وقال بعضُهم لبعض: لقد كان أبونا أحْمَق؛ إذْ كان يَصرِف من هذه الثمار للفقراء، دَعُونا نتعاهد فيما بيننا ألاَّ نُعطيَ أحدًا من فقراء والمساكين في عامِنا هذا شيئًا؛ حتى نَستَغنِيَ وتَكثر أموالنا فقال أوسطهم- أي أعقلهم وأقرب الأبناء شبها بأبيه الصالح-: “سيروا فيها بسيرة أبيكم فرفضوا”.
ولقد صور القُرْآن الكريم حالة أولئك الإخوة وتصرفهم الذي يدل على إقدامهم على عمل غير لائق؛ قال الله تعالى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) [القلم: 17]، وقد اتفقوا وأقسموا على أن يخرفوا ثمرها في الصباح الباكر قبل أن ينتبه إليهم الفقراء: (وَلَا يَسْتَثْنُونَ) [القلم: 18].
إنهم لم يقولوا عند القسم: إن شاء الله؛ لأنهم كانوا عازمين على تنفيذ ما خططوا له دون تراجع: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ) [القلم: 19]، خططوا لحرمان المساكين من حقهم الذي جعله الله في مال الأغنياء، والله تعالى مراقب أفعالهم، ومطلع على ما في قلوبهم، فبادلهم لقاء شُحهم وبخلهم بأن سلَّط عليهم جائحة أتتهم تحت جنح الظلام.
كانت أحلامهم وهم نائمون ينتظرون الصباح بما خططوا له من حيلة للتهرب من الفقراء، وكانوا يحلمون بكيفية جني المحصول بسرعة فائقة فلا يطلع النهار إلا وقد انتهوا منه، فإذا ما أتى المساكين ليطلبوا صدقتهم، وجدوا الأشجار خاوية لا ثمر فيها، فيخيب أملهم، ويرجعون كما أتوا خفافًا ليس معهم من الطعام لأولادهم شيء، ولكن الله يسمع ويرى، فكما خططوا لإحداث مفاجأة للفقراء غير مسبوقة، فقد دبر الله لهم أمرًا غير معهود لهم، لقد أحالها الله تحت جنح الظلام خرابًا وأرضًا مواتًا: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) [القلم: 20]؛ أي: سوداء كالليل المظلم، وقيل: احترقت فتحولت فحمًا ورمادًا.
ولمّا أتى الصباح (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ) [القلم: 21]؛ أي: أيقظ بعضهم بعضًا عند الصباح لكي يسرعوا خفافًا إلى بستانهم: (أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ) [القلم: 22]، وهو تصوير بليغ لحالهم وهم يستيقظون ويتنادَوْن فيما بينهم للذهاب إلى بستانهم للصرام وجني المحصول بحذر، كأنما يقومون بفعل شيء غير مستحبٍّ: (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ) [القلم: 23].
ومشَوْا في غاية الحذر والتستر والانسلال بعيدًا عن أعين الرقباء من الفقراء، مشوا باتجاه البستان بلا ضجة، حتى إن كلامهم فيما بينهم كان خافت الصوت زيادة في الحذر والتخفي، ممن؟ (أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) [القلم: 24]؛ فكل هذه السرية في الخروج إلى البستان كانت من أجل أن يمنعوا المساكين من دخول بستانهم وأخذ الصدقة المعهودة كما كانت في أيام والدهم: (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) [القلم: 25].
لقد أحكموا الخطة ضد المساكين، واطمأنوا إلى دقة تنفيذها من قِبل الجميع، فوزعوا المهمات، وأخذ كل واحد منهم مهمته، وحفظ الدور المطلوب منه، ثم انطلقوا إلى الجنة، فلما وصلوا أنكروا ما رأت أعينهم: (فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) [القلم: 26]، لما رأوها في حالتها المحترقة لم يعرفوها؛ لأنهم تركوها قبل يوم سليمة خضراء تزدهي بنضرتها، فقالوا: ليست هي، قد ضللنا الطريق، فتعالوا نبحث عن مزرعتنا، لكنهم في الوقت نفسه ليسوا بغرباء عن المكان؛ فهم يعرفونه تمام المعرفة، ولكنهم يحاولون التخفيف من الصدمة وعدم تصديق ما رأوه.
لقد عُوقبوا بذهاب ثمار الجنة وزروعها، (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [القلم: 27] إن المؤكد لنا أننا حُرمنا من جنى جنتنا وخيرها وثمارها بسبب ما عزمنا عليه من حرمان الفقراء من نصيبهم منها، (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) [القلم: 28]، وعنى هنا بالأوسط صاحب الرأي الصائب الذي نصحهم بالسير على منهج أبيهم، لقد قلت لكم: اتقوا الله وسبَّحوه، ولا تُقدموا على فعل الشر.
وفي النهاية عاد أبناء الرجل الصالح إلى المسار الصحيح، (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) [القلم: 29]، واتهموا أنفسهم بالتقصير وظلم الفقراء بمنعهم حقهم، والفشل عادة يجعل الشركاء في خلاف وتلاوم، (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ) [القلم: 30]؛ فأصبح كل منهم يلوم الآخر بإظهار ما اقترح من سداد الرأي مقابل المقترح الفاشل من المتنفذين الذين تسببوا في هذه الكارثة، (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ) [القلم: 31].
ثم يأتي اعتراف آخر وندامة أخرى وأمل بالتوبة ورجاء، (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) [القلم: 32]، وانقلبت توبتهم إلى الرجاء من ربهم ليعوضهم عن هذه الخسارة وأنهم سيسيرون على منهج والدهم من حفظ لحق السائل والمحروم، وأنهم راغبون طالبون العفو والخير من ربهم، مستسلمين لمشيئته سبحانه، وبعد هذا الإعلان والتوبة فإن الله بالناس غفور رحيم.
دروس وعبر من قصة أصحاب الجنة
وتشمل قصة أصحاب الجنة على دروس وعبر عديدة، أبرزها ما يلي:
- الامتناع عن شكر الله- تعالى- على نعمه، يؤدي إلى ذهاب النعمة.
- البطر والغرور يؤديان لنكران نعم الله- تعالى-، فيظنّ المرء بأنّ ما عنده هو نتاج عقله وجهده، فيعاقب بالحرمان.
- اختبار الله- عز وجل- للبشر يكون بالمنع والإعطاء.
- التوبة إلى الله- جل وعلا-، ممكن أن تكون سببًا لإبدال العقاب والجزاء، بالخير والثواب، فلا يجزع المسلم من حصول أي مكروه له، فيحرص على تكرار التوبة، والمداومة على الاستغفار.
- قبول النصيحة والتذكرة بتقوى الله تعالى.
- لو أن الله أخر العقاب إلى يوم القيامة لهلك كثير من الناس، ففي الحديث عن أنس قال النبي- صلى الله عليه وسلم- : “إن الله إذا أراد بعبد خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبد شراً أمسك عنه حتى يوافى يوم القيامة بذنبه” (الترمذي وهو في صحيح الجامع).
- القصة رسالة من الله يُذكّر بها الناس وأن كل مَن ينفق ماله في سبيل الله ويعطي حق الفقراء فإن الله يبارك له في ماله وأهله.
- كل أمة تمنع الزكاة كل غني يبخل بماله كل من يتهرب من إخراج الزكاة فعقوبته الهلاك.
- أخطر لباس لباس الجوع والخوف لذلك ذكر الله قريش بنعمتين أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
- الصدقة تُطهر المال وتُكفّر الذنوب.
- التوبة تُمحو الخطايا، وتُفتح أبواب الجنة.
- الله تعالى غفور رحيم، يُغفر الذنوب لعباده إذا تابوا إليه بصدق.
- ذم البخل والحرص، حيث حرص أهل الجنة على حصد الثمار ليلًا؛ بخلًا وإمساكًا عن إخراج الجزء، فكان عاقبة ذلك ذهاب الكل: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ).
- البخيل ضعيف اليقين: لقوله -تعالى-: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ:39)، ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا) (متفق عليه).
- البخيل تعيس مكروب الصدر في الدنيا، معاقب معذب في الآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا المُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ إِلَّا سَبَغَتْ أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ، حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا البَخِيلُ فَلاَ يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلَّا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلاَ تَتَّسِعُ) (متفق عليه).
إن هذه القصة عِبرة وعِظة لكل إنسان أعطاه الله نعمًا من المال، والولد، والصحة، والعمر، ونحو ذلك، ثم حمله هذا على الأشر، والبطر، والبخل، ومعصية الله- سبحانه وتعالى-، ومحاربته، ولم يؤد حق الله فيما أنعم عليه، فإنّ عذاب الله له بالمرصاد؛ لأن كلمة العذاب إذا حقّت وقعت، فيمحق الله النعمة، ويسلبها من صاحبه إياها، هذا غير ما ينتظره يوم القيامة من العذاب الشديد.
مصادر ومراجع:
- محمد صالح المنجد: قصة أصحاب الجنة.
- جعفر شرف الدين: الموسوعة القرآنية، ص 98.
- د. إبراهيم بن محمد الحقيل: قصة أصحاب الجنة.
- ابن كثير: البداية والنهاية 578/2.
- الإسلام سؤال وجواب: ضرب المثل بأصحاب الجنة في سورة القلم، وعلاقته بما قبله من الآيات.