السؤال
قادني قدرٌ عجيبٌ لمشاهدة عامل التوصيل (فتى حول العشرين) وهو يغيّر في سعر الفاتورة، واستطعت بالفعل الحصول على الفاتورة الأصلية والفاتورة المزورة، تعاملتُ معه بشكل عاديٍّ كأني لم أرَ شيئًا، وأصبحتُ في حيرة من أمري: هل أتحدث معه بشكل مباشر حتى لا أفضحه في عمله وأمنحه بذلك فرصة للتوبة والإنابة، أم أبلغ صاحب المحل؟
أحتار في أن أتعامل معه برحمة، أم أبلغهم وأتركه يلقى جزاءه؟ كيف يكون التعامل مع المخطئ؟
صوت داخلي يناديني أن أتعامل بإصلاح فأبلغ عنه، وشفقةٌ بداخلي على ضعف هذا المسكين تجعلني أفكر في نهره وزجره بعيدًا عن صاحب العمل. كيف أتصرف بشكل تربوي يجمع بين مشاعر الرحمة والإصلاح في نفس الوقت؟
الرد
الحمدُ لله الذي أوقع هذا الفتى مع قلبٍ رحيمٍ وعقلٍ رشيدٍ، فلم تعجلي بشهوة الانتقام والثأر من خديعته وسرقته.
نقف حائرين بين الستر على العصاة المذنبين وبين فضحهم، ونتعجب من وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حق الزاني بأن يوصي المبلِّغ بستره بثوبه، حيث قال: “هلا سترته بثوبك”، لكن الموقف هنا يختلف، فالأمر يتعدى كونه مخالفة شرعية إلى انتهاك حقوق الآخر، فلا يجب في هذا الموقف الستر.
الزاني والزانية تعدَّوا شرعًا على محرَّمٍ غليظ، لكنهم لم ينتهكوا حقوق العباد، ظلموا أنفسهم، بينما السارق يتعدَّى بفعلته هذه على حقوق الآخرين، فيجب على من شهد الإبلاغ بما علم إلا إذا خشي أن يتعرض لمكروه أكبر.
حينما وضع المشرع الحدود، كانت غايته حفظ الأمن والسلم المجتمعيين. فإن نهرته جانبًا بعيدًا عن أعين من شارك في غشهم، كيف لكِ ضمانة رد حقوق الآخرين وكف أذاه عنهم؟
فاعلمي أن كشف الله ستره عنه لم يكن من المرة الأولى يقينًا، فالله -سبحانه وتعالى- ستير يحب الستر، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله عز وجل حييٌّ ستير، يحب الحياء والستر” (رواه أحمد وأبو داود).
ورُوي عن أنس -رضي الله عنه- أن عمر -رضي الله عنه- أُتي بشابٍّ قد حلَّ عليه القطع، فأمر بقطعه، فجعل الشاب يقول: “يا ويله، ما سرقت قط قبلها!”، فقال عمر: “كذبت ورب عمر، ما أسلم الله عبدًا عند أول ذنب”.
هذا الصبي الذي لم يبلغ من المسئوليات مبلغًا، ولم تنوء الأحمال بظهره تثقله كما تثقل كواهل الرجال، وسوَّست له نفسه الأمارة بالسوء أن يخادع من أجل لُعاعاتٍ من المال، أولى بنا أن نعينه على نفسه حتى يأخذ الحلال سبيلًا، فهو أبرك وإن قل ما جمع، وأنفع لدينه ودنياه.
فأعدى أعداء المرء نفسه التي بين جنبيه؛ إن أطاع ملذاتها وانقاد لها هلك. فمن باب إعانته على نفسه، لا نكتفي بنصحه فقط، فغلبتها قد تكون أقوى، ولا بد من إشهاد من يتورع أن يكرر أمامه الخطأ، فمن أَمِنَ العقوبة أساء الأدب.
المفاجأة أن السكوت عن هذا الإثم قد يُعدّ مشاركة في الذنب، فإن تسامحتِ وعفوتِ بحقك، فماذا عن حقوق الآخرين؟
يجيب الشيوخ الأجلاء بأن من شاهد سرقة وسكت، إن لم يُبلّغ بالسارق خوفًا من منكر أعظم، فعليه ضمان الشيء المسروق.
يقول الله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة} (البقرة: 283)، كما يقول عز وجل: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (المائدة: 2).
نتفهم مشاعر الرحمة كونك أمًّا، ربما تتخيلين أن يكون أبناؤك في مثل هذا الموقف -لا قدر الله-، عافاهم الله وعافى أبناءنا من ذلك، وتودين لو عاملهم المجتمع برحمة، وهذا مما لا يتعارض مع إبلاغك صاحب العمل.
أوصيه بالتعامل الرحيم معه، يكفيه من العقوبة أن كشف الله ستره، وأوصيه به خيرًا إن كان يُغبنه في الثمن، فلا يجعل للشيطان عليه سبيلًا ليتفنن في الغش والخداع من أجل المزيد. وإن كان السبب حاجته، وهو ما لا يشفع له فإن التأكد من أن هذا الغلام يأخذ حقه بما يُرضي الله من صاحب العمل يعفي صاحب العمل من أن يكون ظلمه له سببًا لوساوس النفس والشيطان.
إن ما نرجوه في التعامل مع المذنب هو وجود قلوب رحيمة مثلك، وعقول قوية لا تخشى في الله لومة لائم تحرص على إقامة الشرع والحدود كما تحرص على سلامة النفوس تساهم في تقويم الآخر ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وباب التوبة مفتوح، فرب معصية أورثت في النفس ذلًّا وانكسارًا خير من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا، ولعل في انكشاف الستر عنه خيرًا له حتى لا يتورط في إجرامه أكثر ويقع في يد من لا يرحمه حقيقة.
بجانب إخبار صاحب العمل بما حدث، علينا تنبيهه لعدة أمور: تذكير الولد بأن الله يقبل التوبة من عباده، وأنه لا داعي لمناداته وتذكيره بفعلته جيئة وذهابًا، وإن رأى منه صلاح حالٍ يجدد ثقته فيه، وأن يجد وسيلة تضمن حق المشتري في عدم الخداع لاحقًا منه أو من غيره.
فقد نظن أن مسؤولياتنا تجاه ما حدث تقف عند حد الإبلاغ، لكن هذا دأب المصلحين؛ أن يمعنوا في تضميد الجراح وصياغة حلول شاملة، وحماية المجتمع بشتى الوسائل من تكرار تلك الحوادث، وذلك بالبحث في الثغرات التي يدخل منها ضعاف النفوس وسدها، فالله يحب المصلحين.
اجعلي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيدِه، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبِه، وذلك أضعفُ الإيمان” (رواه مسلم) اجعليه نصب عينك محركًا، ولا تستمعي للأصوات القائلة: “لا تقحمي نفسك في المشكلات”، فما ضرنا أكثر من تكرار تلك المقولة، وقد عمت الفواحش لأننا لم نعد نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كما يجب.
السائلة الكريمة.. هذا قدرك في هذا المشهد، فاقرئي رسائل الله لكِ من هذا الحدث قدر المستطاع، فلا يقع شيء في ملك الله إلا لحكمة، ولعله سبحانه وتعالى يرى فيكِ أهلًا للإصلاح بالحكمة والموعظة الحسنة، وربما يبكي الشاب حزنًا من ذلك الموقف الآن، ويشكرك لاحقًا أن جعلكِ الله سببًا لانتشاله من وحل الحرام وظلمته.
يقول الشاعر: إذا المرءُ لم يغلب هواه أقامه.. بمنزلةٍ فيها العزيز ذليلًا “ذليلًا” لمعصيته منكسر النفس، فلعل الله أراد به خيرًا، بل يقينًا أراد كذلك، فالحال مع البعض: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} (آل عمران: 178).
عافانا الله وإياكم، وجعلنا راعين بين الناس نسعى بينهم في الخير، والله يعيننا ويأجرنا على ذلك.