كان فؤاد الهجرسي أحد الرجال العظماء الذين أثبتوا أن عُمر الإنسان ليس بوجوده فوق الأرض، ولكن بطول ذكراه بعد وفاته، فهو رجل عرف دينه حقًّا فصار عبيرًا يفوح بالهدى، ورسم الطريق للحيارى من شباب ورجال الأمة، ورغم أنه رحل عنا، فقد خلّف سيرة عطرة للأجيال.
ولا شك أن تناول حياة العظماء، الذين رسخوا قواعد دعوة الإسلام المعاصرة، ليست مادة للاطلاع والتسلية، بل هي مادة للتأمل، والتعلم، والاعتزاز بأناس آلوا على أنفسهم إلا أن يحملوا أمانة الدعوة إلى الله في وقت كانت ترزح فيه البلاد تحت نير الاستعمار.
فؤاد الهجرسي.. النشأة
في قرية ميت رومي التابعة لمركز دكرنس بمحافظة الدقهلية حيث الأصالة وتلاحم العائلات، وُلد فؤاد الهجرسي في 5 أكتوبر من عام 1930م لأسرة كانت حرفتها الزراعة كعموم المصريين.
حرص والده (حجازي) على تحفيظه القرآن الكريم الذي أهّله إلى الالتحاق بمعهد دمياط الأزهري، ثم الالتحاق بالثانوية الأزهرية في مدينة المنصورة، ليحصل على الشهادة الأزهرية عام 1950م وقد تأخر عامًا بسبب الاعتقال عام 1948م.
ولم يكمل “الهجرسي” مراحل التعليم الجامعي لضيق ذات اليد، فاضطر إلى العمل بالشهادة الثانوية الأزهرية في مرحلة التعليم الابتدائي، وظلّ مدرسًا حتى اعتُقل ضمن الحملة المسعورة التي أطلقها عبد الناصر عام 1965م، وظل في السجن حتى خرج في عهد السادات.
ولما خرج من السجن، انتدب مدرسًا للغة العربية في المدارس الإعدادية حتى خرج على المعاش عن عُمر 55 عامًا في نوفمبر 1985م.
فؤاد الهجرسي بين صفوف الإخوان
كان لانتشار حركة الإخوان المسلمين في ربوع مصر، دافعًا إلى تساؤل فؤاد الهجرسي عنها، وقد تم ذلك عن طريق الحاج عبد العظيم أبو المعاطي الشربيني الذي كان يعمل نجارًا، حيث انتدب “الهجرسي” ليصحح القرآن للشباب في الجماعة عام 1945م وعُمره 15 عاما، فكان لذلك أثر عظيم في تكوينه التربوي وقربه من الشباب ومصاحبة القرآن طوال حياته.
وحينما تعرضت الدعوة للمحنة عام 1948م اعتقل الهجرسي، ثم أعيد اعتقاله مرة أخرى في 24 سبتمبر من عام 1965م وظل في السجن حتى أواخر عام 1971م.
وعُرف عنه هدوء الطبع، وطول الصمت، وحفظ الأسرار والأمانات، والنزول على رأي إخوانه، وكتمان حاله مع ربه والمواقف التالية تبرهن صدق ذلك.
رحلة الهجرسي بين العمل التربوي
لقد وقع الاختيار على فؤاد الهجرسي للعمل في قسم التربية بجماعة الإخوان، مع الدكتور على عبد الحليم محمود، ومن بعده الدكتور عبد الله الخطيب، قبل أن ينتقل إلى قسم نشر الدعوة مع الحاج حسن جودة إلى 1989م، وذلك لدوره الواضح في التأثير على الشباب.
وحينما افتتح الإخوان مدارس الهدى والنور في المنصورة عام 1989م، فرّغته الجماعة لوضع برامجها التربوية لحماية النشء، كما اختير عضوًا بالمكتب الإداري للإخوان في المنصورة، وعضوًا بمجلس الشورى العام.
وكان لحفظ “الهجرسي” القرآن الكريم والجلوس بين الشباب والعلماء، تأثير كبير في تكوينه التربوي الذي جعله واحة يلجأ إليها الشباب لتصحيح مفاهيم الإسلام عندهم، فكان الرجل نعم الحصن المنيع الذي حمى كثيرًا من الشباب من الانزلاق في مواطن الشر.
وهو المعنى الذي عبر عنه الدكتور محمد الدسوقي (الأستاذ بجامعة المنصورة) حينما قال عن “الهجرسي”: كان يُمثل لجيلنا الفؤاد لجسد الدعوة بأخلاقه الكريمة ورقته في التعامل وبُشرَياته لنا في أوقات الشدة، وموعظته في الجلسات الإيمانية والجنائز ودروس المساجد.
لقد تعلمنا منه- رحمة الله عليه- الجندية والقيادة والعمل لدين الله في كل الأحوال، وكيف كان يقهر الأعذار ويتقدم الصفوف ضاربًا المثل والقدوة للشباب في البذل والعطاء والتجرد والثبات وكل أركان البناء الذي شيّده البنا حسن وكل ما فيه حسن.
كان الأستاذ الهجرسي معروفًا بتميزه التربوي وبث روح الأمل والتفاؤل في نفوس إخوانه والتأليف بين قلوبهم وتفقد أحوالهم وعدم نسيان حوائجهم. وكان من وصاياه -رحمه الله- لإخوانه “اقرأ كثيرا، ودوِّن أحسن ما تقرأ، واحفظ وأدرك كل ما تكتب”.
مواقف تربوية على الطريق
إن التربية بالموقف جانب مهم من جوانب التربية، نظرا لكثرة المواقف التي تحدث بين الناس عمومًا وبين المربين والمتربين خصوصًا. والحاج فؤاد الهجرسي كان له الكثير من المواقف التي أثرت فيمن عرفها أو كان طرفًا فيها، ومنها:
لا أتمنى الضرر لأحد: قبل نحو ثلاث سنوات من وفاة الأستاذ فؤاد ذهب إلى فرع البنك القريب من مقر إقامته بالمنصورة، الذي يحول عليه معاشه الشهري ليصرف مبلغ 5 آلاف جنيه من حسابه الكلي البالغ 30 ألف جنيه، وبالفعل سحب المبلغ وبعد عودته إلى منزله فوجئ بأن اسمه من بين الإخوان الذين شملهم قرار تجميد أموالهم وبالتالي سيخصم المبلغ من الموظف الذي وقع له على إذن الصرف.
عاد الأستاذ في اليوم التالي إلى البنك وهو يحمل معه المبلغ الذي سحبه ودخل على الموظف المسؤول وقال له: لقد صرفت هذا المبلغ ولم أكن أعلم أن اسمي من بين من جرى تجميد أموالهم.
وأضاف: أنا كنت أظن أنهم يهتمون بمن لديه أموالًا كثيرة، وليس مبلغًا بسيطًا مثل الذي معي، وعلى كل حال خذ المبلغ وأعده لكي لا تتحمل أنت سداده، فلم يصدق الموظف ما سمع وأجهش بالبكاء وسط ذهول موظفي البنك الذين أحاطوا بالرجل ليشكروه وليعبّروا له عن تقديرهم البالغ لصنيعه.
الهدية التربوية: ذكر يومًا أنه كان يساعد إحدى التلميذات من ذوات الاحتياجات الخاصة (تمشي على عكازين) في المذاكرة، وأهداها يومًا هدية بسيطة على تميّزها في حل أحد التدريبات، كانت هذه الهدية ممحاة (أستيكة)، ثم دارت الأيام، والتقى بها بعد سنين، فسلم عليها واطمأن على أحوالها، فأخبرته أنها بخير حال، وأنها تخرجت من كلية الصيدلة، ثم فاجأته بأنها ما زالت تحتفظ بالممحاة التي أهداها لها قبل سنين، وتعلقها بدبوس في دولاب ملابسها. وهذا ما يجب أن يحرص عليه كل داعية، أن يترك بصمة إيجابية فيمن حوله.
الهمة العالية العملية: يقول الدكتور فتحي أبو الرود إنه دُعِي يومًا إلى محاضرة بعنوان “الهمة العالية” في إحدى المحافظات، وفي الوقت المحدد اتصل مرافقه بمنظم المحاضرة بأنهما قد وصلا، فخرج لاستقبالهما، ثم يفاجأ بعد عدة محادثات هاتفية بأن الأستاذ ذهب إلى محافظة أخرى غير المحافظة المقصودة، فشكر المستضيف للأستاذ جهده، واعتذر له على اللبس الذي حدث، مع عبارات من نحو “وقع الأجر وجزاكم الله خيرًا” و”أجرتم بالنية”، وانتهت المكالمة عند هذا الأمر، وكان الوقت متأخرًا وأوشك المغرب أن يُرفع أذانه.
وعاد منظم المحاضرة إلى الحضور وكان معظمهم من الشباب، وأوضح لهم اللبس الذي حدث، وغيّر مسار المحاضرة إلى فقرة أخرى، وعندما أوشكت الفقرة البديلة على الانتهاء، بعد ما يقارب الساعة والنصف، إذ بالمضيف يستقبل مكالمة من مرافق الأستاذ فؤاد بأننا وصلنا، في مفاجأة أذهلته؛ فخرج لاستقبالهما، وكان الوقت قد تأخر ودخل وقت العشاء، بعدما يقارب ثلاث ساعات من السفر أمضاها الأستاذ فؤاد، وقد تجاوز السبعين من عمره حينها.
ثم كانت المفاجأة للحضور حين رأوا الأستاذ فؤاد في قاعة المحاضرة، ويقدمه منظم المحاضرة؛ ليحاضر الجمهور عن “الهمة العالية”، فكان درسًا عمليًّا لا يُنسى في الهمة العالية، وأغنى موقفه عن كثير من الكلام، وصدق مَن قال: “عمل رجل في ألف رجل خير من كلام ألف رجل في رجل”.
الأخوة الحقيقية: كان الأستاذ رحمه الله وآخرون يستثمرون مبلغًا من المال مع أحد الأخوة، وكان نصيب الأستاذ يزيد على 5 آلاف جنيه، وحدث أن مر هذا الأخ بأزمة مالية تعذر معها عن سداد ديونه لشركائه، وكان كل واحد منهم يُحاول بكل الطرق أن يسترد مبلغه إلا الأستاذ فؤاد حيث تنازل عن مبلغه كاملًا طواعية بنية إقالة عثرة الأخ وتنفيس كربته.
وفاء وحب: كان للأستاذ فؤاد صديقًا اسمه أمين السندوبي يعمل معلمًا للغة العربية ولمّا تُوفّي صديقه هذا اعتاد الأستاذ على أن يشتري خبزًا لأسرته ويوصله بنفسه لأولاده كل صباح، وفي يوم من الأيام كان الأستاذ مشغولًا فكلف أحد الأخوة أن يشتري الخبز بدلًا منه فنسي الأخ أن يقوم بما كلفه به، وعندما ذهب الأستاذ لهذا الأخ لكي يعطيه 5 قروش ثمن الخبز عرف منه أنه نسي ولم يوصل الخبز لبيت صديقه فحزن لذلك وعاتبه عتابًا شديدًا ورفض أن يستمع منه لأي عذر.
رحل غرس من حدائق التربية
ظل الحاج فؤاد الهجرسي عاملًا لا يكل ولا يمل رغم كبر سنه وتكالب الأمراض عليه، من أجل تربية الشباب، فكان لا يترك معسكرًا للشباب إلا وحضره، ولا محاضرة يُدعى لها مهما كانت المشقة إلا لبّاها، حتى رحل عن عالمنا يوم السبت الموافق 23 ديسمبر من عام 2017م الموافق 5 ربيع الآخر 1439هـ.