إنّ التغلب على عيوب النفس البشرية من أصعب التّحديات التي يُمكن أن يُواجهها الإنسان في حياته، لكن في الوقت نفسه من أعظم الإنجازات التي يُمكن أن يحققها، حيث يؤدي ذلك إلى السّعادة والرضا في الدنيا والآخرة، لأنّ هذه النّفْس إذا لم يكبح صاحبها جِماحها، فإنها تسير به في مهاوي الضلال، وتزجُّ به في أوحال الرَّدَى، فتُبقيه أسيرًا عندها، متبعًا لشهواته وهواه، وغارقًا في بحار العصيان، ودائمًا تسوِّل له بأنه لا يزال على الشاطئ.
والنفس تزيِّن لصاحبها القبيح، فيراه جميلاً، وقد تشوِّه له الجميل، فيراه قبيحًا، فعلى المرء دائمًا أن يصلح هذه العيوب كلما رآها وتأكد من وجودها، وصلاحها يكون بالتزكية، والتحلي بالأخلاق الحميدة، ومن أبرز هذه العيوب الكبرياء والغرور، والشهوة والحرص، والغضب والحقد، والكسل والخمول، والخوف والجبن، واليأس والقنوط، والظلم والعدوان.
عيوب النفس في القرآن والسنة
ولقد تحدث القرآن الكريم عن عيوب النفس البشرية في العديد من الآيات، منها ما جاء عن الشهوة والحرص، فقال- سبحانه وتعالى-: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
وجاء عن الغضب والحقد، قوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134]، وعن تعطل قوة الوعي والإدراك والبصيرة، فقال- جل وعلا-: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46].
والخوف والجبن من ضمن العيوب التي تصيب النفس، يقول تعالى: (وَلَا تَخَافُوا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175]، وكذلك اليأس والقنوط، لقول الله جل في علاه: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87]، والظلم والعدوان، قال تعالى: (لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) [البقرة: 279].
وتحدث النبي- صلى الله عليه وسلم- عن عيوب النفس البشرية في العديد من الأحاديث، منها ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه-، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “يُبْصِرُ أحدُكم القذَى (ما يقع في العين والماء والشراب من نحو تراب وتبن ووسخ) في عينِ أخيهِ ويَنْسَى الْجِذْعَ (واحد جذوع النخل) في عينِهِ” (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).
وأخرج البخاري في “الأدب المفرد” عن عمرو بن العاص- رضي الله عنه- قال: “عجبتُ من الرجل يفِرُّ من القدر وهو مواقعه، ويرى القذاة في عين أخيه ويدع الجذع في عينه، ويخرج الضغن من نفس أخيه ويدع الضغن في نفسه، وما وضعت سرِّي عند أحد فلُمته على إفشائه، وكيف ألومه وقد ضقت به ذرعًا؟”.
وردت في السنة النبوية الشريفة العديد من الأحاديث التي تتحدث عن عيوب النفس البشرية، وكيفية التغلب عليها، ومن هذه الأحاديث: نصح النبي- صلى الله عليه وسلم- بالتوبة فور ارتكاب الذنب، حتى لا يصبح عيبًا في النفس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كُلُّ بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون” (رواه الترمذي وابن ماجه).
والرياء من أخطر العيوب التي تصيب النفوس، عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر”. قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: “الرياء” (رواه مسلم).
والظن من الأمور السيئة التي يجب على الإنسان أن يبتعد عنها، حيث أنه قد يؤدي إلى الوقوع في الظلم والاعتداء على الآخرين، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا” (البخاري ومسلم).
والحسد والحقد على رأس قائمة تلك العيوب التي تشوه النفس، فعن أبي الدرداء- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تنافسوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم” (مسلم).
ولقد حرص على هذا الهدي النبوي الشريف الصحابة والتابعون من بعدهم، حيث روى البخاري في الأدب المفرد: “ذكروا رجلاً عند ابن عباس، فقال: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك، فاذكر عيوبك”.
ويقول الحسن البصري- رحمه الله- “إذا رأيت الرجل يشتغل بعيوب غيره ويترك عيوب نفسه، فاعلم أنه قد مُكِرَ به”، وقال “يا بن آدم، إنك لن تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب فتصلحه من نفسك، فإذا فعلت ذلك كان شُغْلَك في خاصة نفسك، وأحبُّ العباد إلى الله مَن كان هكذا”.
وقال بكر بن عبد الله- رحمه الله: “إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس ناسيًا لعيبه، فاعلموا أنه قد مُكِر به”. ويقول الإمام مالك- رحمه الله-: “لا يفلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه، ويشتغل بما يعنيه، فإذا فعل ذلك يوشك أن يفتح له قلبه”. ويقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: “كم ترى من رجل متورِّع عن الفواحش والذنوب، ولسانه يَفْري في أعراض الأحياء والأموات! لا يبالي بما يقول، وربما أوبق نفسه!”.
وقد سمع أعرابي رجلًا يقع في الناس، فقال له: “قد استدللت على عيوبك بكثرة ذِكرك عيوبَ الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها”. وعن محمد بن سيرين رحمه الله قال: “كنا نُحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغُهم لذكر خطايا الناس. وقال عاصم النبيل: “لا يذكر الناس فيما يكرهون إلا سَفِلةٌ لا دِينَ لهم”.
طرق معرفة عيوب النفس
وطرق التعرف إلى عيوب النفس البشرية عديدة، نذكر منها:
- الجلوس بين يدي شيخ أو عالم بصير بالعيوب: وهذا شأن طالب العلم مع شيخه، والتلميذ مع أستاذه، فيُعرفه أستاذه وشيخه عيوبَ نفسه، وطُرق علاجها، وهذا قد عزَّ في هذا الزمان وجودُه.
- مخالطة الناس: فكل ما رآه مذمومًا فيما بين الخلق، فيَجتنبه بعد أن يَنسبه إليه، فإن المؤمن مرآة المؤمن، فيرى من عيوب غيره عيوبَ نفسه.
- قراءة الكتب التي تَتَنَاوَلُ أَمْرَاضَ النُّفُوسِ، وَعِلَاجَهَا.
- التضرع إِلَى اللهِ بِصِدْقٍ أَنْ يُبَصِّرَنا بِعُيُوبنا، وَيُعِينَنا عَلَى عِلَاجِهَا.
- التحدث إلى صديق صدوق بصير متدين: فيُنصِّبه رقيبًا على نفسه؛ ليلاحظ أقواله وأحواله وأفعاله، فما كرِه من أخلاقه وأفعاله، وعيوبه الظاهرة والباطنة، نبَّهه عليها، وهكذا كان يفعل الأكابر من أئمة الدين، كان عمر- رضي الله عنه- يقول: “رَحِمَ الله امْرأً أهدى إليّ عيوبي”.
- ألسن الأعداء: فمن الممكن أن يعرف الإنسان عيوب نفسه من ألسن أعدائه، فإن عين السخط تُبدي المساويا.
وسائل تربوية لعلاج تشوهات النفس وعيوبها
وعلاج عيوب النفس البشرية يتم من خلال وسائل تربوية، من أبرزها:
- إصلاح القلب: فالقلب بصلاحه يصلح الجسد كله، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: “ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب” (البخاري).
- إصلاح السلوك: فلا بُد من صلاح سلوك الفرد، لذا عني الإسلام بتهذيب سلوك المسلم، فهو عنوان التزامه وتدينه، قال الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40-41].
- إعداد الجوارح للسلوك الصالح: كما أن صلاح القلب والسلوك يؤثر بلا شك على جوارح الإنسان، لذا ينبغي لهذه الجوارح أن تُعَدَّ إعدادًا جيدًا للالتزام بصلاح القلب والسلوك.
- التجهيز لأداء النفس لدور في المجتمع: فالمسلم يحيا في حياته ليؤدي دورًا، لا ليعيش ليأكل، وينام، ويموت كالدواب، وقد هوَّن القرآن من شأن قوم عاشوا بلا هدف ولا رسالة، فقال عنهم: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الأعراف: 179].
- تذكير النفس بالله: يقول أبو حامد الغزالي: إذا همَّت نفسك بالمعصية؛ فذكرها بالله، فإن هي اتعظت؛ فاحمد الله، وإن لم تتعظ، فذكرها بأخلاق الرجال؛ فإنها إذا ذكرت بأخلاق الرجال، انكسرت وذلَّت، وعلمَت أنَّها لا تليق بإنسانٍ يُعْرَف بأخلاقه.
- لجام النفس الأمارة بالسوء: فإن عَصت الإنسان في الطاعة؛ فعليه أن يعصيها في المعصية!، ولا شيء أولى للإنسان بأن يمسكه من نفسه، ولا شيء أولى بأن تقيّده من لسانه وعينه، فهما بحاجة إلى لجام شديد لكي يسيطر عليهما.
- الدعاء: بأن يرفع المسلم يديه إلى الله ويضرع إليه بقلب خاشع، وطرف دامع، وجبهة ساجدة، مع قصد، وتوجه، وتحرق، وتشوق، وتعلق بالذي لا يخيب مؤمله، ولا يرد سائله، أن يمن عليه بلذة العبادات، ويملأ بها قلبه ونفسه وروحه؛ فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه.
- الوعي بالعيوب: وهي من أهم الخطوات للتغلب على أي عيب في النفس، فلا بد من أن يدرك الإنسان أن لديه عيبًا ما حتى يتمكن من البدء في العمل على إصلاحه.
- الاعتراف بالعيب: واعتراف الإنسان بالعيب أمام نفسه وأمام الآخرين، يساعد في التخلص من الشعور بالخجل أو الخوف من مواجهة العيب، يقول تعالى: (قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) [الأنعام: 104].
- البحث عن الأسباب: ويساعد ذلك في تحديد طريقة التخلص من العيب.
- اتخاذ القرار بالتغيير: ليتخلص الإنسان من العيب الموجود لديه، حيث يساعد ذلك في البدء في عملية التغيير.
- الصبر والمثابرة: فالإنسان عليه أن يثابر ويصبر حتى يتخلص من العيب الموجود لديه، وهذا لا يمكن تحقيقه بين عشية وضحاها.
- التربية الدينية السليمة: بالحث على مكارم الأخلاق والصفات الحميدة، والتحذير من الرذائل والصفات الدنيئة.
- التربية الأسرية السليمة: بأن يلعب الآباء والأمهات دورًا مهمًا في تربية أبنائهم على الأخلاق الحميدة وقيم الخير والصلاح.
- التقرُّب إلى الله -عز وجل-: ويكون ذلك بما يحبّ من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وخير ما تقرَّب به المتقرِّبون إلى الله الفرائض التي فرضها الله -جل وعلا-، وعلى رأسها توحيد الله، ثم إنّ في النوافل لمجالًا واسعًا عظيمًا لمن أراد أن يرتقي إلى مراتب عالية عند الله.
- الاستعانة بمحاسبة النفس: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
- تنمية الصفات الطيبة: وذلك حتى يكون لها الغلبة؛ ذلك مثل: صفات الحلم والكرم والتواضع والشكر، ولا يكفي في ذلك قراءة كتاب أو حفظ نصوص، لكن تحصيلها لا بدَّ له من مجاهدة وتمرُّن وتدريب.
إنّ علاج النفس من العيوب، له أهمية كبيرة في حياة المسلم، سواء على المستوى الشخصي الذي ينعكس عليه بالسعادة والنجاح، والصحة النفسية، أو على المستوى الاجتماعي، بالقدرة على بناء علاقات اجتماعية قوية وصحية، وبناء مجتمع سليم وسوي، أو على المستوى الديني بالقرب من الله تعالى، والنجاة من العذاب يوم القيامة، لذا كان سلفنا الصالح- رضوان الله عليهم- يحاسبون أنفسهم باستمرار ويقومونها ويعالجونها كما يعالج الطبيب مريضه، فصلح حالهم، وعاشوا في أمن وأمان، وحقَّقُوا بذلك الجنة العاجلة والآجلة.
مصادر ومراجع:
- الزمخشري: ربيع الأبرار ونصوص الأخيار 2/322.
- ابن عبد البر: بهجة المجالس 2/162.
- ابن أبي الدنيا: الصمت، ص 104.
- سيد بن حسين العفاني: الجزاء من جنس العمل 2/290.
- أبي حامد الغزالي: الأخلاق والسير في علم الأخلاق للإمام، ص 27.
- ابن الجوزي: صفة الصفوة: 3/249.
- عبد الغني المقدسي: شرح السير الكبير، ص 13.
- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 3/152.