حينما تنزل بالمرء شدة أو ضيق أو حتى رخاء تبرز علامات التربية في سلوكياته، فإذا كانت التربية صالحة، حافظت عليه من الإحباط والانهيار والسقوط، وأضاءت له طريق الهداية، وضمنت له حياة كريمة، لأنّ التربية في أساسها مبنية على الأخلاق الفاضلة، واتباع النهج السليم، بما يضمن للإنسان أن يسعد بحياته ويستمتع بها في إطار يرضي الله- عز وجل.
والتربية الصالحة لا تُجنى ثمارُها في الدنيا فحسب، أو تقتصر فعاليتها على الفرد وحده، وإنما للآباء جزاء كبير عند الله في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يجني المجتمع بأسره ثمار صلاح تربية الأبناء، الذين ينفعون أنفسهم وأهليهم، ويرفعون مراتبهم، أما في الآخرة فنعم الجزاء، إذا كانت النية خالصةً لله- سبحانه وتعالى.
علامات التربية وقت المحن
لقد لخّص النبي- صلى الله عليه وسلم- علامات التربية وقت المحن في الحديث الذي قال فيه للمرأة التي تُوفي عنها زوجها: “اتقي الله واصبري”، قالت: “إليك عني، فإنك لم تُصب بمصيبتي!” ولم تعرفْه، فقيل لها: “إنه النبي- صلى الله عليه وسلم- فأتت باب النبي- صلى الله عليه وسلم- فلم تجد عنده بوابين! فقالت: لم أعْرِفْكَ! فقال: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى” (البخاري ومسلم)، وتتجلى هذه العلامات من خلال الحديث، في التالي:
- تلقي البلاء بالرضا بقضاء الله وقدره، فهو يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسَمَها، وأنَّ العبودية تقتضي رضاه بما رَضِيَ له به سيده ومولاه.
- تعلق قلب العبد بربه حتى إنه يشعر بحب جارف لربه وتسليم مُطلق لما يحدث، يقول ابن القيم: هذه المصيبة هي داءٌ نافع ساقَه إليه الطبيبُ العليم بمصلحته الرحيم به؛ فليصبرْ على تجرُّعِه ولا يتقيَّأه بتسخُّطِه وشكْوَاه فيذهبُ نفْعُه باطلًا.
- لا تراه غاضبًا لحدوث البلاء أو جازعًا لنزوله عليه أو أحد من أهله. ويعلمَ أن المصيبةَ ما جاءَتْ لتهلِكَه وتقتُلَه، وإنما جاءت لِتَمْتَحِنَ صبْرَه وتبْتَلِيَه؛ فيتبيّن حينئذ هل يصلح لاستخدامه، وجعْلِه من أوليائه وحزبه أم لا؟
- إدراكه أن الدنيا بمثابة القنطرة التي يعبر بها إلى الدار الآخرة، وأن الله يربّي عبدَه على السراء والضراء- والنعمة والبلاء؛ فيستخرج منه عبوديَّته في جميع الأحوال؛ فإن العبدَ على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبدُ السرَّاء والعافيةِ الذي يعبد الله على حرفٍ؛ فإن أصابه خير اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه؛ فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته.
- يقينه بثواب الصبر والرضا وحينها يهون عليه كل بلاء، قال تعالى: “… إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” [الزمر: 10].
- ثِقته بحدوث الفرج من الله سبحانه وتعالى، فإذا رأى أمرًا لا يستطيع غيره؛ صبر وانتظر الفرج.. قال تعالى: “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا” [الشرح: 5،6].
- ترك الشكوى، فلا تراه حينما يحل به البلاء شاكيا لكل من يقابله، معترضًا على حدوث ذلك له دون غيره ولذا ينبغي أن يحفظ لسانه عن الشكوى لأي أحد، سوى الله عزَّ وجلَّ.
قال ابن الجوزي: “أما بعد؛ فإني رأيت عموم الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجًا يزيد عن الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وضعت! وهل ينتظر الصحيح إلا السقم؟! والكبير إلا الهرم؟! والموجود سوى العدم؟!”.. وقال أيضًا: “ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تَعْتَوِرْ فيها الأمراضُ والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار.. ولو خُلِقت الدنيا للذة لم يكن حظّ للمؤمن منها”.
علامات التربية وأثرها على الفرد
وتظهر علامات التربية على الفرد وقت المحن والصعاب، سواء كانت آثارًا نفسية أو سلوكية أو غيرها، فإذا نال الفرد قسطًا من التربية كان له وِجاءً في محنته، ويظهر عليه:
- السكينة والأمن، وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله على عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف.
- الرضا واليقين: وليس معنى الرضا الاستسلام للأوضاع والتقاعد عن العمل، وإنما الرضا هو: “سرور القلب بالقضاء، وارتفاع الجزع في أي حكم كان”.
- الثبات وقت الأزمات: فالتربية الصحيحة تجعل القلب ثابتا لا يجزع، والمؤمن بالله والمؤمن بلقائه، لا تلهه متاع الدنيا، كما لا ترهبه مصائبها، فإنها أيضا لا تزعجه بلاياها.
- استشعار نعم الله التي كان يرفل فيها قبل المحنة.
- وتغرس في نفس الفرد سنة التدافع التي بها يرفع المرء الظلم عن نفسه وقومه ويدفع الفساد.
- تجعل الفرد حريصًا على الإصلاح من أجل رفع البلاء ونشر الخير.
- وتجعل الفرد لا ينزعج فلا يصدر عنه تخريب أو انتشار آفات القلب كالحسد وغيره.
- كما تدفع الإنسان لتحري الحلال في مكسبه حتى يرفع به بلاء نازل أو سيئة صاعدة.
أثر التربية على المجتمع
وتتمثل علامات التربية على المجتمع في النقاط التالية:
- التلاحم والترابط بين الأفراد وقت المحن والصعاب.
- علو الشعور بالأخوة والمحبة بين أفراد المجتمع لدفع البلاء وجبر المحن.
- سمو روح التضحية والبذل بين أفراد المجتمع وقت المحن والصعاب التي تقع على الأفراد.
- التكافل والتضامن سواء كان معنويًا أو ماديًا، ولقد ظهر مفهوم التكافل الاجتماعي في كثير من الآثار القرآنٌية والأحادٌيث النٌبوٌية منها قوله سبحانه: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ” (التوبة: 71).
- التسامح والتناصح، لأنه من حق الأخ على أخيه المسلم أن يبصره وينصح له؛ إبقاءً على حق الأخوة، ودفعًا للأذى عن أخيه وعن المجتمع كله.
- رعاية الحقوق وأداء الواجبات، فالمعلوم أن المجتمع مكون من راع ورعيته، ولكل منهما واجبه وحقه، وأكثر من في الأرض مطبوع على إهمال الواجبات ومطالبة الحقوق.
معايير التربية الصالحة
تترتب علامات التربية على عدد من المعايير والأهداف السامية التي تؤدي إلى صلاح النشء، وهي على النحو التالي:
- الأبوان هما عمود البيت، فإن صلحا صلح أبناؤهم بالضرورة، لذا لا بُد من حُسن اختيار الزوج لزوجه، والزوجة لزوجها، حتى يتمكنا من ترسيخ دعائم الشريعة الإسلامية في تربيتهم إلى أبنائهم.
- توجيه الأبناء منذ نعومة أظفارهم إلى ما يرضي الله ورسوله، بأسلوب ترغيبي، لا ترهيبي، فالحكمة في إكساب الأبناء السلوكيات الحميدة، والقيم الجليلة، مع إقناعه التام بفعل ذلك؛ لأنه الأصلح إليه، والحذر كل الحذر من تخويف الأطفال، وتعنيفهم لفعل شيء غير مقتنعين به.
- مراعاة التوجيهات التي تتناسب مع الفئة العمرية للأبناء، فلكل عمر طريقة في التعلم، وأسلوب في الإقناع، وبالتالي تفاوت في سرعة الحصول على نتيجة التربية.
- التدرج في التربية، فلا يُمكن إكساب الأبناء كل شيء صالح دفعة واحدة، وإنما ينبغي التدرج في تعليم الفضائل، حسب ما يتناسب مع كل فئة عمرية، بالإضافة إلى مراعاة البدء بالتوجيهات اليسيرة.
- ثمة أسس لا يمكن التغافل عنها، أو التهاون فيها، مثل الفروض الأساسية، كالصلاة على سبيل المثال، فيتم تعويد الطفل على تأديتها شيئًا فشيئًا، حتى يتقنها تمامًا، وتصبح أساسًا ملازمًا له.
- تعويد الأبناء على التعبير عن آرائهم في نطاق الأدب، والأخلاق، وتعاليم الدين الإسلامي.
- الصحبة الصالحة تحفز الفرد على صلاحه، وهدايته، وتبني الأخلاق الفاضلة في كل قولٍ وفعل، وبالتالي يتحقق صلاح المجتمع بصلاح أفراده، وتمسكهم بالقيم الفاضلة.
- يجب البعد في تربية الأبناء عن الإهانة والتحقير، سواء أمام الآخرين، أو حتى من دون وجود أحد إلا هو.
- الحرص على قطع حبال البعد والخوف، بين الأبناء والآباء، له أسمى دور في تحقيق الأهداف المنشودة، والخروج بجيل معافى عقليًّا، وأخلاقيًّا، ودينيًّا، وفكريًّا، واجتماعيًّا.
- حسن التصرف حين الخطأ، والتفريق بين اقتراف الخطأ لأول مرة، وتكرار اقترافه، فلا عيب من الوقوع في الخطأ بحد ذاته، وإنما العيب يكمن في تكرار الخطأ نفسه، دون التعلم منه، وجعله نقطة تحول إلى الأفضل.
- الاعتدال أساس تكوين أبناء أسوياء، فالإفراط في التدليل خطأ فادح، ينعكس سلبًا على علاقة الأبوين بأبنائهما، وأضراره تفوق نفعه بمراحل، والشيء ذاته في الجدية التي تفوق الحد، والتشدد في التربية، ومن هنا وجب التفريق بين أوقات التدليل، والأفعال التي تستدعي وقفة حازمة، من دون تهاون.
- عدم تعويد الأطفال على التكبر، سواء أكان بين أخواتهم، أصدقائهم، أقاربهم، والأهم عدم التكبر في مساعدة الأم أو الأب في شتى مسؤولياتهم، فمسؤولية إدارة شؤون البيت تقع على كاهل الجميع، فهي مسئولية جماعية.
- العدل والمساواة من أهم دعائم التربية الفاضلة.
- ضرورة الفصل في المضاجع بين كل من الذكور والإناث من الأبناء.
- تعليم الأبناء أركان الإسلام، والإيمان، والإحسان، وتحري تأدية كل منهم على الوجه الأكمل.
- مراقبة رب العباد في كل وقت وحين، فهو يعلم الظاهر والباطن، ولا تخفى عليه خافية.
- تربية الأبناء على التفكر في صنع الله- سبحانه وتعالى- والتحلي بذكره- جل علاه- في كل وقت.
- الترغيب في فعل الصالحات، وحب الخير للجميع، والترهيب من اقتراف الآثام، صغيرها، وكبيرها.
- مراعاة تربية الطفل وفق منهجية منظمة ومتكاملة، حيث التكامل الديني والدنيوي، من خلال حفظ القرآن المجيد، والأحاديث النبوية الشريفة، والاطلاع على التفاسير، وغيرها الكثير، والتقرب إلى الله بفعل الخير، والصدقات، وعدم تغافل طفرة التكنولوجيا الهائلة التي يشهدها العالم.
- الحرص على بر الوالدين، وطاعتهما فيما يرضي الله ورسوله.
إن علامات التربية تظهر بوضوح في المحن والمصائب التي يتعرض لها الإنسان والمجتمع على السواء، فتحفظ الإنسان من الإحباط والمجتمع من التخاصم والشتات والانهيار، لذلك اهتمت الشريعة الإسلامية بالتربية الصالحة التي تظهر في المواقف الصعبة وعند البلاء.
المصادر والمراجع:
- ابن القيم: طريق الهجرتين، ص 275.
- ابن القيم: الضوء المنير على التفسير، ص 308.
- ابن الجوزي: تسلية أهل المصائب، ص 52.
- عشرة أسباب تعين على الصبر على البلاء.
- التربية الصالحة ودورها الفعال على الفرد والمجتمع.