الإنسان واحد من مخلوقات الله تعالى، ولكنه ليس مثل سائر المخلوقات الأخرى في قيمته، بل هو متميز عنها تميزًا نوعيًا في ذلك، على معنى أنه لا يندرج ضمن الموجودات الكونية في سلم قيمي موحد تتفاوت درجاته بتفاوت قيمتها، ولكنه يستقل وحده بسلم قيمي يتجاوز به ذلك السلم تجاوز استعلاء.
لقد خص الله الإنسان بالتكريم في أصل خلقته، ثم في مسيرة حياته بعد ذلك إلى الأبد، فخلقه كان من الله خلقًا مخصوصًا متميزًا بالشرف على خلق سائر المخلوقات، وذاته المادية والمعنوية استجمعت من معاني العزة ما لم يستجمعه كائن آخر، ثم جاء ترشيحه لحمل الأمانة متمثلة في التكليف يترجم على علو شأنه ورفعة مقامه، ثم اختص بالتعبد من قبل الله- وحده- خلال مسيرة الحياة كلها؛ ضمانًا لدوام العزة وتحقيق الرفعة؛ وتوج كل ذلك بالخلود في الحياة الأخرى حيث جعل الله الموت مرحلة انتقال من حياة دنيوية زائلة إلى حياة باقية، وكرم الإنسان بما جنبه من الفناء المطلق الذي هو علامة الضعة والهوان.
تلك هي مظاهر التكريم الإلهي للإنسان التي تناولها الأستاذ الدكتور عبد المجيد النجار، فى دراسة له بعنوان: (عقيدة تكريم الإنسان وأثرها التربوي) -1994-، مع التعقيب عليها ببيان الأثر التربوي للإيمان بها.
التكريم
إن للترتيب الوجودي بُعدٌ يَذكر فيه الله جل جلاله مبدأ الوجود وعلة العلل، يذكر فيه الإنسان إشارة إلى مرتبة يكون فيها أقرب إلى الله وآثر عنده، ثم يكون الكون في مرتبة دونه قدرًا وأقل منه مقامًا، ويكون الإنسان بذلك في منزلة أدنى إلى الله من الكون كله، وتكون نسبته منه نسبة المخلوق الأثير الذي بُوّء مقام الخلافة، ونسبته من الكون هي نسبة المستعلي المستثمر له التصرف بأمر الله.
وقد استجمع هذه المعاني كلها قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70).
فالتكريم هو الإعلاء والإعزاز، وهو شامل للإنسان بمقتضى مطلق الإنسانية فيه، غير متعلق بعوارضها مهما كان نوعها.
ومن مظاهر تكريمه: إلهامه أن يسخر البر والبحر لما فيه نفعه، وأن يسخر مطايب ما في الكون ليكون رزقًا له، فصار بذلك في مكانة أعلى من مكانه الكون، وصار أفضل من المخلوقات الكونية التي تشاركه الوجود في عالم الشهادة.
وقد جاء في القرآن والحديث من الإعلاء لشأن الإنسان، والبيان لتكريمه ما بلغ في تأكيده والاحتفال به مبلغًا ارتقى به إلى أن يصير أساسًا من أسس الاعتقاد فيما يمكن أن نسميه بعقيدة تكريم الإنسان، وهي عقيدة تنبني عليها كل الأوضاع والمعاملات الإنسانية في الشرع الإسلامي، وكل تصور أو تصرف فيه استهانة بالإنسان أو بخس لشأنه يكون مناقضًا لأصل عقدي في الدين، فما هي مظاهر التكريم الإلهي التي كرم بها الإنسان حتى أصبح الإيمان بأنه كائن مكرم جزءًا من الاعتقاد؟ وما هو الأثر التربوي لعقيدة التكريم هذه حينما تصير جزءًا من الإيمان؟
مظاهر تكريم الإنسان
- شرفية الخلق:
لقد أفاض القرآن الكريم والحديث الشريف في الحديث عن خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام في معرض الوصف والإخبار، وفي معرض المنة والتفضل والاعتبار، وهو الأمر الذي لم يحظ به أي مخلوق آخر دلالة على علو الشأن وجلالة القدر، فإن الاحتفال بميلاد المولود، وإعادة ذكره باستمرار علامة على رفعة قيمته الذاتية.
ومع هذا الاحتفال القرآني بخلق الإنسان من بين سائر المخلوقات، فإن هذا الخلق جاء متميز الخصوصية في العناية الإلهية المباشرة به، حيث جاء كثير من نصوص القرآن والحديث تصور الخلق الإلهي للإنسان بصورة تبدو فيها العناية المخصوصة من الله تعالى هذا المخلوق في مباشرة خلقه، وفى تصويره وتكوينه، حيث جاء كل ذلك على معنى من الإيثار والقربى لا نجد له نظيرا في سائر المخلوقات.
ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} (ص:75). فالآية تشير إلى أن الإنسان خلق بيدي الله علامة على التشريف والتعظيم له، إذ أن العظيم الشأن المقدر للأمور والمسيطر عليها لا يتولى بيديه إلا الأمر الكبير القدر الرفيع القيمة، وهذا المعنى تحقق في الآية، إذا حملت على التأويل كما هو الأرجح في ميزان تنزيه الله عن مشابهة الخلق بالأعضاء، حيث يحمل الخلق باليدين على العناية الشديدة كما ذكره الرازي حيث يقول: «إن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيده إلا إذا كانت غاية عنايته مصروفة إلى ذلك العمل».
إن هذه الآية على أي الوجهين حملت فإنها يتحقق بها الشرف للإنسان في تخصيصه بالعناية عند خلقه، وهو المعنى الذي جاء سياق الآية يعززه ويدعمه، إذ فيها الاستنكار على إبليس في وقفه الرافض للسجود لآدم، وهو استنكار شديد؛ لأن الامتناع عن السجود كان امتناعا عن السجود لمخلوق أثير عند الله حائز على عناية كبيرة منه عبر عنها بالخلق باليدين، وهو ما صار به إبليس بالغًا ذروة المكابر مستحقًا لشديد النكير والتقريع.
وفي هذا السياق الذي يظهر فيه الله تعالى عنايته بخلق الإنسان وتقريبه منه، يندرج ما جاء منه إخبار إلهى بأن الله سيخلق كائنًا يكون خليفة له في الأرض، إذ قال الله في مقام إعلام الملائكة بخلق آدم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30)، فتخصيص الله للإنسان بأن يكون خليفته في الأرض ينفذ أوامره ونواهيه في مباشرته للكون يحمل من التشريف وإعلاء المقام شيئًا كثيرًا، إذ الخليفة تتحد منزلة شرفه وعلوه بمنزلة مستخلفه، فما بالك بمن كان مستخلفه الله جل شأنه.
- حسن التقويم:
قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين:4). والتقويم هو التعديل والتسوية، فيكون حاصل الآية أن الإنسان خلق على درجة رفيعة هي أرفع الدرجات في بنيته: اعتدالًا وانسجامًا وتسوية، فكان بذلك حائزًا على أرفع الدرجات من التكريم الإلهي بالنظر إلى التكوين الذي خلق عليه.
إن قيمة كل شيء من حيث بنيته ترتبط بمدى تحقيق تلك البنية للغرض الذي من أجله وجد، فكلما كانت البنية أكثر تحقيقًا للغرض ارتفعت القيمة، والعكس صحيح، وقيمة البنية في الأشياء تتبع قيمة الأغراض المجعولة لها، فكلما كان الغرض رفيعًا كانت البنية إذا ما أدت إلى تحقيقه رفيعة القيمة، وهكذا تتفاوت الأشياء في قيتها من حيث تكوينها تفاوتًا أوليًا بحسب تفاوت أغراضها، وتفاوتًا ثابتًا بحسب تأديتها لذلك الأغراض.
والإنسان قد خلق لأعلى غاية بالنسبة لموجودات الكون كلها وهي غاية الخلافة في الأرض؛ لتطبيق أوامر الله فيها، وقد أخبر القرآن الكريم في الآية الآنفة الذكر أنه خلق على أحسن تقويم؛ لتأدية ذلك الغرض، وكان ذلك تكريمًا إلهيًا له، فكيف تبدو في قوام الإنسان مظاهر الرفعة من حيث أنه يؤدي إلى تحقيق الغرض الذي من أجله وُجد؟
إن المقصود بالتقويم في بنية الإنسان هو التقويم الشامل الذي يتناول كُلًا من: البنية المادية، والبنية المعنوية، فكلاهما خلق على أحسن تقويم، سواء بالنظر إليهما في ذاتهما، أو بالنظر إليهما في ترابطهما ووحدتهما في تكوين الإنسان.
ومظاهر حسن التقويم في البنية المادية للإنسان مظاهر عديدة لا تحصى، سواء نظرت إليها في وجهها الخارجي حيث تتعامل مباشرة مع الكون، أو نظرت إليها من الداخل حيث كشف تقدم العلم عن عجيب الصنع ودقيق التفاعلات في خفايا الأنسجة، مما يفضي كله إلى تيسير التعامل مع البيئة الكونية.
ولعل من أبرز مظاهر الحسن في التقويم المادي ما خلق عليه الإنسان من وضع في قامته امتد فيه إلى الأعلى، وتركز وسائل الإدراك في طرفها الفوقي، فهو وضع هيأ للإشراف على الطرف المكاني المحيط بالإنسان على أبعاد كبيرة، بحيث تكون له القيومية على تلك الأبعاد في مختلف الجهات، سواء في الاحتراس من الغوائل، أو في رعاية المنافع، أو في الرصد والتطلع لإنشاء المصالح ومراقبتها واستثمارها؛ فأين الإنسان في هذا التقويم الرفيع من البهيمية التي خلقت مكبة على وجهها فلا يكون إشراقها إلا على المساحة القليلة من المكان والاتجاه الواحد من الجهات.
ومع انتصاب القامة كُرّم الإنسان بمعدات عجيبة من الأعضاء والمفاصل تمكنه من سرعة الحركة وتصرفاتها في مختلف الجهات، كما تمكنه من دقة التناول والمسك، مما يهيئ له سيطرة التصرف بعدما تحقق له سيطرة الإشراف، فيكون على كفاءة بدنية عالية تمكنه من رد العوادي عن جسمه، وتوجيه الموجودات من حوله لما فيه منفعته، ولو جعلنا هذا المعنى في كل عضو من أعضاء الإنسان لوجدنا أصغرها شأنًا في الظاهر يؤدي دورًا عظيمًا في مجال التعليم مع البيئة، وهو ما كان ملحوظًا لبعض المحققين في هذا الأمر فقال: «إن إبهام الإنسان له دور عظيم في قيام الحضارات الإنسانية، وإشارة منه إلى ما لإبهام اليد من عظيم الدور في المسك والتصويت والدقة، وليست الحضارات في جانبها العمراني إلا ثمرة للعمل اليدوي».
وربما كان البناء الداخلي في عمق الأنسجة على صورة أعجب من البناء الخارجي في التهيئة لتفاعل الجسم مع المحيط المادي تفاعلًا ايجابيًا بما يحدث في تلك الأنسجة من أنواع الاستجابات دفاعًا عن الجسم ضد كل غزو مادي، وتعزيزًا له وتقوية لكفاءته في الأداء لما تستجوبه مصلحته.
وإذا كانت البنية التحتية المادية للإنسان على هذا النحو من الرفعة لأداء مهمة الخلافة كما بينت الأمثلة المذكورة، فإن البنية المعنوية هي أعلى شأنًا في ذلك؛ لأن هذه البنية هي التي تتقوم بها ماهية الإنسان، وهي التي تدبر سيرة الاستخلاف، وتسوق الجسم لتنفيذ تدبيرها.
والعقل أشرف العناصر في هذه البنية، فهو مناط التكليف لإنجاز وظيفة الخلافة أصلًا، ولذلك فقد بنى على خصال عجيبة لأداء تلك الوظيفة على أكمل الوجوه، ومن أظهر تلك الخصال ما اختص به من قدرة على التمييز بين الحق النافع وبين الباطل الضار، فكان بذلك العاصم للإنسان من المال إلى ما فيه الهلكة، والدافع له إلى ما فيه المصلحة المحققة للغرض من الوجود.
مظاهر الرفعة في العقل: ما خص به من قدرة على الاستيعاب لما هو غائب عن الإنسان من الحقائق سواء ما تعلق منها بعالم الغيب أو ما تعلق بعالم الشهادة، وهو ما تحقق به السيطرة على البيئة الكونية مجال التحرك الإنساني، إذ تصبح تلك البيئة حاضرة صورتها في العقل فيما خفى منها من قوانين وأسرار وطبائع، فيكيف الإنسان حياته في منع ما يضره واستثمار ما ينفعه وفق تلك الصورة المعلومة لديه، الحاضرة في ذهنه، وهي صورة قابلة للنمو المطرد وباطرادها في التوسع والنمو تكون كفاءة الإنسان في إنجاز الخلافة، وهي الغرض من الوجود.
- رفعة التكليف:
إن الإنسان هو الكائن الذي اختير لأن يكون مكلفًا، فقد انتخبه الله تعالى من بين الموجودات؛ ليقوم بمهمة الاستخلاف وفق أوامر ينبغي أن تقوم بها، ونواه ينبغي أن ينتهي عنها، ومكنه من إرادة حرة يكون على أساسها المحاسبة على الإيفاء بما أمر به ونهى عنه.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذا التكليف بتحميل الأمانة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب:72).
وهذه الأمانة التي حملها الإنسان ذكر المفسرون في شرحها وتحديد مدلولها أقوالًا كثيرة متراوحة بين المعاني الكلية الذي تشمل جملة من تلك المعاني الجزئية. ومن أبرز المعاني الكلية التي فسرت بها الأمانة معنى التكليف. وفى ذلك يقول الإمام الرازي: «{إنا عرضنا الأمانة} أي: التكليف، وهو الأمر بخلاف ما في الطبيعة، واعلم أن هذا النوع من التكليف ليس في السماوات ولا في الأرض؛ لأن الأرض والجبل والسماء كلها على ما خلقت عليه، الجبل لا يطلب منه السير، والأرض لا يطلب منها الهبوط. وإنما وصف التكليف بأنه الأمر بخلافتهما في الطبيعة؛ لأن في تحمله مشقة تعاكس بعض ما خلق عليه الإنسان من الغرائز والطبائع». وقد وضحت هذا المعنى الدكتورة عائشة عبد الرحمن في قولها: «أفلا تكون هذه الأمانة هي الابتلاء بتبعة التكليف وحرية الإرادة ومسؤولية الاختيار؟ بلى! فكل الكائنات عدا الإنسان مسيرة بمقتضى سنن كونية على وجه التسخير والامتثال دون تحمل لتبعة ما تعمل، والإنسان وحده هو المسؤول عن عمله ومحاسب عليه ثوابًا وعقابًا».
وأما التعقيب على حمل الإنسان للأمانة بقوله تعالى: {إنه كان ظلومًا جهولًا} فليس ما ينقض هذا المعنى المتضمن لرفعة الإنسان؛ لأنه وصف لما في طبيعة الإنسان من الظلم والجهل كمظهرين من مظاهر النوازع النفسية الدافعة إلى افتراق الشرور في مقابل النوازع الدافعة إلى أعمال الخير، وهى المعادلة التي ركب عليها الإنسان مع تزويده بإرادة الاختيار، والتي كانت أساسًا للتكليف، وفى التدافع الذي فصل في الإنسان بين هذين النوعين من النوازع قد يحصل أن تتغلب نوازع الشر فيقع الإخلال بالتكليف، ويقع التضييع للأمانة، ولكن ليس مصيرًا حتميًا للإنسان في تدافع نوازعه، بل هو حالات معينة تحصل له في مسيرة حياته الخلافية باختياره، وهى لذلك ليست بقادحة في أصل الرفعة التي اقتضاها التكليف.
لقد ظلت السماوات والجبال والأرض واقفة في سلم قيمتها منذ خلقها الله، وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، دون أن تكون لها فرصة الاكتمال والتسامي، لأنها أبت أمانة التكليف، أما الإنسان: فإنه يملك إمكان الترقي والتصاعد المستمر بما يكتب من الحق والخير ائتمارًا بأوامر الله، وانتهاء عن نواهيه، فهي التي تمكنه من تنامي إنسانيته، كما تمكنه من استثمار الكون، لتحقيق مصالحه، وهو ما تحقق بوضوح في الحضارة الإسلامية طيلة قرون ارتقى فيها الإنسان درجات في سلم الاكتمال.
إن هذا المعنى من الاكتمال والترقي الذي يتأبى بالتكليف يتبدى فيه التكريم الإلهي للإنسان بما يعلى من شأنه ويرفع من قيمته؛ ففيه إناطة لمصير الإنسان بيده عبر الجهاد، وليس من يملك مصير نفسه كمن يساق بالقهر إلى ذلك المصير، وفيه ترتيب الثواب العظيم على الجهاد الموفق في الامتثال للأوامر والنواهي، وهو مظهر عظيم للتكريم الإلهي، ولذلك قال القاضي عبد الجبار: «اعلم أن وجه الحكمة في خلق المكلف أنه تعالى خلقه لينفعه بالتفضل، وليعرضه للثواب، وثبت أن الثواب مستحق على وجه التعظيم والتبجيل».
- عزة التعبد:
للعبادة في العقيدة الإسلامية مفهوم خاص يتصف بالشمول، فالله تعالى تَعَبَّدَ الإنسانَ في كل شؤونه كبيرها وصغيرها؛ إذ شملت الأوامر والنواهي كل تلك الشؤون، فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادًا وتركيبًا وبذلك أصبحت عبادة الله هي الهدف الأسمى للحياة الإنسانية كما صوره قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذريات: 56).
إن العبادة بهذا المفهوم تصبح توجهًا مستمرًا نحو الله بالخضوع والمذلة بحيث يكون الله تعالى هو الهدف المبتغى في كل فكر وفى كل سلوك، وقد يبدو أن الخضوع والمذلة يتناقضان مع العزة والرفعة، إلا أن ذلك ليس إلا في ميزان التعامل البشري، أما في ميزان الصلة بالله تعالى فإنهما العزة والرفعة، بل إنه لا عزة للإنسان ولا رفعة لشأنه إلا في ظل العبودية لله والخضوع له، فكيف تبدو عزة الإنسان، وكيف يظهر تكريمه في العبودية من هذه الجهات:
- العزة في مطلق العبادة: إن جعل الله تعالى هدفًا نهائيًا يتجه إليه الإنسان في كل مناشطه (وهو معنى العبادة) ولئن كان يشعر بضآلة النفس أمام هذا الهدف الأسمى، فإنه يشعر أيضًا بعظمة النفس في التجاوز لكل الأهداف الجزئية في طريق الرحلة إلى الله، فعظمة الهدف تشعر بعظمة النفس إزاء الموجودات المحيطة التي قد تعرقل السيرة إلى ذلك الهدف أو تغوى بأن يكون هي نفسها أهدافًا دون الهدف الأعلى.
إن الإنسان في صلاته– وهي رأس العبادات– يشعر أنه متجه إلى المطلق، متجاوز لقيود الزمان والمكان، مهيمن عليهما بما استشرف من عظمة المقصود بالعبادة، فيحصل له بذل شعور بالعلو والسمو، وإحساسا بتفوق الذات في المحيط الكوني.
وقد عبر القرآن الكريم على ما يجمع هذه المعاني في قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران:139). فالوهن هو: الضعف، واستشعار الضآلة، والحزن هو ضرب من الانهزام إزاء المحيط، وفي ذلك كله منافاة لكرامة الإنسان ورفعته، وهذا الوضع من الضعف والضآلة والانهزام لا يتطرق إلى نفس الإنسان إذا ما حل بها الإيمان، أي إذا ما كان الإنسان عابدًا متوجهًا إلى الله تعالى، فقد علقت في هذه الآية العزة والكرامة والاستعانة بالعبادة، فتكون العبادة هي سبب الرفعة ومظهر التكريم. - العزة بالتعبد في مباشرة الكون: خلق الله الكون مسخرًا للإنسان يستجيب لمصالحه ومنافعه، ولكن هذا التسخير ليس ليكون الكون هدفًا بذاته ليعيش فيه الإنسان بل ليكون مسرحًا يمارس عليه وظيفة الخلافة المبنية في جوهرها على الترقي المادي والروحي في طريق الصعود إلى المستخلف الذي هو الله تعالى، ولذلك جاءت الأوامر الإلهية تقتضي أن يتعامل الإنسان مع الكون بحسب ما يؤدى إلى تحقيق سيطرته واستغلاله، فتكون العبادة بتطبيق تلك الأوامر مفضية إلى العزة والكرامة، قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت:20)، وقوله: {انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام:99).
- العزة بالتعبد في العلاقة الاجتماعية: إن ما تعبد به الله عباده من التشريعات الضابطة للتعامل الاجتماعي يحقق كله كرامة الإنسان، ويؤدي إلى عزته واستعلائه. وأول ما يظهر ذلك في التشريع المتعلق بحفظ الكيان الإنساني فردًا ونوعًا، وهو المتمثل في مجموعة العقوبات، والتعزيز، والحدود الموضوعة؛ لردع الاعتداء على الذات البشرية، بما يؤدي إلى إتلافها، أو إعاقتها عن تأدية دورها. وتبلغ هذه العقوبة ذروتها في عقوبة القتل العمد، وفي عقوبة الزنا للمحصن، حيث تكون القتل. ويظهر ذلك أيضا في تنظيم العلاقة الاجتماعية، وفيما شرع في التنظيم السياسي، حيث بنى الحكم على أساس من الشورى والبيعة، وحيث جعلت طاعة الحكام طاعة لله، فإذا ما انحرفت سياستهم عن القانون الإلهي إلى ما فيه تعد على الإنسان بالظلم والبغي والإهانة، كانت الثورة لخلعهم واجبًا دينيًا. وكل هذه التشريعات الاجتماعية أقيمت على ما يحقق كرامة الإنسان ورفعته، ويضمن تحرره من القهر والاستبداد؛ ليكون له من ذلك قوة عند مباشرة دوره في إنجاز الخلافة ترقيًا في الذات الفردية والاجتماعية.
- عزة التعبد في التعامل الذاتي للإنسان: قد يسقط الإنسان الفرد في ممارسات ذاتية تخل بكرامة الذات الإنسانية، فجاء التشريع الإسلامي يفرض ضروبًا من العبادة تحول دون هذه الممارسات وتحفظ العزة والتكريم. وأول ما يحفظ للفرد كرامته واستعلاءه ألا يجعل همه في إشباع شهواته وملاذه فيصبح عبدًا للشهوة وسجينًا للملذات، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}. وقال صلى الله عليه وسلم: «من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره. وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة»، تنبيهًا إلى أن حصر الهم فيما يشبع شهوة الكيان المادي دون تجاوز إلى ما يحفظ الكيان الروحي وينميه بالتقدم في الفضيلة، إنما هو تنزيل لذات الإنسان في منزلة أقل من المنزلة التي أراد الله لها، إذ هي منزلة سائر الحيوان الذى لا يتجاوز في مناشطه ما يحقق له المأكل والفساد، وليس للإنسان بهذه المنزلة التي قد يكرس فيها نفسه أن ينشد الاقتراب من الله بإنجاز خلافته؛ لأن هذا الإنجاز يستلزم أن يستخدم ما يحفظ الكيان المادي وسيلة لتوجيه هذا الكيان للتعمير، أما إذا أصبح هدفًا في حد ذاته فإن قيمة الإنسان لا تكون فائقة لقيمة ما يحيط به من الموجودات.
وقد يبين هذا المعنى محمد باقر الصدر في قوله: «وما دامت الدنيا لا تشكل للإنسان هدفه، وإنما تجدد قدرته باستمرار على مواصلة الكدح في طريقه إلى ربه، وتحقيق هدفه، فمن الطبيعي أن يأخذ الإنسان منها حاجته، ويوظف الباقي للهدف الكبير؛ لأنه إذا احتكر لنفسه أكثر من حاجته، تحولت الدنيا بالنسبة إليه إلى هدف، وخسر بذلك دوره لصالح في الأرض». - طمأنينة الخلود: إن الفناء هو أقسى ما ينزل بالأشياء عن النقص، إذ هو قمة النقص، أو هو النقص المطلق، ولذلك قال الفلاسفة: «إن الوجود كمال والعدم نقص». ومن ثمة اعتبرت الحياة في العقيدة الإسلامية منه عظيمة من الله تعالى، ونعمة أنعم بها على الأحياء: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} (البقرة:28).
ولكن الحياة التي يعيشها الإنسان في عالم الشهادة حياة منقوصة، إذ هي تنتهي بالموت، فماذا في حياة تنتهي بالفناء من قيمة؟ وماذا الإنسان يؤول مصيره بعد حياته الدنيا إلى العدم من عزة ورفعته؟
ليس للإنسان من قيمة، وليس له من عزة ولا رفعة إذا هو انتهت حياته بالعدم فلو لم يكن للإنسان عاقبه ينتهي إليها غير هذه الحياة الخسيسة المملوءة نصبًا وهمًا وحزنًا، ولا يكون بعده حال مغبوطة لكان أخس من البهائم أحسن حالًا من الإنسان؛ لأنه لا يعي المأساة، أما الإنسان فإنه يعيها ويتجرع مرارتها مع كل أنفاسه.
ولذلك جاءت العقيدة الإسلامية– وهي تأكيد للأديان السماوية السابقة– تعلى من شأن الإنسان بأن أكدت وجوده، فلم تقصره على الوجود الفاني، بل جعلته وجودًا باقيًا، وبشرته بالخلود في حياة أخرى تتلو هذه الحياة الدنيا.
فالحياة الدنيا في العقيدة الإسلامية ليست إلا مرحلة من الوجود الإنساني، وهى المرحلة المنقوصة، أما الوجود الحقيقي فهو في حياة أخرى بعدها ممتدة لا يصل لها الفناء، ولكن الحياتين ليس بينهما انفصال، بل العلاقة بينهما قائمة، وهي علاقة الزرع الذي يكون في الحياة الدنيا بالحصاد الذي يكون في الحياة الآخرين ومن ثمة فإن الموت الذي هو صدر خوف وهلع ورعب عند من ينكر الحياة الأخرى يضحى في العقيدة الإسلامية سببًا للكمال، إذ هو الطريق إلى الوجود الأخروي كما بينه الراغب الأصبهاني في قوله: «الإنسان ما دا في دنياه جار مجرى الفرخ في البيضة، فكما أن من كمال الفرخ تفلق البيض عنه، وخروجه منه، كذلك من شرط كمال الإنسان مفارقة هيكله، ولولا هذا الموت لم يكمل الإنسان، فالموت إذن ضروري في كمال الإنسانية».
الأثر التربوي لعقيدة التكريم
مما تقدم بيانه يتأكد أن تكريم الإنسان وعزته ورفعة شأنه عقيدة إسلامية أساسية في تصور الإنسان، اهتم بها القرآن والحديث أيما اهتمام وبينها أتم بيان في مختلف المقامات، حتى غدت من أسس الاعتقاد في تقدير الإنسان، انطلاقا من مطلق إنسانيته دون الاعتبارات العارضة لها، فهذا الإنسان المطلق أنى نظرنا إليه في التصور القرآني وجدناه الكائن المكرم العزيز ابتداء من وضع مخلوقيته الأولى، ومرورًا بتقويمه المادي والمعنوي، وبتحمله أمانة التكليف، وباستعلائه على ما سواه في خط سيره نحو الله، وانتهاء بصيره في حياة الخلود.
وعقيدة التكريم هذه خطيرة الشأن في أثرها التربوي حينما يتبناها الإنسان بالإيمان بعد استيعابها بالتمثل والوعي فإن لها فعلًا بالغ الأهمية في موقف من يتبناها سواء موقفه الداخلي إزاء الله تعالى وإزاء نفسه، أو موقفه الخارجي إزاء المجتمع الإنساني وإزاء البيئة الكونية.
إن من يؤمن بأنه الكائن المكرم الذي أحاطت به العناية الخاصة، ومن يتمثل ذلك التكرم في نفسه بما يقف عليه في وجوهه، ويعرف أن ذلك كان على وجه القصد والحكمة، ثم يقارن نفسه فيما خص به من وجوه العزة الآنفة الذكر بأضداد من المعاني مما هو عليه كثير من البهائم والموجودات من حوله، فإنه لا يملك إلا أن يحمد المنعم بتكريمه، ويتوجه إليه بالشكر لما أنعم عليه، ويتخذ الأسباب للاقتراب منه وتحصيل مرضاته، فتكون هذه العقيدة سببًا دائمًا في الصلة بالله، لأن الإنسان يستشعرها لما تصبح عقيدة استشعارًا دائمًا، إذ هي حالته الوجودية المستمرة.
إن شعور الإنسان بأنه كائن ذو رسالة أخلاقية، واعتقاده بأنه متحرر من كل هيمنة سوى هيمنة الله يجعله يقبل على الله عبر إنجاز الخلافة على الأرض، فيباشر هذه الأرض بالفعل، وهو يبغى بها التوجه إلى الله، فيكون فعله فيها إنشاءً وتعميرًا واستثمارًا فعلًا عميق الأثر؛ لأنه يهدف إلى غاية بعيدة هي الله، إذ الفاعلية تستمد زخمها من الهدف المقصود بعدًا وقربًا، وقد شرح هذا المعنى محمد باقر الصدر في قوله: «إن الجماعة البشرية الصالحة هي التي تضع الله هدفًا للمسيرة الإنسانية، وكلما اقتربت خطوة نحو هذا الهدف وحققت شيئًا منه انفتحت أمامها آفاق أرحب، وازدادت عزيمته لمواصلة الطريق؛ لأن الإنسان المحدود لا يمكن أن يصل إلى الله المطلق، ولكنه كلما توغل في الطريق إليه اهتدى إلى جديد، وامتد به السبيل سعيًا نحو المزيد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69).
من المصادر والمراجع:
- الترابي (د. حسن عبد الله)، الإيمان وأثره في الحياة، ط: دار القلم، الكويت 1974.
- التفتازانى (د. أبو الوفاء الغنيمي)، الإنسان والكون فى الإسلام، ط: دار الثقافة للطباعة والنشر القاهرة 1975.
- الرازي (محمد بن عمر فخر الدين، ت: 606 هجري)، التفسير الكبير، ط: دار الكتب العلمية، طهران (د. ت).
- عائشة عبد الرحمن، القرآن وقضايا الإنسان، ط: 4 دار العلم للملايين، بيروت 981.
- محمد باقر الصدر، منابع القدرة في الدولة الإسلامية، ط: طهران – د ز ت.