تختصر كلمة الحمد كلّ كلمات الثّناء والشُّكر، والتعظيم والصبر؛ فما أحسنها وهي تخرج من قلب صابر، أو لسان ذاكر، أو عبد شاكر، وما أجملها أن تكون حقيقة قلبيّة لا جُملة لسانيّة فحسب، فأصدق الحَمْد ما نَطَقَ به القلب قبل أن يفوّه به اللسان.
والحَمد من أجل الصّفات التي يجب أن يتحلّى بها المسلم، وفي كتاب الله الكريم يكثر دومًا هذا الذّكر، لتذكير العباد بالنعم وأثرها، وذلك يستوجب التدبّر المستمر لهذه النّعم والعمل على شكر الله- عز وجل- وحمده.
مفهوم الحمد وتأصيله شرعًا
ويقول ابن فارس عن معنى كلمة الحمد إنها من “الحاء والميم والدال”، وهي كلمة واحدة وأصل واحد، يدل على خلاف الذم، يُقال: حمدت فلانًا أحمده، ورجل محمود ومحمد: إذا كثرت خصاله المحمودة غير المذمومة”، ويقال: حمدت الرجل أحمده حمدًا: إذا رأيت منه فعلًا محمودًا، وأحمدت الأرض أحمدها إحمادًا: إذا رضيت سكناها أو مرعاها.
ومن أسماء الله- سبحانه وتعالى- (الحميد)، أي: المحمود على كل حال، فعيل بمعنى مفعول، ولهذا سُمّي نبينا محمدًا- صلى الله عليه وسلم. ويقول العرب: حماداك أن تفعل كذا، أي: غايتك وفعلك المحمود منك غير المذموم، ويقال: أحمدت فلانًا: إذا وجدته محمودًا. قال الفرزدق: فلم تجر إلا جئت في الخير سابقًا ولا عدت إلا أنت في العود أحمد.
وذكر “الجرجاني” في المعنى الاصطلاحي لكلمة الحَمْد عدة تعريفات، منها أنه هو الثناء على الجميل من جهة التعظيم من نعمة وغيرها، والقولي وهو حمد اللسان وثناؤه على الحق بما أثنى به على نفسه على لسان أنبيائه، والفعلي وهو الإتيان بالأعمال البدنية ابتغاء لوجه الله تعالى، والحالي وهو الذي يكون بحسب الروح والقلب، كالاتصاف بالكمالات العلمية والعملية، والتخلق بالأخلاق الإلهية، واللّغوي وهو الوصف بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل باللسان وحده، والعرفي: فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا، أعم من أن يكون فعل اللسان أو الأركان. وعرّفه به ابن القيم بقوله: “إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه”.
وأمر الله تعالى بحمده على تنزهه عن النقائص فقال: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) [الإسراء: 111]. وأمر بحمده على نعمة إيضاحه لعباده الدينَ الحق إيضاحًا بيِّنا فقال: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [النمل: 93].
والحمد لله يكون على نعمة الخلق والإيجاد، قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام: 1]. والحمد لله على إمداده عباده بالنعم المعنوية التي تصلح أرواحهم، وتهديهم إلى الصراط المستقيم بنور الوحي المبين. قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) [الكهف: 1].
وبيّن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنّ حَمْد الله تعالى من أحب الكلام إليه؛ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “أحب الكلام إلى الله تعالى أربع: لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر” (مسلم).
والحمد لله لها ثواب يملأ ميزان الحسنات يوم القيامة، قال- صلى الله عليه وسلم-: “الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان” (مسلم).
وقول الحَمْد لله من الأعمال الصالحة التي هي خير من الدنيا وما فيها؛ لِمَا فيها من الأجر العظيم الذي لا تساويه الدنيا؛ قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحب إلي مما طلعت عليه الشمس” (مسلم).
وللمؤمنين الحامدين اللهَ على مصيبة فقدِ الولد صابرين محتسبين بيتٌ في الجنة يقال له: بيت الحمد؛ فعن أبي موسى- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد” [رواه الترمذي وابن حبان، وهو حسن].
والحمد لله سبب لنيل رضوان الله تعالى إذا قال المسلم ذلك عند كل أكلة وكل شربة، قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها” (مسلم).
فضائل الحمد
ومن فضائل الحمد لله تعالى ما يلي:
- أنها أفضل الدعاء: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “أفضل الدعاء الحمد لله” (ابن ماجة).
- خير الكلام وأحبه إلى الله: قال النبي- صلى الله عليه وسلم- “إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده” (مسلم).
- سبب لمغفرة الذنوب: ففي الصحيحين: “إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ تقول: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. فيقول: هل رأوني؟ … أشهدكم أني قد غفرت لهم”.
- سبب في نزول المطر والبركة: فقد ورد في السنة النبوية أن قول “الحمد لله رب العالمين” سبب في نزول المطر والبركة، فعن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّكم شَكَوتُمْ جَدْبَ ديارِكم، واستئخَارَ المطَرِ عنْ إبَّانِ زمانِهِ عنكم، وقدْ أمرَكُمْ اللهُ عزَّ وجلَّ وَوَعَدَكُم أنْ يستجيبَ لكم الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا إلَهَ إلَّا اللهُ يفعلُ ما يُريدُ، اللَّهمَّ أنتَ الله لَا إلَهَ إلَّا أنتَ الغنيُّ ونحنُ الفقراءُ، أنزِلْ علينا الغيثَ، واجعلْ ما أنزلْتَ لنا قوةً وبلاغًا إلى حينٍ” (صححه الألباني في صحيح الجامع).
- تنفض خطايا المسلم: فعن أنس بن مالك- رضي الله تعالى- عنه: أن رسول الله- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال: “إن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر: تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها” (الترمذي وأحمد وصححه الألباني).
- سبب لدخول الجنة: عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ” (الترمذي).
مواطن حمد الله
وتتعدد مواطن الحمد لله، ومن ذلك:
- عند الفراغ من الطعام والشراب: فعن أبي أمامة الباهلي- رضي الله عنه- قال: “أنَّ النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كان إذا فرَغ من طَعامِهِ، وقال مرةً: إذا رفَع مائِدَتَهُ، قال: “الحمدُ للهِ الذي كَفانا وأَرْوانا، غيرَ مَكفِيٍّ ولا مَكفورٍ”. وقال مرةً: “الحمدُ للهِ ربِّنا، غيرَ مَكفِيٍّ ولا مُوَدَّعٍ ولا مُسْتَغْنًى، ربَّنا”. (البخاري).
- عند الاستيقاظ من النوم: فعن أبي ذر الغفاري- رضي الله عنه- قال: “كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا أخذ مضجعه من الليلِ قال: “اللهم باسمك أموت وأحيا”. فإذا استيقظ قال: “الحمد للهِ الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشورُ” (البخاري).
- عند الاستيقاظ في الليل: فعن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : “من تعارَّ من الليلِ فقال حين يستيقظُ: لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ، له الملكُ، وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ، ثم دعا: ربِّ اغفر لي استُجيبَ له؛ فإن قام فتوضأَ ثم صلَّى قُبِلتْ صلاتَه” (أبو داود).
- عند لبس الثوب: وهذه السنة الشريفة من السنن المهجورة التي ينبغي لنا تعلمها وتعليمها للأهل والمسلمين، فعن معاذ بن أنس الجهني- رضي الله عنه- قال: قال النبيُّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: “مَنْ لبِسَ ثوبًا فقال : الحمدُ للهِ الّذي كسَانِي هذا ، ورزَقَنِيِهِ من غيرِ حولٍ مِنِّي ولا قُوَّةٍ غُفِرَ لهُ ما تقدَّمَ من ذنْبِهِ ومَا تأخَرَّ” (صحيح الجامع).
- دبر كل صلاة: وردت صيغة لذكر الله تعالى متضمنة لحمد الله دبر كل صلاة، وهي سبب في غفران الذنوب وإن كانت مثل زبد البحر، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال النبيُّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: “من سبَّحَ اللَّهَ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثينَ وحمدَ اللَّهَ ثلاثًا وثلاثينَ وكبَّرَ اللَّهَ ثلاثًا وثلاثينَ فتلكَ تسعةٌ وتسعونَ وقالَ تمامَ المائةِ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ غُفِرت خطاياهُ وإن كانت مثلَ زَبَدِ البحرِ” (مسلم).
- عند العطاس: فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: “إذا عطس أحدُكم فليقلْ: الحمدُ للهِ، وليقلْ له أخوهُ أو صاحبُه: يرحمُك اللهُ، فإذا قال له: يرحمُك اللهُ، فليقلْ: يهديكم اللهُ ويصلحُ بالَكم” (البخاري).
- عند رؤية مبتلى: إن حمد الله تعالى عند رؤية المبتلى من علامات إدراك العبد لنعمة الله تعالى عليه، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال النبيُّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: “إذا رأى أحدُكم مُبتلًى فقال: الحمدُ للهِ الذي عافاني مما ابتلاكَ به، وفضَّلَني عليك وعلى كثيرٍ من عبادِه تفضيلًا، كان شَكَرَ تلك النعمةِ” (ابن ماجه والطبراني وحسّنه الألباني).
- عند كل نعمة: فهذا نهج الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ونهج العباد الصالحين رضي الله عنهم، قال الله تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:34].
- في مقام الرزق: يقول عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [البقرة:267]..
- عند تذكر وتدبر أسماء الله تعالى وصفاته: قال الله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فاطر:1 ].
- عند دخول الجنة: وهي من أجمل المواطن التي يأذن الله تعالى فيها لعباده بحمده سبحانه قال الله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:43].
فالحمد كله لله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، وهكذا يظلّ العبد حامداً لله، ديمةً عند استيقاظه وعند منامه. في خلوته وفي جلوته، بعد إطفاء نار عطشه، وبعد سدّ جوعة بطنه، في حال سقمه أو بعد ما يأذن الله له بشفائه، عندما يواري عورته باللباس والزينة، أو يأوي إلى بيته وفراشه في كل شؤونه وتصريفاته إلى وقت نزع روحه من بين جنبيه.
مصادر ومراجع:
- ابن فارس: مقاييس اللغة 2/100.
- ابن دريد: جمهرة اللغة 1/505.
- ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 1/436.
- الجوهري: الصحاح 2/ 467.
- ابن منظور: لسان العرب 3/158.
- الجرجاني: التعريفات، ص 93.
- ابن القيم: بدائع الفوائد 2/93.