مع مطلع كل عامٍ هجري ينتظر المسلمون حول العالم يوم عاشوراء الذي يهلُّ في اليوم العاشر من شهر محرم، وهو من أفضل النّفحات الإيمانية التي أنعم الله– عزو وجل– بها على عباده، فقد أكد النبي– صلى الله عليه وسلم– أن الصّيام والعبادة والذكر والدعاء في هذا اليوم يُكفّر ذنوب السّنة الماضية، حيث قال: “.. وصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ” (رواه مسلم).
ويعود أصل هذا اليوم إلى عهد سيدنا موسى– عليه السلام– فعن ابن عباس– رضي الله عنهما– قال: “قدم النبي– صلى الله عليه وسلم– المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى، فقال رسول الله– صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه” (رواه البخاري ومسلم).
عاشوراء بين الحق والباطل
إن يوم عاشوراء مُرتبط ٌبالصّراع الأَزَلِي بين الحق والباطل، فهذا فرعون الذي أعلن أنه إله الكون فاستخف قومه فأطاعوه، موجود في كل زمانٍ ومكانٍ، وما أكثرهم اليوم في زماننا الحديث وما أكثر أتباعه الذين استخف عقولهم، فحاربوا وقتلوا واتهموا أهل الحق بأنهم شرذمة قليلون وأنهم غير وطنيين، ولا ولاء لديهم لبلادهم.
وقد تكرّرت قصة موسى– عليه السلام– مع فرعون مصر، نحو ثلاثين مرة في القرآن الكريم، لمُشابهتها لما كان يعانيه الرسول– صلى الله عليه وسلم– من صناديد قريش وفراعينها، ولِمَا فيها من التّسلية والتّأسية له وللمؤمنين، حينما يشتد عليهم أذى الكفار والمنافقين.
فحينما فشلت حِيَل فرعون وجنوده للتنكيل بموسى ومَن معه، انطلق خلفه بجيش جرّار، فكانت الطامة الكبرى التي خلّدها القرآن لتكون عبرة لجبابرة الأرض، فقال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} (الشعراء:63)، وقال: {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} (الشعراء: 65)، فأصبح هذا اليوم عيدًا للمؤمنين يفرحون به لأنه يوم نصر موسى عليه السلام، يوم عز وفرحة وعيد لكل محبي الحق من أتباع موسى أو عيسى أو محمد.
غير أنّ البعض أراد تحويل هذا اليوم إلى حزنٍ وفزعٍ وجزعٍ، فاستحلّوا فيه القتل والتعذيب، وظنوا أنهم بذلك يتناصرون، فقد قُتل الإمام الحسين بن علي– رضي الله عنه وأرضاه– فجاءت مِن بَعده أُمّةٌ مُسلمةٌ، لتُقيم حفلات التعذيب، وبدلًا من الفرح بنصر الله لنبيه والمؤمنين، تناسوا ذلك وأشعَلوها مجازر لا يرضى الله عنها، وتناقلتها الإذاعات حتى أصبحت صورة سيئة للإسلام.
ما يُستحب في يوم عاشوراء
ومن أحب الأعمال في هذا اليوم ما حثّ عليه النبي محمد– صلى الله عليه وسلم– حينما أمر أمته بصيامه وصيام يومٍ قبله أو يوم بعده مخالفة لليهود، ففي حديث ابن عباس– رضي الله عنهما– قال: “ما رأيت النبيّ– صلى الله عليه وسلم– يتحرّى صيام يوم فضّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء وهذا الشهر يعني شهر رمضان” (مسند أحمد).
كما ثَبَتَ في صحيح مسلم عن ابن عباس– رضي الله عنهما– أنه قال: حين صام رسول الله– صلى الله عليه وسلم– يَوْمَ عَاشُورَاء، وأمر بصيامه، قالوا يا رسول الله: إنه يوم تُعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله– صلى الله عليه وسلم -: “فإذا كان العام المقبل إن شاء الله، صمنا اليوم التاسع. قال: فلم يأتِ العام المقبل، حتى تُوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله– صلى الله عليه وسلم -: “أفضل الصّيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم” (رواه مسلم). وقوله: “شهر الله” إضافة الشّهر إلى الله إضافةَ تعظيم، قال القاري: الظاهر أنّ المراد جميع شهر المحرّم. ولكن قد ثبت أن النبي– صلى الله عليه وسلم– لم يصم شهرًا كاملًا قطّ غير رمضان، فيحمل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصّيام في شهر محرم لا صومه كله. وقد ثبت إكثار النبي– صلى الله عليه وسلم– من الصوم في شعبان، ولعلّ لم يوح إليه بفضل المحرّم إلا في آخر الحياة قبل التمكّن من صومه. (شرح النووي على صحيح مسلم).
وقال رسول الله– صلى الله عليه وسلم -: “صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ” رواه مسلم.
وحدّد الإمام ابن القيم في كتابه زاد المعاد، مراتب صوم هذا اليوم، وهي:
- أكملها: أن يصام قبله يوم وبعده يوم.
- أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث.
- إفراد العاشر وحده بالصوم.
هذا غير الحرص على الأعمال الصالحة، فينبغي الحرص على اغتنام هذا اليوم بالأعمال الصالحة من الصيام والمحافظة على الصلاة وقراءة القرآن وذكر الله عز وجل والدعاء وسائر أعمال الخير والبر.
زاد للثبات على الحق في وجه الباطل
يهل علينا يوم عاشوراء في الوقت الذي يطغى فيه الباطل ويتجبّر ويظن أن بيده كل شيء وأنه يملك السيطرة على العالم، ويتحكم في البلاد والعباد، وفي المقابل يظن عباد الله المؤمنين أنهم قد أحيط بهم، لكن ذكرى هذا اليوم تعطينا زادًا للصمود وأملًا في النصر على الجبابرة مهما كانت قوتهم، التي تستند إلى تحالفات دولية وقدرات عسكرية وسيطرة سياسية وهيمنة اقتصادية ومكر بالليلِ والنهار.
فهذه النفحة الرّبانية تأتينا كل عام، لتعلمنا الدروس وتسوق لنا العبر والعظات من نجاة سيدنا موسى وأتباعه وهلاك الطغيان الرهيب المتمثل في فرعون وجنوده، فها هو المشهد الأخير للصراع مع الباطل في القرآن الكريم: {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ … وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ” (الشعراء:61 : 68).
دروس وعبر
- في يوم عاشوراء، انتهى إمهال الله للمجرمين.. وعندما ينتهي الإمهال تحين– ولو بين الجيوش– الآجال.
- ووضع جبريل الطين في فم فرعون مخافة أن يسلم فيُرْحم.. عندما يفجُر الطغاة تتمنى الملائكة هلاكهم.
- لم ينفلق البحر حتى اختبر الله يقين الجميع.. فلما نجح موسى في اختبار اليقين.. نجاه الله ومن معه من المؤمنين: {قَالَ كَلَّآ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهۡدِينِ} (الشعراء: 62).
- هَلَكَ الظالم ووزراؤه وحراسه وعسكره وشرطته وطباخوه.. فالأعوَان على الفجور.. غارقون في نفس البحور.
- نجت عجوز بني إسرائيل الضعيفة الصالحة.. وهلك شباب الفرعون الأشداء.. ساعة غضب الله تنفعك خبيئتك لا وجَاهتك.
- أصرّ فرعون على كبره وجبروته حتى وهو يرى البحر ينفلق.. هكذا الطغاة.. يُصيِّرهم الكبر والخيلاء إلى أقصى درجات الغباء!
- لما استفرغ موسى وسعه، وبذل جهده، وأحكم خطته.. أهلك الله عدوه وأتم نعمته.. خطِّط للحق كما لو كنت موسى بن عمران.. فالبحر لا ينفلق لقاعد أو كسلان.
- نجت القلة المؤمنة، وهلكت الكثرة الكافرة.. لأن القليل الذي معه الله كثير.. والكثير بغير الله ضعيف مُهان حقير.. ولو كان معه الملايين.
- صام النبي فرحا بنجاة موسى ومن معه بعد آلاف السنين.. فالمؤمنون لا يمنع ولاءَهم لبعضهم طولُ الزمانِ ولا بُعدُ المكان.
بدع عاشوراء
وقد وردت أحاديث مزعومة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- بشأن استحباب الاختضاب (مشتقٌّ من الخضْب بمعنى التلوين) والاغتسال والتوسعة على العيال في يوم عاشوراء. قال حرب: سألت أحمد عن الحديث الذي جاء في من وسع على أهله يوم عاشوراء فلم يره شيئًا.
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: لم يرد في ذلك حديث صحيح عن النبي- صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئًا، لا صحيحًا ولا ضعيفًا، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة.
ولما قتل الحسين- رضي الله عنه- صارت طائفة جاهلة ظالمة: إمَّا ملحدة منافقة، وإما ضالَّة غاوية، تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهلية، من لطم الخدود، وشق الجيوب، والتعزي بعزاء الجاهلية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وصار الشيطان بسبب قتل الحسين– رضي الله عنه- يحدث للناس بدعتين: بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء، من اللطم والصراخ، والبكاء، والعطش، وإنشاء المراثي، وما يفضي إلى ذلك من سبّ السلف ولعنهم، وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب ، حتى يسب السابقون الأولون، وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب، وكان قصد من سن ذلك، فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة، فإن هذا ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة، من أعظم ما حرمه الله ورسوله”.
وفي الوقت الحاضر، يستقبل بعض المنتسبين إلى الإسلام في بعض البلدان شهر محرم بالحزن والهم والخرافات والأباطيل؛ فيصنعون ضريحًا من الخشب، مزينًا بالأوراق الملونة ويسمونه ضريح الحسين، أو كربلاء، ويجعلون فيه قبرين، ويطلقون عليه اسم “التعزية”، ويجتمع أطفال بملابس وردية أو خضر، ويسمونهم فقراء الحسين.
وفي بعض البلدان يخرج الناس في ليلة عاشوراء معصبين عيني الرجل يطوفون الطرقات، فإذا ما قاربت الشمس على البزوغ عادوا إلى بيوتهم، لكن الإسلام بريء من كل هذه البدع.
المصادر والمراجع:
- حكمة صيام يوم عاشوراء.
- ابن القيم: زاد المعاد، 2/75.
- ابن قدامة: المغني، 4/441.
- الحافظ ابن حجر: فتح الباري 4/311.
- البدع التي أحدثت في شهر محرم.
- ابن رجب الحنبلي: لطائف المعارف، ص 125.
- ابن تيمية: مجموع الفتاوى، 25/299-317.
- ابن تيمية: منهاج السنة النبوية، 2/322، 323.