لا يخفى على أحد من المثقفين فضلا عن المتخصصين أن مؤسساتنا التعليمية والتربوية تفتقر إلى تحقيق أهداف التربية الإسلامية في خريجيها، منذ أن فرض الاستعمار ثقافته وتصوره المادي عن التربية (التربية العلمانية)، وكان سببًا رئيسًا في عزل مؤسساتنا التعليمية عن الرؤية الإسلامية في التربية، فيما عُرف بفصل الدين عن الحياة.
من هنا وجب علينا أن ننبه على هذا الأمر الخطير بالتعريف بفلسفة الخطاب التربوي الإسلامي وأهدافه، وما يجب أن يشتمل عليه في عصر العولمة التي نعيشها، حتى نكون خير أمة أخرجت للناس.
حاجتنا إلى تحقيق أهداف التربية الإسلامية
إن المؤسسات التربوية في الأقطار العربية والإسلامية، ما زالت تعتمد الأهداف التربوية الوافدة، وهذه المؤسسات والإدارات التربوية تُلقّن هذه الأهداف التربوية المستوردة تلقينا يشبه تلقين النصوص المقدسة؛ مع تجاهل الظروف الاجتماعية والعلمية والمرحلة الحضارية التي صاحبت هذه الأهداف في موطن نشأتها. وهي تهمل تحليل الدوافع التي رافقت استيراد هذه الأهداف والنتائج التي تولدت عنها.
فهل التربية الجارية في الوقت الحاضر في الدول الإسلامية معبرة عن الإسلام، ومحققة له؛ بحيث يتخرج الطالب في المدارس الموجودة حاليًّا مسلمًا بمعنى الكلمة؟
هذا يدعونا إلى الحديث عن أهداف التربية الإسلامية وفلسفتها، وما يجب أن يكون عليه خطابنا التربوي المعاصر، في ظل العولمة ومظاهر التغريب الثقافي في مؤسساتنا التعليمية والتربوية.
ويقصد بفلسفة التربية، صورة الإنسان الذي تتطلع التّربية الإسلامية إلى إيجاده، والمجتمع الذي نعمل على إخراجه في ضوء علاقة كل منهما بالخالق والكون والحياة والإنسان.
لقد جمعت التّربية الإسلامية منذ أول ظهور الإسلام بين تأديب النفس، وتصفية الروح، وتثقيف العقل، وتقوية الجسم، فهي تعنى بالتربية الدينية والخلقية والعلمية والجسمية دون تضحية بأي نوع منها على حساب الآخر.
ويذهب الدكتور مقداد يالجن إلى أن التربية الإسلامية تعني: “تنشئة وتكوين إنسان مُسلم متكامل في جميع نواحيه المختلفة؛ من الناحية الصحية، والعقلية، والاعتقادية، والروحية، والأخلاقية، والإدارية، والإبداعية، في جميع مراحل نموه على ضوء المبادئ والقيم التي أتى بها الإسلام، وفي ضوء أساليب التربية التي بيّنها”.
أهداف التربية الإسلامية
وحصر الدكتور سعيد إسماعيل علي أهداف التربية الإسلامية في التعبد، والتحلي بمكارم الأخلاق، والتربية للإعمار، والتعليم، وإقامة العدل التربوي، وتعزيز النزعة العقلية، والتربية الجسمية، والتغذية الوجدانية، والمسؤولية الاجتماعية، والارتقاء المستمر بمستوى جودة التعليم.
أما الدكتور زغلول النجار، فتحدث عن هذه الأهداف، بقوله: “بينما يقصر الصلاح في نظم التعليم اللاديني المعاصر على مقدار النفع المادي الذي عليه أن يعود على الفرد أو على المجتمع الذي يعيش فيه، فإن التّربية الإسلامية تضع الصلاح في إطار يشمل كل الجوانب المادية والمعنوية في الكون؛ الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والعلم النافع، والخلق القويم، وانعكاسات ذلك كله على الحياة بكل أبعادها، وعلى الأفراد والمجتمعات أينما وجد الأفراد وكانت المجتمعات، ومهما تباينت الألوان والألسنة واللهجات”.
ويرى أن الإنسان الصالح الذي يُشكّل هدف التّربية الإسلاميّة هو إنسان يعرف ربّه ويُدين له بالطاعة والعبادة، كما أنه:
- يعرف نفسه فيقدرها في حدود العبودية لله وحده.
- يعرف رسالته؛ وأنه مستخلف في الأرض، يعمر الحياة فيها، في ظل من حكم الله وشريعته.
- يجتهد في الوصول إلى الكمال الإنساني الذي رسمه له الله- عز وجل- مستخدما في ذلك ما وهبه الله من قدرات، وما حباه الله من علم، سواء أكان علما سماويًّا عن طريق الوحي، أو إنسانيا مكتسبا.
- مطالب بتحكيم العقل ومنهي عن التقليد الأعمى والجمود على المفاهيم الخاطئة لمجرد أنها موروثة.
- يعرف مصيره بعد هذه الحياة؛ موت ثم بعث فحساب، ثم حياة خالدة يُجزى فيها عن قيامه بتبعات التكليف وعن حمل الأمانة. إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
- يدرك أنه لم يخلق عبثًا، وأن حياته ليست لهوًا ولعبًا، وأنه محاسب عن ما اقترفه في الدنيا.
- يدرك مسؤولياته تجاه مجتمعه وأمته وبني جنسه، ويدرك حقوقه عندهم كما حددها الله له.
- يدرك أن الدنيا مزرعة الآخرة وهو محاسب عن كل ما يزرعه فيها.
- يعد نفسه لبنة صالحة لبناء مجتمع صالح تحكمه خشية الله وتقواه، كل ما يتبع ذلك من قيم وخلق وعدل اجتماعي. ومجتمع هذا شأنه هو بلا شك أمل البشرية كلها.
خطابنا التربوي في عصر العولمة
يحتاج خطابنا التربوي في عصر العولمة إلى أن يُترجم بأسلوب منهجي عملي جملة أخلاقيات حضارية لتكون عنوانا لمناهجنا الدراسية، ومنطلقا لتأهيل مؤسسات المجتمع المدني، وقاعدة للوعي الثقافي الجماهيري في التعامل مع قضايا العصر، وفق أهداف التربية الإسلامية وبما يحقق مصالحنا الوطنية، ويخدم قضايانا المصيرية، ومن ذلك:
- الإيمان بالوحي والاعتزاز بالتوحيد والالتزام بمقتضياته عقيدة وشريعة؛ فكرًا وتصورًا وسلوكًا.
- تنمية العقل الحر الناقد المبدع وترسيخ مبدأ الحوار الهادف بين الأفراد والأمم.
- الاهتمام بعمارة الدنيا وتوجيه الناشئة نحو العلوم الدينية والمدنية بجميع فروعها حسب حاجيات المجتمع من جهة، ووفق رغبات المتعلمين وميولهم وقدراتهم الفردية من جهة أخرى.
- مراجعة المناهج الدراسية لتواكب التطورات الحديثة على هدي ثوابتنا الأصيلة.
- العناية بالفنون المتنوعة وتشجيع الناس على الاستمتاع بمباهج الحياة وفق ضوابط الشرع الحنيف.
- توفير الإسناد المادي والعلمي والمعنوي للأسرة كي تقوم بدورها في النهوض بالمجتمع، مع تمكين المرأة لتمارس دورها المجتمعي والحضاري مع الحفاظ على رسالتها الأسرية الخالدة.
- التمسك بالعقيدة الإسلامية مع التسامح في التعامل والتحاور مع المخالفين، انطلاقًا من قوله تعالى (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة: 83].
- محاربة الفساد بجميع صنوفه محليًّا وعالميا والإيمان الجازم بأهمية الجهاد في الحفاظ على هويتنا المسلمة ومصالحنا المشروعة.
- تطوير مؤسسات التربية والتعليم وتجديد طرائقها في دعم الاستثمار البشري لجميع فئات المجتمع، وضرورة الارتقاء بمناهج إعداد المعلمين والمعلمات، ووضع خُطط تربوية مستقبلية تتناسب مع تطلعات المجتمع ومعطيات الحركة العالمية.
- وضع آليات ملموسة لمؤسسات المجتمع المدني لممارسة دورها في تعضيد مقاصد التربية الإسلامية قولًا وتطبيقًا وتخطيطًا، على نحو يخدم عمليات البناء المجتمعي على أساس التنمية، كي يحفظ هويته، ويحقق أهدافه.
- تشجيع البحث العلمي الكمي والكيفي ومواصلة الإفادة العملية من مخرجاته.
إن مؤسساتنا التعليمية والتربوية، بل مجتمعاتنا وأسرنا، بحاجة ماسة إلى تحقيق أهداف التربية الإسلامية، وهذا تحدٍّ كبيرٍ في ظل التغريب التربوي الذي كان هدفا للاستعمار، ولا يزال مستمرًا في ظل العولمة التي هي امتداد لهذا الاستعمار، وفي ظل أنظمة حكم ونخب مثقفة تدين بالولاء لهذه الأنظمة الغربية في فصل الدين عن الحياة.
لقد اتسمت التربية العلمانية- التي جاءت إلى العالم العربي لأول مرة مع غزوة نابليون بونابرت مصر عام 1213هـ الموافق 1798م- باستهدافها العقل، واستبدال الفكر، وتغيير الهوية، بالإضافة إلى احتلال الأرض، ونهب الثروة، واستعباد الإنسان، وكانت العلمانية هي الوافد الجديد في ركاب الغزاة.
ومن ذلك التاريخ وحتى اليوم، ومن مصر إلى العراق، وفى كل موقع من بلاد الإسلام قامت فيه للاستعمار الغربي دولة وسلطة، أخذ هذا الاستعمار شيئا فشيئًا يحل النزعة العلمانية في تدبير شؤون الدولة والمجتمع وتنظيم أحوال العمران، محل الشريعة الإسلامية، ويزرع القانون الوضعي العلماني في مكان الإسلام وفقهه ومعاملاته، وما يزال الصراع مستمرًا على مستوى الأمة.
خصائص التربية الإسلامية
والعمل على تطبيق أهداف التربية الإسلامية ينبع من خصائص هذه التربية التي تتميز عن غيرها من الثقافات، بالآتي:
- التَّكامل والشُّمول: فالدين الإسلامي جاء من عند الله- عز وجل– الذي خَلَقَ الإنسان وهو الأعلم بما في داخل عقله وقلبه، ومقدار التوافق بينهما، وكيف يُمكن أن يكون الشيء الذي يعتنقه متوافق مع آرائه وأفكاره، ومشاعره.
- الخشية من الله- عز وجل-: وهي من من أهم خصائص الدين الإسلامي، فالمسلم مأمور بمراقبة الله– عز وجل– في السر والعلن، وأن لا يخالف سره علنه، يقول تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.
- الخلق السليم: ولقد وصف الله– عز وجل- نبيه– صلى الله عليه وسلم– فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلِقٍ عَظِيمٍ}.
- العدل والتوازن: فهي تعدل بين جميع الناس، وهو ما يُساعد على التوازن بينهم، فلا فرق بين عربي، وأعجمي أو أبيض، وأسود، إلا بالتقوى والعمل الصالح. يقول الله– تعالى-: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى).
- التمهيد: لم يأتِ الدين الإسلامي دفعة واحدة، حيث نزلت الأحكام على النبي محمد– صلى الله عليه وسلم– بالتدريج فأمر بالصلاة، ثم الصّوم.
- الكمال مع الواقعية: انطلاقًا من قول الله- تعالى-: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، فالدين الإسلامي يدعو الإنسان المسلم للكمال واحترام تعاليم الدين يعني الاهتمام بجميع شؤون حياته العلمية، والدينية، ولا يعني الأمر العبادة بالليل والنهار دون توقف.
- فرديّة واجتماعيّة: الإسلام يقوم على تنشئة جيل مسلم، وفرد يعبد الله– عز وجل– ويمتثل لأوامره ويعبده في جميع أحواله، كما أنه يقوم بدوره في المجتمع الإسلامي، ويساعد غيره على نشر الدين، وبذلك يسود الأمان في المجتمع ويرتقي به.
- عالميّة وإنسانيّة: فالدين الإسلامي عالمي، يمكن للجميع الدخول فيه دون تفرقة بين من دخل هذا الدين في البداية، أو في نهاية حياته، لقوله تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
- المداومة على الطاعة: فالإنسان المسلم يتعرف إلى الإسلام وتعاليمه منذ نعومة أظافره، وحتى نهاية حياته، حيث إنه يظل يتعلم الطاعة، ويبتعد عن المعاصي والمنكرات، حتى يصل إلى الغاية الكبرى وهي الجنة.
المصادر والمراجع:
- «علاقة علوم الدين بالعلوم التربوية والنفسية»، د. علي أحمد مدكور. الجامعة الأسمرية الإسلامية. مجلة أصول الدين. ليبيا. العدد 2 – 2017م/ 1438ه.
- التربية الإسلامية بين الأصالة والحداثة . د. عبد الرحمن حجازي.
- أهداف التربية الإسلامية. د. ماجد الكيلاني.
- التغريب الثقافي وانعكاساته التربوية والتعليمية في الوطن العربي. د. يزيد عيسى الشورطي- كلية العلوم التربوية- الجامعة الأردنية.
- واقع تطبيق التربية الإسلامية في القضايا المعاصرة من وجهة نظر المعلمين بدولة الكويت.
- د. محسن الصالحي وآخرون .مجلة عالم التربية، العدد 29، السنة 10 (أكتوبر). ذو القعدة 1430هـ. أكتوبر 2009 م.القاهرة.
- أزمة التعليم المعاصر وحلولها الإسلامية. د. زغلول النجار. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1416هـ/ 1995م.