شهر المحرم هو أول الأشهرِ الهِجرية، وأحد الأشهرِ الحُرُمِ الأربعة التي ذكرها الله- عز وجل- في كتابه الكريم، واعتبره النبي- صلى الله عليه وسلم- أفضل الشهور بعد رمضان، والصَّوم فيه مِن أفضل التطوُّعِ، لما رُوي عن أبي هريرة- رضى الله عنه- أنَّ النبي- صلّى الله عليه وسلم- قال: “أفضلُ الصِّيامِ بعد شَهرِ رمضانَ شهرُ اللهِ الذي تَدْعونَه المُحَرَّمَ، وأفضَلُ الصَّلاةِ بعد الفَريضةِ قيامُ الليلِ” (مسلم).
بل إنّ العَرَب كانت تُعظِّمُه في الجاهلية، فأسموه شهرَ الله الأصَمِّ، من شدة تحريمه، لذا جاء القرآن الكريم مُحرّمًا القتال فيه، فقال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]، ومع ذلك وَقَعَتْ فيه أحداث صعنت جزءًا من التاريخ لا يخفى على أحدٍ.
فضل شهر المحرم
جاء فضل شهر المحرم في القرآن الكريم واضحًا، فهو من الشهور التي عظمها الله- عز وجل- فقال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهور عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ..} (التوبة- 36)، وبيّن النبي- صلى الله عليه وسلم- فضل الصيام فيه، فقال: “أفضَلُ الصِّيامِ بعد رمضانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ” (مسلم).
وقال الحافظ بن رجب رحمه الله: وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل، فقال الحسن وغيره: أفضلها شهر الله المحرم، ورجحه طائفة من المتأخرين.
وعن فضل هذا الشهر الحرام، يقول الشيخ عبد الخالق الشريف، رئيس أكاديمية الشريف، إن الله تعالى يقول في محكم التنزيل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، فتفضِيل الأيام على الأيام والليالي على الليالي، والشهور على الشهور، والبشر على البشر، والأماكن على الأماكن، هذا حق مطلق لله- سبحانه وتعالى- فهو أعلم حيث يجعل ما شاء، كيف شاء، إلى ما شاء، على ما شاء.
ففضّل محمد- صلى الله عليه وسلم- على سائر الخَلْقِ، وفضّل أُوُلُو العزم، على غيرهم من الرسل والأنبياء، وفضّل رمضان على سائر الشهور، وفضل في الصيام بعد رمضان شهر الله المُحرّم، وجعل الليل مكانًا للقيام، وجعل آخره أفضل، وهكذا.
وقال الله- عز وجل-: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ} [الحج:32]، ومن شعائر الله ما فضّل الله، وفي حديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: “إنَّ لِرَبِّكُمْ عزَّ وجلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا” (رواه الطبراني).
ومن فضل هذا الشهر أنّ فيه يوم عاشوراء الذي حصل فيه نصر مبين لأهل الإيمان وأظهر الله فيه الحق على الباطل؛ حيث نجّى فيه موسى- عليه السلام- وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فهو يوم له فضيلة عظيمة.
حرمة شهر المحرم
شهر المحرم أحد الأشهر الحُرم التي قال الله- عز وجل- فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36].
قال الإمام القرطبي- رحمه الله- في تفسيره: “خصّ الله تعالى الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها، وإن كان منهيًّا عنه في كل الزمان، وعلى هذا أكثر أهل التأويل، أي: لا تظلموا في الأربعة أشهر الحرم أنفسكم، وروي عن ابن عباس- رضي الله عنه- قال: “فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ” في الاثني عشر”.
وفسّر الشيخ عبد الرحمن السعدي- رحمه الله- قول الله تعالى {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} بأنه يحتمل أنّ الضمير يعود إلى الاثنى عشر شهرًا، وأنّ الله تعالى بيّن أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تُعمر بطاعته، ويُشكر الله تعالى على مِنتِه بها وتقييضها لمصلحة العباد، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها. ويحتمل أنّ الضمير يعود إلى الأربعة الحُرم، وأنّ هذا نهي لهم عن الظلم فيها، خصوصًا مع النهي عن الظلم كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها أشد من غيرها”.
وفي الصحيحين من حديث أبي بكر- رضي الله عنه- أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم- خطب في حجته فقال: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حُرُم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان” (سنن أبي داود).
قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله- في تفسيره: “إنّما أضافه إلى مُضر ليُبين صحة قولهم في رجب إنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم، فبيَّن- صلى الله عليه وسلم- أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحُرِّم قبل أشهر الحج شهر وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرِّم شهر ذو الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك، وحُرِّم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحُرِّم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت”.
فضل صيام شهر الله المحرم
ومما يدل على فضل شهر المحرم، أنّ صيامه أفضل الصيام بعد رمضان، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: وهذا الحديث فيه دلالة واضحة على فضل صيام هذا الشهر.
قال الإمام النووي- رحمه الله-: “فإن قيل في الحديث: إنّ أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم، فكيف أكثر الصيام في شعبان دون المحرم؟ فالجواب: لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه، أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه، كسفر ومرض وغيرهما”.
قال الحافظ ابن رجب- رحمه الله-: “وقد سمى النبي- صلى الله عليه وسلم- المحرم شهر الله، وإضافته إلى الله عز وجل تدل على شرفه وفضله، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته، كما نسب محمدًا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء إلى عبوديته، ونسب إليه بيته وناقته”.
ولما كان هذا الشهر مختصًا بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصيام من بين الأعمال مضافًا إلى الله تعالى، فهو له سبحانه من بين الأعمال؛ ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله، بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام، وقد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله أنه إشارة إلى أن تحريمه إلى الله- عز وجل- ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه ويحرمون مكانه صفرًا، فأشار إلى أنه شهر الله الذي حرمه، فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك وتغييره.
شهرُ الحرام مباركٌ ميمونُ *** والصوم فيه مضاعفٌ مسنون
وثوابُ صائمهِ لوجه إلههِ *** في الخُلدِ عند مليكهِ مخزُونُ
أحداث جرت في محرم
وجرت أحداث كثيرة للأمة الإسلامية في شهر المحرم سطرتها كتب التاريخ والسّير، وهي بين انتصارات وأحداث المؤلمة جاءت على النحو التالي:
- نجاة سيدنا موسى- عليه السلام- وبني إسرائيل من فرعون وقومه.
- سرية أبي سلمة بن عبد الأسد إلى طليحة الأسدي في محرم سنة 4 هـ: حيث علم النبي بتأهُّب بني طليحة وسلمة ابني خويلد لقتال المسلمين، بعد غزوة أحد مباشرة، وباغت أبو سلمة بني أسد في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وعاد المسلمون سالمين غانمين إلى المدينة.
- غزوة خيبر في 30 من محرم 7هـ = 10 من يونيو 628م.
- معركة ذات السلاسل محرم 12هـ: انتصر المسلمون بقيادة خالد بن الوليد- رضي الله عنه- على جيوش الفرس بقيادة هرمز في معركة ذات السلاسل.
- وفاة مارية أم إبراهيم بن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سنة 16هـ: وكان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يحشر الناس لجنازتها بنفسه، وصلى عليها ودفنها بالبقيع- رضي الله عنها.
- قتل الحسين- رضي الله عنه- يوم الجمعة من محرم سنة 61هـ = 10 أكتوبر 680م: حيث رفض مبايعة يزيد بن معاوية فسيّر له جيشا فقتله والكثير من أهل البيت في كربلاء.
- مقتل 6: ففي 21 من المحرم عام 1215هـ = 14 من يونيو 1800م: لقى (كليبر) قائد الحملة الفرنسية في مصر مصرعه على يد (سليمان الحلبي) وكان كليبر قد ارتكب مذابح بشعة ضد المصريين.
- 23 من محرم 1336هـ = 8 من نوفمبر 1917م: تصريح بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود والذي أعطى الحق للكيان الصهيوني في أرض فلسطين.
- وفي 16 من المحرم عام 1358هـ احتج الأزهر الشريف على وضع قوة الشرطة البريطانية في المسجد الأقصى، وطالب بضرورة إخراجها من المسجد.
المصادر:
- الحافظ بن رجب، كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، صـ 70.
- الإمام القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (8/135).
- عبد الرحمن السعدي: تفسير السعدي، سورة التوبة آية 36.
- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1-4 ج2.
- صحيح مسلم بشرح النووي، (7-8/296).