كَتَبَ الدكتور السيد نوح- أحد المفكرين في الرعيل الأول بجماعة الإخوان المسلمون- مجموعة رسائل وكُتَيِّبات، نُشرت فيما بعد في مجلد واحد تحت عنوان آفات على الطريق وذلك في 870 صفحة، وهو يتناول آفات آخلاقية وسلوكية يُواجهها الإنسان المسلم في حياته، وتُهدد مجتمع الدعوة، والمجتمع المسلم بشكل عام.
ومن هذه الآفات؛ الفتور، وفوضى الوقت، والغيبة، والنميمة، وسوء الظن، والاستعجال والتسويف، واتباع الهوى، إضافة إلى قيم سلبية الأخرى تخص النشاط الحركي والدعوة. ومن الطبيعي أن يكون توضيح هذه المعالم ضرورة لا مفر منها، ولا محيص عنها، لذا يطيب لنا أن نعرض لبعض هذه الآفات وأسبابها وعلاجها.
منهجية كتاب آفات على الطريق
لقد استند مؤلف كتاب آفات على الطريق إلى منهجية واحدة في كلٍّ الموضوعات؛ حيث بدأ بتعريف المفهوم الذي يتناوله، لغةً واصطلاحًا، ثم تناول أسباب الآفة، وعلاماتها، وآثارها السلبية، على الفرد والمجتمع المسلمَيْن، وعلى العمل الإسلامي والعاملين فيه، وكيفية التعامل معها، ومعالجتها على المنهج الإسلامي.
وتطبيقًا لهذا المنهج نشير إلى الآفة الأولى التي يتناولها الكتاب، وهي الفتور، إذ يعني في اللغة الانقطاع بعد الاستمرار أو السكون بعد الحركة، وكذلك الكسل أو التراخي أو التباطؤ بعد النشاط والجد. أما في الاصطلاح فهو داء يُمكن أن يصيب العاملين، وأدناه الكسل أو التراخي أو التباطؤ، وأعلاه الانقطاع أو السكون بعد النشاط الدائب والحركة المستمرة.
وأسباب هذه الآفة تكمن في: الغلو والتشدد في الدين، والسرف ومجاوزة الحد في تعاطي المباحات، ومفارقة الجماعة، وإيثار حياة العزلة والتفرد، وقلة تذكر الموت و الدار الآخرة، والتقصير في عمل اليوم و الليلة، ودخول جوفه شيء محرم أو به شبهة، واقتصار العامل على جانب واحد من جوانب الدين.
ومن الأسباب: الغفلة عن سنن الله في الكون والحياة، والتقصير في حق البدن بسبب ضخامة الأعباء وكثرة الواجبات وقلة العاملين، وعدم الاستعداد لمواجهة معوقات الطريق، وصحبة ذوي الإرادات الضعيفة والهمم الدانية، والوقوع في المعاصي والسيئات ولاسيما صغائر الذنوب مع الاستهانة بها.
وللفتور آثار ضارة، ومهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي، فبالنسبة للعاملين، يتسب الفتور في قلة رصيدهم- على الأقل – من الطاعات، وربما قبض أحدهم وهو فاتر كسلان، فيلقى الله مقصرًّا مفرطًا، ومن آثاره على العمل الإسلامي، طول الطريق، وكثرة التكاليف والتضحيات، إذ مضت سننه سبحانه: ألا يعطي النصر والتمكين للكسالى والغافلين والمنقطعين.
ولما كان الفتور يؤدي إلى الآثار والمخاطر التي ذكرنا لزم التحرز والتطهر منه ويستطيع العاملون ذلك عن طريق البعد عن المعاصي والسيئات كبيرها وصغيرها، والمواظبة على عمل اليوم والليلة، وترصد الأوقات الفاضلة والعمل على إحيائها بالطاعات، والتحرر من التشدد والغلو في دين الله، ودفن النفس في أحضان الجماعة، والانتباه إلى سنن الله في الإنسان والكون، والوقوف على معوقات الطريق من أول يوم في العمل، وصحبة الصالحين المجاهدين من عباد الله، وغيرها من طرق للعلاج.
رسائل تربوية من كتاب آفات على الطريق
ويحمل كتاب آفات على الطريق العديد من الرسائل التربوية التي يجب على كل مسلم، خصوصًا العاملين في الحقل الدعوي، الانتباه إليها، ومنها:
- الأسرة هي المسؤولة عن ظهور آفة الإسراف في النشء، إذ إن المسلم قد ينشأ في أسرة حالها الإسراف والبذخ فما يكون منه سوى الاقتداء والتأسي إلا من رحم الله، ولا بُد أن يدرك الوالدان بعض الأسرار التي من أجلها حذر الشارع الحكيم من الدنيا وأوصى بأن يكون النيل منها بقدر.
ولأن آثار الإسراف وخيمة، فلا بد من علاجه بالتفكر في آثاره وعواقبه، والحزم مع النفس بفطمها عن شهواتها ومطالبها، ودوام النظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته.
- الاستعجال آفة كبيرة: يقول الله- عز وجل-: {وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11]، ومن آثاره أنه قد يؤدي إلى الفتور، ومن أسبابه الدافع النفسي، أو الحماسة الإيمانية، وطبيعة العصر، وواقع الأعداء، وشيوع المنكرات مع الجهل بأسلوب تغييرها، والعجز عن تحمل المشاق، ومتاعب الطريق، والظفر ببعض المقدمات، أو ببعض الوسائل مع عدم تقدير العواقب، وغيرها من أسباب.
وعلاج هذه الآفة، إمعان النظر في الآثار والعواقب المترتبة على الاستعجال، ودوام المطالعة في سنة النبي- صلى الله عليه وسلم- وسيرة أصحابه الكرام، وعدم الرهبة أو الخوف من تسلط الأعداء وإحكامهم القبضة على العالم الإسلامي، ومجاهدة النفس وتدريبها على ضرورة التريث والتأني والتروي.
- العزلة أو التفرد: ومن أسبابها الوقوف عند بعض النصوص الشرعية المرغبة في العزلة مع الغفلة عن موقعها من النصوص الأخرى الداعية إلى حياة الجماعة. وعلاجها يتمثل في الفهم التام للعلاقة أو الصلة القائمة بين النصوص الشرعية المرغبة في العزلة والأخرى الداعية إلى مخالطة الناس ولزوم الجماعة، والفهم التام للظروف أو الأسباب التي دعت بعض السلف إلى العزلة أو التفرد، ومجاهدة النفس وأخذها دومًا بالشدة والحزم، وإدراك أن أعداء الله من الكافرين والمنافقين يتعاونون فيما بينهم ويعملون لضرب الإسلام مجتمعين لا متفرقين.
- الإعجاب بالنفس: آفة يُصاب بها بعض العاملين وعليهم أن يعملوا جاهدين على مداواة أنفسهم وتحريرها بل والاحتراز والتوقي منها، ومن أسبابها: التنشئة الأسرية التي تؤدي إلى هذا الأمر، والإطراء والمدح في الوجه دون مراعاة للآداب الشرعية المتعلقة، وصحبة نفر من ذوى الإعجاب بأنفسهم، والوقوف عند النعمة ونسيان المنعم، والإفراط أو المبالغة في التوقير والاحترام، ومن علاج ذلك: التذكير دائماً بحقيقة النفس الإنسانية، والتذكير دائما بحقيقة الدنيا والآخرة، والتفكر في الموت، الإطلاع على أحوال المرضى وأصحاب العاهات بل والموتى، وتعريض النفس بين الحين والحين لبعض المواقف التي تقتل كبرياءها وتضعها في موضعها الصحيح.
آفات مدمرة للنفس
وشمل كتاب آفات على الطريق على آفات مدمرة للنفس، لعل من أبرزها الرياء أو السمعة، وهي من أخطر الآفات وأشدها فتكًا بهم وعليهم أن يجاهدوا أنفسهم فورًا للتخلص والتطهر منها وإلا ضل سعيهم في الدنيا والآخرة.
وعلاجها يتمثل في: تذكر عواقبها الدنيوية والأخروية، والانسلاخ من الصحبة المعروفين بالرياء أو بالسمعة، ومعرفة الله- عز وجل- حق المعرفة، ومجاهدة النفس، ورفق ذوي المسؤولية في المحاسبة، والالتزام بأدب الإسلام في المعاملة فلا غلو في الاحترام والتقدير، والوقوف على أخبار المرائين، ومعرفة عواقبهم، ودوام النظر أو السماع للنصوص المرغبة في الإخلاص، ومحاسبة النفس أولاً بأول للوقوف على عيوبها، واللجوء التام إلى الله، والاستعانة به.
- اتباع الهوى: وهي من الآفات التي اكتوى العمل الإسلامي بنارها، وعلاجها في الوقوف على سير أصحاب الأهواء وعاقبتهم، والوقوف على سير وأخبار من عرفوا بمجاهدة نفوسهم وأهوائهم وإلزامها بحدود الله، والتحذير من الركون إلى الدنيا والاطمئنان بها، والاستعانة الكاملة بالله- عز وجل- فإنه سبحانه يعين من لجأ إليه ولاذ بحماه، ومجاهدة النفس، وحملها قسرًا على التخلص من أهوائها وشهواتها والتذكير بأن السعادة والراحة والطمأنينة والفوز، في اتباع المشروع، لا في اتباع ما تملي النفس وما تهوى.
- التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة: وهي آفة خطيرة، يُبتلى بها نفر من العاملين ولا يكاد يسلم من شرها العمل الإسلامي، وهي مذمومة ومنهي عنها، بل عليها الوعيد الشديد إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّا وَاللَّهِ لا نُوَلِّي علَى هذا العَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عليه” (مسلم). ومن أسبابها: الرغبة في التحرر من سيطرة وسلطان الآخرين، والرغبة في تحصيل عرض من أعراض الحياة الدنيا، والغفلة عن تبعات الصدارة والريادة، والغفلة عن عواقب التقصير في الصدارة والريادة، والرغبة في التسلط وإذلال الآخرين.
وعلاج هذه الآفة، يتطلب: دوام النظر في السنة النبوية، ودوام التذكير بتبعات هذا الأمر وعواقبه الدنيوية والأخروية، والتعويد على الطاعة وهضم النفس منذ نعومة الأظافر، والتذكير بمكانة ومنزلة الدنيا من الآخرة.
- ضعف أو تلاشى الالتزام: وهي من الآفات التي يبتلى بها نفر من العاملين وتكون ذا أثر خطير عليهم وعلى العمل الإسلامي، ومن أسبابها: عدم الفهم أو عدم الإدراك لأبعاد ومعالم الالتزام، والوسط الضعيف الالتزام أو غير الملتزم، وضعف الإيمان، وإقبال الدنيا والتعلق بها، والمحن والشدائد، وكثرة الأعباء على طول الطريق، وغفلة الوالدين عن الأبناء، وعلاج هذه الآفة يسلتزم الإدراك الذهني بل والقلبي لأبعاد ومعالم الالتزام، والتأكيد على دقة الالتزام من ذوي الأسوة والقدوة حتى يكون ذلك دافعًا لمن دونهم على الاقتداء والتأسي، والحرص على تجديد الإيمان وتقويته في النّفس.
- التفريط في عمل اليوم والليلة: وهي من الآفات التي يُبتلى بها الكثير من العاملين في الدعوة، ومن أسبابها، التلطخ أو التدنس بالمعصية، والتوسع في المباحات، وعدم إدراك قيمة النعم وسبيل الدوام، وضعف أو تلاشي التصور الصحيح لحقيقة أجر المواظبة على عمل اليوم والليلة، ونسيان الموت وما بعده من أهوال وشدائد، وظن بلوغ الكمال، وكثرة الأعباء و الواجبات، وعلاج ذلك يحتاج إلى: معايشة الكتاب والسنة ففيهما صورة صادقة لثواب الطائعين، وعقاب العاصين، والتحرر من المعاصي و السيئات، سيما الصغائر فإنها سم قاتل، والتوسط في تعاطى المباحات، سيما المطاعم والمشارب، ومحاولة التوفيق بين المواظبة على عمل اليوم والليلة والقيام بالواجبات الأخرى.
سوء الظن والغيبة والنميمة والتسويف
ويأتي ضمن آفات على الطريق، سوء الظن والغيبة والنميمة والتسويف والتشاؤم وآفات أخرى، وعن أسباب الظن، سوء النية وخبث الطوية، والتنشئة غير السوية، والبيئة التي تعرف بسوء الخلق، واتباع الهوى والوقوع في الشبهات، وعلاج هذه الآفة يحتاج إلى بناء عقيدة سليمة، وتنشئة على الالتزام بالآداب الإسلامية في الحكم على الأشياء، وترك السرائر إلى الله، ومجاهدة النفس وقمع الهوى والشبهات.
والغيبة من الآفات التي لا يكاد يسلم منها أحد، ومن أسبابها، عدم التثبت أو التبين، والغضب والبيئة المحيطة بالإنسان، والحسد والإعجاب بالنفس حد الغرور، ومحاولة تبرئة النفس من التهمة والعيب، والمزاح والتفكه، وعلاج تلك الآفة يحتاج إلى مراقبة النفس، والتأكد من أن كل ما يتفوه به الإنسان مسجل عند الله وسيحاسب عليه، التثبت والتبين في الحكم على الأشياء، وكظم الغيظ.
والنميمة، آفة كادت تأتي على الأخضر واليابس، ومن أسبابها، الحسد ومحبة الشر للناس، والتملق لدى ذوي الوجاهة، والترويح على النفس، وعدم قيام الأمة بواجبها نحو النمام بل استحسان عمله، ونسيان الله والدار الآخرة، ومن علاج هذه الآفة، المبادرة بعدم تصديق النمام، وبغضه في الله، تربية ملكة تقوى الله، اليقين التام بأن ما عند الله لا ينال بالمعصية، دوام النظر في سيرة السلف، والتذكير بعواقب النميمة.
- ومن آفات الطريق، التسويف ومن أسبابه، الأسرة التي تدلل أطفالها بإفراط، وصحبة الكسالى والمسوّفين، وضعف الإرادة، وأمن مكر الله، وطول الأمل مع نسيان الموت، والتعويل على عفو الله، ويحتاج العلاج إلى أخذ النفس بالحزم وقوة العزيمة، وتذكير النفس دومًا بأن التسويف عجز وضعف، والدعاء باستمرار بالتحرر من هذه الآفة، والانسلاخ من صحبة الكسالى.
- والتشاؤم داء وآفة خطيرة، ومن أسبابها: عدم معرفة الله- عز وجل-، حق المعرفة، كذلك النفس، والكون المحيط بنا، والعدو على حقيقته، وكثرة المحن والابتلاءات، والغفلة عن طبيعة الصراع بين الحق والباطل، وعلاج ذلك يحتاج إلى الانسلاخ من صحبة المتشائمين، والتبصير بواقع الأعداء، والتعريف بالله حق المعرفة، وكذلك النفس والكون.
والتنافس على الدنيا، آفة خطيرة، ومن أسبابها: الغفلة عن أن حظوظ الدنيا تجري بمقادير، وكذلك بسبب الغفلة حقيقة الدنيا، والعيش في وسط حريص يتنافس الدنيا، والاستعلاء والتكبر في الدنيا بغير الحق، وعلاج ذلك يتطلب، اليقين التام بأن حظوظ الدنيا تسير بقدر، والبصيرة بحقيقة الدنيا، أن نرى الدنيا ليست مجالًا للتنافس، والتخفيف من طول الأمل، دوام تذكر الموت.
ومن الآفات الخطيرة، الشماتة التي تعمق الكراهية والبغض والعداوة وتقطيع أواصر الأخوة، ومن أسبابه الأسرة التي يشيع فيها هذا الداء فيؤثر على النشء الصغير، وأصدقاء السوء، والتعود على مقابلة السيئة بمثلها، والاستذلال والقهر، ونسيان العواقب المترتبة على الشماتة، وعلاج ذلك في أن تقوم الأسرة بواجبها التربوي، البعد عن الأصدقاء الشامتين، الحرص على المعاملة بالعدل، والمواظبة على محاسبة النفس، والنظر الدائم في سير الصالحين.
المصادر والمراجع:
- ابن قدامة المقدسي: مختصر منهاج القاصدين، ص 247، 248.
- محمد أحمد الراشد: العوائق، ص 57.
- ابن القيم: الجواب الكافي، ص 57.
- المناوي: فيض القدير، 1/ 288.
- الغزالي: إحياء علوم الدين، 3/ 153، 154.
- عبد الرحمن الباشا: صور من حياة التابعين، 1/ 138-144.
- ابن عطية الأندلسي: التحرير الوجيز، 11/424.