تحل على المسلمين كل عام ذكرى الإسراء والمعراج، فيستذكرون كيف عاش النبي صلى الله عليه وسلم فترة عصيبة في هذا الوقت، حيث كذبه قومه، وحاربوا دعوته، وآذوا أتباعه، وحرضوا عليه سفهاءهم يقذفونه بالحجارة، ونعتوه بالكذب والخيانة، وعزلوه وعشيرته في شعب أبي طالب طيلة ثلاث سنوات، وحالوا بينه وبين حجاج البيت الحرام، وعمدوا إلى منعه من الصلاة في الكعبة، بل ألقوا عليه -صلى الله عليه وسلم- سلا الجزور، وحاولوا قتله، وزاد من الهم النفسي والابتلاء وفاة أهم سندين له وهما زوجته السيدة خديجة – رضى الله عنها – وعمه أبو طالب الذي كان يعد حائط الصد بينه وبين قريش.
وحينما لجأ إلى الطائف داعيا ومنقذا، رأى من أهلها السوء والشر والنكران، حتى أنه صلى الله عليه وسلم كان يسرع الخطى وهو يتلقى الحجارة من سفائها حتى أدميت قدماه الشريفتان، ولم يجد مفرا إلا الاختباء في حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فدخل البستان يلوذ به، ويحتمي بشجراته من الضرب والمطاردة، وهو الذي جاء إليهم منقذًا، فجلس إلى شجرة عنب وكأنما هي المرة الأولى التي يجلس فيها بعد سنين، فقد أعياه الضرب والركل، ودماء شريفة تنزف من وجهه الكريم، ومن قدمه الشريف، فضلاً عن ذلك الجرح النفسي في قلبه الصديع المكلوم، والأسى الذي ينكأ جروح الماضي، فإذا بخير البرية – صلوات الله وسلامه عليه – يتوجه إلى ربه ضارعًا، خاشعًا، رافعًا يديه إلى السماء، مناجيًا ربه، معتذرًا إليه، متحببًا إليه، بكلمات كريمة، بدعاء صادق نابع من أعماق قلبه الحزين، قد امتزجت كلماته بحرقة وجدانه المكسور:
“اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك” [ابن هشام 1/ 420]
لقد كانت إصابته النفسية كبيرة، وبلاؤه عظيمًا إلى الدرجة التي نراه لأول مرة يشكو إلى الله قلة حيلته وضعف قوته وهوانه على الناس.
لقد عاد إلى مكة بعد رحلة عصيبة على النفس، بعد أن تكالبت عليه الأحزان، فما أن بلغها حتى مُنع من دخولها فزادت من محنته النفسية وبلائه حتى جاء المطعم بن عدي ونادى على أبنائه أن البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدًا.
كيف أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة؟
كيف قضيت يا حبيب الله ليلتك وأنت تتذكر الأحداث التي مرت بك؟
كيف كانت دمعاتك التي تساقطت وأنت ترفع أكف الضراعة إلى مولاك – وهو يعلم حالك سبحانه؟
لقد سطرت لنا من بعدك أن الشدائد تصنع الرجال، وأن الله سبحانه لن يترك عباده ما داموا مستمسكين بجنابه.
لقد عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أشد الحاجة لمن يجدد نفسيته، ويخفف همه فكان ملجؤه إلى البيت الحرام.
عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الروح حتى جاءه جبريل – عليه السلام – وهو نائم في الحجر فأخذ بيده في طريق طويل قصير لإزالة ما علق به من شجون.
لقد أراد الله – سبحانه- أن يجعل من هذه الرحلة تفريجا للكرب، وقد كانت.. فما إن بلغ سدرة المنتهى حتى عاد النبي صلى الله عليه وسلم بمفرج الكروب – ليس له وحده ولكن لأمته من بعده – عاد وهو يحمل تكاليف الصلاة التي أصبحت بمثابة تفريج الكرب لكل من حذقه أمر أو تكالبت عليه الدنيا والمظالم، وسطرها الحبيب بقوله لبلال: [يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها] (رواه أبو داود).
كيف نفهم سنة الابتلاء؟
لقد كتب الله سبحانه البلاء على بني آدم لينظر من يصبر ممن يقنط ويسخط، فليس البلاء خاص بأمة من الأمم، أو طائفة أو جماعة لكنه للناس عامة ليتعرفوا على نعم الله وليزداد المؤمن إيمانا بربه ولجوءا إليه، قال تعالى: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(العنكبوت 2- 3)، وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء: 35]
فالابتلاء والمحن والشدائد مِنَحٌ من الله عز وجل، وقد ابتلي الأنبياء والمرسلون وصالح المؤمنين على مر التاريخ، قال تعالى: {ولَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ ولَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [سورة محمد الآية4]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتدَّ بلاؤُه، وإن كان في دينه رقةً، ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاءُ بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» (رواه الترمذي).
كما أن الابتلاء والمحن والشدائد تكشف معادن الناس، ففيها يتميز المسلمُ الصادق عن المنافق، ويظهر الناسُ على حقيقتهم، ويظهر المنافقون على حقيقتهم قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [سورة الأنفال الآية37].
وهنا يجدر الإشارة إلى أن الابتلاء إذا أصاب الإنسان الصالح مع الطاعات التي يؤديها، فغالب الظن أن الله تعالى يبتليه ليرفع من درجاته ومنازله في الجنة، أما الابتلاء إذا ما اقترن بذنوب يقترفها الإنسان، فقد يكون ذلك تكفيرا لهذه المعاصي حتى يتوب فاعلها إلى الله تعالى ويستغفر فيمحو الخالق عز وجل إثم المعصية التي ارتكبها.
كيف تقوي الشدائد من عزيمة الرجال؟
يقول أحد الصالحين: في كل محنة خير، وفي كل شر خير، ولا يوجد على الإطلاق شر محض، بل في كل محنة منحة، وفي كل ابتلاء دروس، وإن غابت عنا الحكمة فالله يعلمها؛ لأنه هو الذي قَدَّرَ وقَضَى بعلم وحكمة.. إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ما صار إماماً لأهل السنة إلا بعد المحنة، وما عُرف بأنه إمام من أئمة الصبر، وبأنه جبل من جبال الثبات على الحق، إلا بعد المحنة، فالمحن تُظهر المخبوء في الصدور؛ لأن الإنسان في حال الرخاء والسعة قد لا يعرف خبايا نفسه.
فقد سُجن الامام أحمد ثلاثين شهراً، وضُرب بالسوط، من أجل أن يقول: (إن القرآن مخلوق) ، فَأَبَى، وثبت كثبات الجبال الرواسي فصار بعد المحنة إماماً لأهل السنة، حتى قال إمام الجرح والتعديل علي بن المَديني رحمه الله تعالى: “لقد أَعَزَّ الله الدين بـأبي بكر يوم الردة، و بـأحمد بن حنبل يوم المحنة”.
فالسبب وراء فشل الكثيرين ليس غياب الرؤيا بل غياب العزيمة والإيمان والغاية التي من أجلها يضحي كل إنسان.
ورحلة الإسراء والمعراج كانت نموذجا لصناعة الرجال، فمع كونها سلوى لرسول الإسلام إلا أنها كانت كاشفة و ممحصة لقلوب المؤمنين والمشركين على السواء.
لقد فكر أول ما فكر به المشركون بعدما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة رحلته أن اتجهوا دون غيره من المسلمين ليطلعوا على ما يقوله صاحبه في محاولة لزعزعة إيمانه، لكن فاجأهم بثباته دون تردد أو تشكك [قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنَّه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: نعم، إني لأصدقه ما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة](رواه الحاكم).
ومع ذلك فقد ارتد العديد ممن أسلموا ظاهرا لأن الغاية الربانية لم تثبت في قلوبهم، ولا الثقة في القيادة المحمدية الذي يأتيه الخبر من السماء، كانت قد ترسخت في قلوبهم.
ما بين شدائد الواقع ونفحات الله
لطائف الله كثيرة، والله من أسمائه اللطيف، ولقد ابتلى الله أكرم الخلق إليه وهم الأنبياء فنبي الله يوسف – عليه الصلاة والسلام – مر بمراحل ابتلاء عظيمة ورأى لطف الله فيها، مر بفتن وبلايا ومحن متتابعات ومع ذلك يقول: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
ورسول الله محمد – صلى الله عليه وسلم – مر بمحن كثيرة حتى أنه بكا ودعا ربه [أشكو إليك ضعف فقوتي] فكان لطف الله به برحلة الإسراء والمعراج التي شددت من أزره ونفست عما في نفسه.
ومن اللطائف أن الله يرزقنا الثبات والطمأنية واليقين والصبر والحلم والرضا والتسليم بقضاء الله وقدره وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطئنا لم يكن ليصيبنا.
ومن لطف الله استشعارنا لعظمة الله وقدرته في مخلوق صغير من مخلوقاته لا يرى بالعين المجردة كيف توقف بسببه كل شيء.
أنت مسلم بين يدي الله
المسلم يربي نفسه وأولاده ووطنهم على أن البلاد لابد منه لكن لطف الله يصاحبه، فإذا ابتليت بمصيبة أو بضيق أو وباء أو فتنة، فانظر إلى لطائف الله فستجدها كثيرة، وانظر إلى من أصيب بأشد من مصيبتك حتى تعرف نعمة الله عليك.
فحال المسلم عند البلاء هو الصبر والتسيلم التام والاسترجاع والرضا وعدم التسخط، قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 155).
وعلى المسلم إذا نزل به البلاء أن يحسن الاستعانة بالله واستحضار طلب العون منه في جميع أموره قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} (الأعراف: 128).
كما أمر الله سبحانه عباده بالدعاء وجعَله هو العبادة، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
يقول ابن القيم -رحمه الله-: «فاللهُ يبتلي عبده ليَسْمَع تضرعَه ودعاءَه والشكوى إليه، ولا يحبّ التجلُّد عليه، وأحبُّ ما إليه انكسارُ قلبِ عبده بين يديه، وتذلُّـله وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلّة صبره، فاحذر كلّ الحذر من إظهار التجلّد عليه، وعليك بالتضرّع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذلّ والضعف، فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم».
أخيرا
لم تكن رحلة الإسراء والمعراج مجرد تخفيف لكرب رسول الله أو علاج لنفسيته التي ألم بها كل أنواع القهر والظلم والاضطهاد، لكنها كانت أيضا علاجا لقلوب أمته وتعليما لمن أتى بعده واقتفى أثره وسار على منهاجه صلى الله عليه وسلم، كيف يواجهون المحن والبلاءات بالرضا وبالقرب من الله، لا بالسخط ونسيان الله وترك التوكل عليه واللجوء إليه.