تتجلى في الآيات التي حكى الله سبحانه وتعالى فيها عن حوار دار بينه وبين خليله إبراهيم عليه السلام الكثير من الدروس التربوية والمواقف التعليمية التي يجب أن ينتبه إليها الدعاة والمربّون ويستأنسوا بها في رحلتهم التربوية. فالقرآن الكريم هو أجَلّ المسارات التي يجب أن يعتمد عليها المربي في استخلاص الدروس والمناهج والطرق التربوية.
فالله سبحانه وتعالى هو رب العالمين، وهو الذي يربيهم، وقد حكى سبحانه في كتابه العزيز عن كثير من القصص والحوارات التي دارت بينه سبحانه وبين أنبيائه ورسله، والمقصد من تلك القصص والحوارات أن ينتبه المسلم والداعية والمربي إليها ويستلهم منها الطريق ويستخرج منها الدروس، فيطمئن أنه يسير على منهج الجادة الذي أراده الله سبحانه وتعالى وأرسل به أنبياءه. وفي هذا الموضوع سنتناول السياق الذي نزلت فيه تلك الآيات وتم فيه هذا الحوار، وكذلك سنتناول مجموعة من الدروس التربوية المستخلصة منه.
السياق وسبب النزول
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} {البقرة: 260}.
يقول الشيخ الطاهر بن عاشور إن هذه الآيات هي أحد أدلة ثلاث استعرض الله سبحانه وتعالى بها ولايته لعباده المؤمنين بإخراجهم من ظلمات الشبهات والشك إلى نور اليقين والبرهان والحق. فإن هذه الأدلة الثلاثة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} {البقرة: 258}، ثم آية: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ} {البقرة: 259}، ثم آية: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ} {البقرة: 260} التي أعقبت قول الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {البقرة: 257}. جميعها جاء لبيان وجوه انجلاء الشك والشبهات عن أولياء الله تعالى الذين صدق إيمانهم.
ومع ظهور معنى الآيات إلا أن السلف الصالح قد اختلفوا في سبب سؤال إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى. وفي هذا ذكر شيخ المفسرين الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسيره اختلاف السلف في سبب سؤال إبراهيم عليه السلام، ويمكن تلخيص ما ذكره في أربعة أقوال:
- القول الأول: أنه سأل هذا السؤال بغرض الحصول على عين اليقين، بعد أن توافر في قلبه علم اليقين.
- القول الثاني: أن هذا السؤال بسبب المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين النمروذ في ذلك، حيث تاق قلبه لمعاينة الإحياء، من غير شك.
- القول الثالث: أن هذا السؤال ليطمئن قلب إبراهيم باصطفاء الله له خليلًا، فسأل ربه أن يريه علامة عاجلة تدلُّ على ذلك.
- القول الرابع: أنَّه عليه السلام شكَّ في قدرة الله على إحياء الموتى، علمًا أن (الشك) هنا ليس هو الشك الذي يذكره الأصوليون، والذي يعني التوقف بين أمرين ولا مزية لأحدهما على الآخر، كما نبَّه إلى ذلك ابن عطية رحمه الله، وإنما هو الخواطر الشيطانية العارضة.
ثم قال الطبري رحمه الله: “وأولى هذه الأقوال هو القول الرابع بتأويل الآية مع ما صحَّ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» (رواه البخاري ومسلم)، أي: أنه صلى الله عليه وسلم قدْ أرادَ بذلك القول المُبالَغةَ في نَفْيِ الشَّكِّ عن نبيِّ اللهِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، أي: إذا كنَّا نحْن لا نَشكُّ في قُدْرةِ اللهِ على إحْياءِ الموتَى، فإبراهيمُ أَوْلَى بعَدمِ الشَّكِّ، وإنَّما سَأَل إبراهيمُ ربَّه أنْ يُرِيَه كَيف يُحْيي الموتى عِيانًا ومُشاهَدةً؛ ليَطْمَئنَّ قَلْبُه، كما قال: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]؛ لأنَّه أَبْلَغُ في اليَقِينِ.
وعليه فإن ظاهر سؤال الخليل يدل على وجود خواطر شيطانية عارضته في قلبه عليه السلام، وأنه بسؤاله يريد أن يطمئن قلبه حتى لا تغلبه تلك الخواطر العارضة. ومن خلال سؤال خليل الرحمن ربه أن يريه كيف يحيي الموتى وجواب الرحمن سبحانه وتعالى عليه، يمكن استخلاص مجموعة من الدروس التربوية الهامة، ويمكن الإشارة لذلك من خلال النقاط التالية.
الدروس التربوية في الحوار بين الرحمن وخليل الرحمن
الدرس التربوي الأول: دواء العي السؤال
إِنَّ الخواطر والشبهات والوساوس والأفكار، مهما تعاظمت و عارضت المقطوع به، فهي مما يتسلط به الشيطان على عباد الله الصالحين، مهما علت منازلهم. فهم بحاجة دائمة إلى التخلص منها ببرد اليقين ومعاينة الحقيقة، ودوام السؤال، لا الكبت ولا الإعراض، ولا الاستدلال بوجودها على سوء حال حاملها. فهذا إبراهيم عليه السلام، كما يقول عطاء بن أبي رباح: “دخل قلبه بعض ما يدخل قلوب الناس”، أي من الخواطر والوساوس الشيطانية. ورغم جلل هذه المسألة ـ لأنها غيبٌ لا يعلمه إلا الله، ولا يدرك كنهه إلا هو سبحانه، والإيمان بالغيب من أعز صفات المتقين ـ إلا أنها بدرت من رجلٍ كريم على الله قد اتخذه الله خليلًا لما حلَّ بقلبه من الإيمان والتجرد والصدق مع الله سبحانه. وهي تنبئ عن وجود خاطرٍ في القلب لا يصدر عادة ممن كمل إيمانهم، ولذلك جاء الاستفهام عقب مسألة إبراهيم عليه السلام مباشرة: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} {البقرة: 260}.
فإن إبراهيم عليه السلام قاوم الخاطر بالسؤال والعارض بالبحث عن الحقيقة ولم يستسلم لوساوس الشيطان، فإنما دواء العي السؤال.
الدرس التربوي الثاني: إيجابية التعاطي حكمة
إن التعاطي الإيجابي مع أولئك الذين طفت على قلوبهم خواطر ووساوس وأفكار لا ينبغي أنْ تصدر من أمثالهم، يجب أن يُغلف برحمة وعطف وحجة بينة ومصداقية في الطرح، لتزول هذه الوساوس والأفكار عن قلوبهم بالكلية، وليندحر الشيطان اللعين. فالله سبحانه وتعالى لم ينهر إبراهيم عليه السلام أو يجافه أو يلومه على سؤاله في مسألة هي من جوهر العقيدة، إنما تعاطى الله سبحانه وتعالى مع سؤال خليله بعطف ورحمة وحجة بيِّنة. وكأن الله سبحانه يرشد الآباء والمربين إلى طريق التعامل مع هذه الأنواع من المواقف التربوية والأسئلة، ويرشدهم إلى عدم صواب كبت ونهر من يسأل ويبحث عن الحقيقة.
هناك الكثير من الآباء والقادة والمعلمين الذين يتهمون من يكثر سؤاله بالكبت، ويكونون عنه تصورات ذهنية وأحكامًا غير صحيحة، مما يؤثر عليه تأثيرًا سلبيًا قد يدفعه إلى عدم التلقي منهم أو السير في طريقهم. ولعل خير مثال على ذلك هو التعاطي الإيجابي للنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه ذلك الفتى الشاب فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: «ادْنُهْ»، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ. قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ. قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ. قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ. قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ. قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ»، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ»، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ (رواه أحمد؛ والطبراني بسند صحيح).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن مجرد القوة في التعامل مع الإشكالات الوجدانية والفكرية ليست حلًا، كما أن استخدام السلطة وحدها لوقف هذه الإشكاليات لا يؤدي إلى نتيجة جيدة.
الدرس التربوي الثالث: الحوار لغة التربية
الحوار هو التعاطي الحقيقي لمسألة ما، حيث يتحدث طرفان أو أكثر في هذه المسألة، ويجيبون عن إيرادات بعضهم البعض بسلاسة وسعة صدر، مستصحبين ذوقًا عاليًا وأدبًا جمًا، مريدين تحقيق نتيجة نزيهة. إنه التجاوب الدافئ المملوء بالرحمة والحب، إنه التحدث بكل ما يحمله صدرك من معطيات حول مسألة النقاش، والإنصات إلى كل ما يقوله الطرف الآخر حول هذه المسألة.
وهو من أكبر المظاهر الدالة على أن المسار التربوي يتجه نحو تحقيق الهدف، بل إنك لتستدلُّ على جودة تربية الأبناء بمجرد رؤيتك لأبيهم وهو يحاورهم. بل إن الاستدلال بوجود الحوار على صحة المسار التربوي عند المعلِّم الذي يحاور تلاميذه أقوى، لأن الرحمة والحب مغروسان بالفطرة عند الوالدين، بينما هما فضلٌ في المعلِّم، فإنَّ المعلِّم المربي يتقمص دور الوالدين في الرحمة والحب، فيجد نفسه بين تلاميذه أبًا رحيمًا وأمًا حنونًا وأخًا كبيرًا، يستمع إلى كلامهم ويعالج أفكارهم ويناقش شبهاتهم ويوضح ما التبس عليهم ويدمغ وساوسهم بالحجة الواضحة، دون عناء ولا ملل، ودون كبت ولا عزل، ودون تصنيفٍ ولا تأطير. لذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» (رواه البخاري)، حتى لا يجنح أحدٌ إلى التصنيف بمجرد عرض الشكوك والشبهات.
لقد كان الرد الرباني على مسألة إبراهيم عذبًا تلمس منه رحمة الله وحبه اللذين من خلالهما وجد إبراهيم عليه السلام منفذًا إلى سؤال الله سبحانه هذه المسألة العظيمة، وما كان لإبراهيم أنْ يفعل ذلك لولا سعة إدراكه برحمة الله له وحبه إياه. فتخيل إبراهيم الخليل يسأل الرحمن سؤالًا، ثم الرحمن رب العالمين يسأله سؤالًا فيجيب إبراهيم، ثم يجيب الله تعالى على سؤال إبراهيم برد كافٍ وحجة واضحة، دون كبت أو معارضة. وفي هذا تجلت حكمة الله سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} {البقرة: 260}.
إن الاستبداد الفكري ومصادرة الرأي واختزال الصواب في وجهٍ واحد.. كل ذلك لا يصنع إلا طاغية ومجموعة من العبيد يلتفون حوله مسبحين بحمده، مقدسين لرأيه. إنه يكنس ما تبقى من ركام شخصية المتربين أو الأفراد داخل منظماتهم، فلا يبقى لهم كيانٌ يواجهون به المواقف والأحداث، ولا يثبت لديهم جَنان في الأزمات. سيماهم الأيدي المكتوفة والأفواه الفاغرة، تراقب بدهشة وتنظر بحسرة وتتعلق بالرمز. الخواطر الطافية إنْ بقيت دون معالجات فإنها ستتحول مع مرور الزمن وما يحويه من عوامل تعزيزية إلى رواسب فكرية تخل بالبناء التربوي أو التنظيمي -على حدٍّ سواء- وستنحت منهجًا التوائيًا لدى الأفراد.
وإن القرآن الكريم، وهو يتنزل بين وقت وآخر، كان يربي الناس على أن ينصتوا إلى بعضهم ويجيبوا عن تساؤلاتهم في جو من الرحمة والحب. حتى في الأمور التي قد تبدو محالة أو مستعصية على الفهم، أرشد القرآن الكريم إلى التعامل مع هذه الظروف برحمة وحب. وهذا ما رأيناه في الحوار بين الرحمن وخليل الرحمن.
عين الحكمة أن يتتبع كل مربي هذا النهج القرآني، وأن يقترب من تلك الدروس العظيمة التي تعلمناها من القرآن، في التعامل مع الشكوك والتساؤلات والخواطر التي قد تطرأ في النفوس.
المصادر والمراجع:
- التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور
- تفسير الطبري
- الجامع للقرطبي
- مسند الإمام أحمد
- المعجم الكبير للطبراني