مما لا يخفى على أحد أنّ الحرب صارت مُعلنة على الدين الإسلامي دون مواربة أو خجل، وأصبح ذوبان الداعية في المجتمع ظاهرة واضحة للعيان، بل بات الدعاة إلى الله يتوارون عن الأنظار خشية القتل أو الاعتقال، أو التهميش والانعزال.
وعندما يذوب الداعية في المجتمع تُصبح هويته مُهددة، وشخصيته أضعف، وينتقل هذا الضعف تلقائيًّا إلى دعوته نفسها، فيصبح أقل مصداقية وأقل تأثيرًا وأقل نجاحًا.
مظاهر ذوبان الداعية في المجتمع
وتتعدد مظاهر ذوبان الداعية في المجتمع، سيما أنّ الدعاة في المجتمعات الإسلامية يتعرضون لأكبر حملة لطمس المنهج الإسلامي، في مقابل دعاة وعلماء السلطان الذين يمتلكون قدرًا من العلم إلا أنهم يخدمون بها منهج ورؤية الغرب وأركان أنظمتهم.
لقد عاش الدعاة الذين انتقلوا للحبشة حياة غربة، ووسط مجتمع كافر، إلا أنهم أخذوا بالسبل وحافظوا على هويتهم وتميزهم، حتى إنهم أجبروا النجاشي بهذا التمييز أن يقول لعمرو وعبد الله بن أبي ربيعة: (انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا).
ولم تنجح السنوات الطوال في الحبشة في أن تغير المسلمين، أو تشوه عقيدتهم، أو تبلبل أفكارهم، لأنهم كانوا يتذكرون دائمًا أنهم أصحاب رسالة إلى العالم، جاؤوا ليغيروا الدنيا لا لتغيرهم الدنيا.
وفي عصرنا لا ينتبه البعض إلى الخط الفاصل بين الانفتاح على المجتمع والذوبان فيه، فيفاجئ من حوله، ويفاجأ هو نفسه، بأنه يكتسب سلوكيات وأفكار المفروض أنها لا تتفق مع دعوته وهويته، ومن مظاهر الذوبان ما يلي:
- ذوبان السلوكيات: لقد أصبحت مسايرة الموضة من مظاهر ذوبان الدُّعاة، وأصبح (الاستيل) الذي يعيش به الداعية لا بُد من أن يكون متحررًا، فيستخدم الكلمات (الإنجليش)، ويرتدي الملابس (الأفرنجية)، ويظهر بمظهر الداعية (المودرن).
ولقد نجح أعداء هذا الدين في تشجيع مظاهر الداعية (المودرن) الذي ينجح بلباقة حديثه عبر الفضائيات، غير أنّ سلوكياته تخالف صحيح الدين.
وقد رأينا دعاة يتزوجون بمتبرجات بل ويدافعون عن حجتهم بليّ الحقائق والنصوص القرآنية، وأصبحنا نرى بعض الدّعاة يرتادون أماكن اللهو بحجة الانخراط في المجتمع والالتصاق بهم، ونسوا أن يسر الدين فيما أحله الله وليس فيما حرمه الله.
- الألفاظ: ولقد بكت اللغة العربية من بُعد الدعاة عنها واستخدامهم العامية في خطبهم ومحاضراتهم، بل أصبح يتصدر الدعوة من لا يفقه اليسير من قواعد اللغة العربية، حتى أضفى عليهم الإعلام بالدعاة أو العلماء، وتنتقل هذه الألفاظ الغريبة من الفئات ضحلة الثقافة إلى الفئات المتعلمة من شباب الجامعات، حتى يتخرج الداعية لا ينكر منكرًا ولا يحرم حرامًا.
- الانهزامية النفسية: من المظاهر الخطيرة التي قد تصيب الدعاة الحقيقيين في ظل حالة التربص الدائم بهم، ومن ثمّ وجب على كل داعية أن يستشعر واجب المسئولية، وأن يربي النفس والآخرين على خلق التفاؤل، وأن لا يذوب في سلوكيات المجتمع مجاراة للواقع.
كيف نواجه ظاهرة ذوبان الداعية في المجتمع؟
ويمكن مواجهة ظاهرة ذوبان الداعية في المجتمع بالتسلع بأسباب ووسائل مهمة، تجعله قادرًا على التواصل مع المجتمع دون أن يتأثر سلبيًّا به، وهي:
- الروح الإيمانية العالية: وهي الحصن الحصين ضد الذوبان السّلبي في المجتمع، فالالتزام بالعبادات؛ من الصلاة في جماعة، وصلاة النوافل، وقراءة الأذكار والورد القرآني، وصيام السنن؛ هو الذي يعطى مناعة للمسلم ضد أي أفكار سلبية تفد إليه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].
- قوة الشخصية: لا يمكن أن يؤثر الداعية فيمن حوله إلا إذا كان متمتعًا بشخصية قوية، لا تقبل التنازلات ولا تنقاد لأفعال خاطئة تحت دعوى الإحراج والخجل، أو تحت مُبرر أن الكثرة تغلب الشجاعة، وقوة الشخصية لا تعني العصبية ولا المشاجرات المستمرة؛ بل تعني إبداء وجهة النظر بثقة وهدوء.
- العلم والثقافة: وذلك حتى يستطيع الداعية أن يتواصل مع المجتمع بكل أطيافه وتعدد آرائه، في الوقت نفسه الذي يحافظ فيه على هويته وشخصيته الملتزمة التي لا تقبل تهاونًا في حق الله، قال تعالى: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
- أن تكون العلاقة بعيدة عن العواطف الهوجاء: فلا بد أن يكون فيها نوع من العاطفة، ولكن ما يحدث في بعض الأحيان انقلاب العلاقة عن حد الاعتدال والوقار، لتنقلب إلى سعار لا يهدأ من العواطف الجياشة المتلفة لنفسية الطرفين، فهذه ألفاظ تغدق بغير حساب.
- أن تكون العلاقة بين الداعية والمدعو علاقة هداية وتعليم: فإن الداعية الحريص على المدعو يقتدي بحرص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الداعية العظيم الذي يقول الله في شأنه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم حريص عليكم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
صفات الداعية الناجح
ولا شكّ أنّ الالتزام بصفات الداعية الناجح، يُقلل من ظاهرة ذوبان الداعية في المجتمع، وتتلخص هذه الصفات في التالي:
- الإخلاص: وهو من أهم الصفات التي يجب أن يتحلّى بها الداعية ليقبلَ الله عملَه، فيقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إنما الأعمالُ بالنياتِ” (صحيح البخاري)، وإن ابتغى بدعوته جاهًا أو شهرةً أو مالاً فقد ذهبتْ هباءً منثورًا.
- الصبر: يجب أن يعلم الداعية إلى الله أنّ استقطاب الناس ليس بالأمر السهل، فربما يجد الإعراض والنفور والصدود وحتى الأذى والعِداء، وهذا من ابتلاء الله تعالى للدعاة واختبار مدى صدقهم وحبهم لله واستعدادهم لخدمة دينهم.
- العلم الصحيح: فلا يُمكن نجاح الداعية الجاهل غيرِ المتفقّه بأمور الدين، إذ يجب طلب العلم الشرعيّ ليستطيعَ الداعية إيصاله للناس، وأن يكون على بصيرة بالأحكام الشرعية بحلالها وحرامها، وعلى بصيرة بالأشخاص الذين يدعوهم من خلال معرفة أحوالهم، وعلى معرفة بالدعوة ووسائلها وأساليبها.
- التّحلي بالأخلاق الفاضلة: من صدق، وأمانة، وعفو، وحِلم، وكرم، وحسن معاشرة.
- القدوة الحسنة: يجب أن يكون داعية إلى الله بأفعاله قبل أن يكون داعية بأقواله؛ ليتأسى الناس به ويتقبّلوا دعوته.
- عدم الانتقام للنفس: فلا يغضب إلا لله، ولا ينفعل إلا إذا انتُهِكت حرمات الله.
- التواضع: صفة يجب أن يتصف بها الداعية قبل أن يدعو الناس إلى تطبيق دين الله تعالى، فالناس تنفر من المتكبر ولا تستجيب له.
- الرفق بالمدعوين والرحمة بهم ولين الجانب معهم، والتعايش معهم والتقرّب منهم لمعرفة همومهم ومشاكلهم.
إن ظاهرة ذوبان الداعية في المجتمع تمثل آفة تهدد الدعوة إلى الله، لذا لا بُد من كل داعية أن يصنع لديه مناعة تُحصنه من فيروسات المجتمع؛ فهو كالطبيب الذي يُعالج المجتمع من وباء منتشر، في الوقت الذي يحرص فيه جيدًا على ألا يُصاب بالمرض.
وعلى الداعية الناجح جرد ما قام به من أعمال دعوية؛ ودراسة جوانب النجاح، ونقاط الإخفاق، وسؤال الصادقين ممن هم حوله؛ واستشارة مَن هو أعلم منه وأسبق في العمل الدعوي؛ وكتابة خُطط المستقبل لأداء دَعوي أفضل، بعيدًا عن الانخراط الذي يؤدي به إلى التميع والانزلاق في سفاسف الأمور والانسلاخ من ثوب الداعية الوقور.
المصادر والمراجع:
- سلمان العودة: العزلة والخلطة، ص 50 و51.
- ذوبان الداعية في المجتمع.
- إشكالات في واقع الدعاة !.
- صفات الداعية إلى الله .