أثبت كثير من علماء التربية أنّ المدرسة تُسهم في إنجاح التنشئة الاجتماعية للطفل وتربيته أكثر من الأسرة في المجتمعات النامية، التي تنشغل عن الأبناء بكسب الرزق وغيرها من الأسباب، لذا فإن مهمة تثقيف الأبناء تُلقى بالأساس على عاتق المدرسة، التي تقدم المعارف والخبرات وَفق فلسفة محدودة تتمشى مع فلسفة الدولة وأهدافها، ومع متطلبات العصر الحديث.
وفي بحث للدكتور عبد الرحمن الهاشمي، والدكتورة فائزة محمد العزاوي، الأستاذين بجامعة عمان العربية للدراسات العليا، يريا أنّ المدرسة مؤسسة نظامية تستطيع أن تسد العجز في ضآلة الثقافة التي قد تعاني منها الأسرة في ظلال المعرفة المحدودة لديها في عصر تدفق المعلومات، أو في ضحالة ما تقدمه للطفل من معرفة وثقافة، سيّما في مرحلة الطفولة المبكرة من حياة الإنسان التي لها بالغ الأهمية، إذ إن المخ ينمو في تلك المرحلة بمعدل أعلى من نمو أي جزء آخر في الجسم.
أهمية المدرسة في التنشئة الاجتماعية للطفل
تُمثل المدرسة بيئة تربوية مبسطة؛ إذ ترى أنه من الضروري تبسيط ما في المجتمع ليستطيع التلميذ فهمه وتقبله في مراحل النمو المختلفة من خلال الأسلوب التدريجي أو التسلسل المنطقي، كما للمدرسة أدوار مهمة في هذا الصدد على النحو التالي:
- تعد بيئة تربوية متزنة متنوعة؛ فتحاول أن توجد نوعًا من التقارب بين مختلف التلاميذ ذوي المستويات الاجتماعية والثقافية والخلقية المختلفة وتحاول أن تقرّب بين أنماط سلوكهم لأجل تحقيق وحدة الأفراد.
- وهي بيئة تربوية متبدلة، فالتلاميذ والمعلمون والإداريون متبدلون.
- وإن عملية التنشئة الاجتماعية للطفل يجري فيها إخضاع الفرد لقيم المجتمع؛ لذا فالوليد البشري يجب أن يكسب قدرًا هائلًا من المعارف والمهارات التقليدية، ويجب أن يتعلم إخضاع نزعاته الغريزية للنظم والقواعد التي حددتها ثقافته؛ وذلك قبل أن يتبوأ مكانه كعضو بالغ في مجتمعه.
مفهوم التنشئة الاجتماعية للطفل وخصائصها
إنّ التنشئة الاجتماعية للطفل عبارة عن عملية تربية وتعليم هدفها تشكيل الشخصية من جميع الجوانب، سواء الروحية، أو العقلية، أو الجسمية، أو المعرفية، أو السلوكية، ونحوها، وفقًا لمعتقدات المجتمع وعاداته وتقاليده وأعرافه ونظم تفكيره.
وهي عملية إنسانية واجتماعية، يكتسب فيها الفرد تجارب الحياة من خلال طبيعته الإنسانية غير الفطرية التي تنمو من خلال الموقف عندما يُشارك الآخرين، فهي تهدف إلى تحويل ذلك الطفل إلى عضو فاعل قادر على القيام بأدواره الاجتماعية متمثلًا للمعايير والقيم والتوجهات.
والمدرسة، عبارة عن مؤسسة اجتماعية أوجدها المجتمع تُؤدي دورًا رئيسًّا في عملية التنشئة حيث تتدخل لتؤثر في الطفل وتوجه حياته وتشكلها في مراحلها المبكرة وتشترك مع المؤسسات الاجتماعية الأخرى في تشكيل قِيم الطفل ومعتقداته وسلوكه بحيث يتجه نحو النمط المرغوب فيه دينيًّا وخلقيًّا واجتماعيًّا.
ومن خصائص التنشئة الاجتماعية أنها:
- عملية اجتماعية قائمة على التفاعل المتبادل بينها وبين مكونات البناء الاجتماعي كما أنها تختلف من بناء اجتماعي اقتصادي لآخر، وتمتاز بأنها عملية مستمرة، حيث إن المشاركة المستمرة في مواقف جديدة تتطلب تنشئة مستمرة يقوم بها الفرد بنفسه ولنفسه حيث يتمكن من مقابلة المتطلبات الجديدة للتفاعل وعملياته التي لا نهاية لها.
- وهي عملية إنسانية واجتماعية، يكتسب الفرد من خلالها طبيعته الإنسانية التي لا تولد معه ولكنها تنمو من خلال الموقف عندما يشارك الآخرين تجارب الحياة.
- وتهدف إلى تحويل ذلك الطفل إلى عضو فاعل قادر على القيام بأدواره الاجتماعية متمثلا للمعايير والقيم والتوجهات، وهناك كثير من المؤسسات التي تلعب دورًا رئيسًا في عملية التنشئة: كالأسرة والمدرسة وجماعة الرفاق وأماكن القيادة والنوادي، ووسائل الإعلام، والوسائط الثقافية المسموعة والمكتوبة والمرئية.. كلها وسائط حتمية ومفروضة لعملية التنشئة.
- إن هذه المؤسسات لا يقتصر دورها على المراحل المبكرة من عمر الطفل ولكنها تستمر في ممارسة تدخلها فترة طويلة من الزمن وأهمها بالطبع الأسرة والمدرسة.
عوامل مؤثرة في التنشئة الاجتماعية
بما أن الفرد لا يمكن أن يعيش بمفرده، أو بمعزل عن المجتمع، وبما أنه يولد ثم ينمو ويتطور بيولوجيًّا واجتماعيًّا، فإن هناك أساليب استكمال اجتماعية الفرد وإنسانيته، وذلك عن طريق أنظمة سائدة داخل المجتمع لها طرقها الخاصة في الإدماج أو الاقتصاد، مستعملة أنماطًا خاصة في جعل الفرد يسير وفق المعايير المجتمعية، كضغوط العقاب أو الثواب أو التعلم… إلخ.
ومن المؤسسات الاجتماعية المؤثرة في التنشئة الاجتماعية للطفل:
1- الأسرة: فهي أهم النظم والمؤسسات الاجتماعية وأقدمها باعتبار أن كل عضو فيها له مركز وله دور وهي عالمية، أي موجودة في كل المجتمعات الإنسانية، وتعكس صفات المجتمع، بل إنها نموذج مصغر للمجتمع ذاته، والأسرة تتلقى قيمها ومعاييرها من مؤسسات المجتمع.
والأسرة هي المؤسسة التربوية الأولى التي يتلقى فيها الطفل مبادئ التربية الاجتماعية والسلوك وآداب المحافظة على الحقوق والواجبات، هذا فضلًا عن أن ما بها من عادات وتقاليد تربط أفراد الأسرة ببعضهم، ثم تربطهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه، فهي تشكل أول مكان تبدأ فيه التربية من أي نوع، وتشكل حلقة الوصل بين الوجدان والفكر كما تمثل المكان الذي تلقن فيه القيم وموازين الحكم، كما أنها أداة لنقل الثقافة.
2- الشارع: وهو فضاء شاسع لتفاعلات الأفراد؛ لأنه يشكل المجال الحركي الانفعالي والثقافي والاجتماعي والنفسي الذي يجري فيه عملية التنشئة ضمن علاقة الفرد بجماعات مختلفة تؤثر فيه ويتفاعل معها كالأصدقاء والأقران… إلخ.
ويتجلى تأثير الشارع في التنشئة الاجتماعية لدى الطفل فيما يأتي: التفاعل، والتواصل، والتبادل. وكلها عناصر تدمج الطفل في نمط ثقافي واقتصادي معين وعلى سبيل المثال: تنشئة أطفال الأحياء الشعبية ليست هي نفسها تنشئة أطفال الأحياء المتعلمة، لسبب أساسي هو أن طبيعة العلاقات في الشارع “التواصل – والتبادل– والتفاعل” تطبع كل فرد بطباع جماعته.
3- المدرسة: وهي تُكمّل ما بدأته الأسرة.. بل أصبحت تمتلك مقومات لتؤدي وظائف قد تعجز عنها بعض المؤسسات الاجتماعية، بل ولا تملكها، ومن أجله كان للمدرسة دور لا يقل أهمية في التنشئة عن دور الأسرة أو المؤسسات الدينية أو وسائل الإعلام وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة والمتعددة ونحوها.
4- وسائل الإعلام: وتتم عملية التنشئة اجتماعيا من خلال عدة وسائل، من بينها الوسائل السمعية والبصرية الآتية:
- التلفزة: وهي وسيلة من وسائل الإعلام المباشرة المؤثرة في نفسية الفرد في انتشارها الواسع في جميع الأوساط أكثر من غيرها، وقد تكون سلبية أو إيجابية على التنشئة الاجتماعية للفرد.
- الفيديو والسينما: وهي من العوامل الحديثة المؤثرة في التنشئة الاجتماعية إذ إن هناك أشرطة تناسب ميولات الأطفال ونزعتهم الاجتماعية والنفسية.
- الوسائل المقروءة: يمكن أن تحدث نوعًا من التباعد بين كل ما هو مقروء الذي يحدث نتيجة التفاعل بين القارئ والمقروء والذي يختلف باختلاف خليفة القارئ وثقافته وخبرته ونوعية النص المقروء.
دور المدرسة في تنشئة الأطفال
يتنامى دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية للطفل الذي يذهب إليها كل يوم ولديه شخصية تشكلت في الأسرة من خلال معايير معينة وقيم واتجاهات خاصة ويتطلب هذا أن يتعرف إلى شخصيات متعددة فيحدث تفاعل اجتماعي داخل المدرسة قائم على الأخذ والعطاء ومن خلال ذلك يزيد الطالب من تجاربه الاجتماعية وتتسع وتتنوع دائرة اتصالاته.
فالمدرسة لها سُلطة تنظيم خاصة بها، وَفق أسس وضوابط محددة كاحترام القيمة، واحترام التفكير مما ينتج عنه مساواة وثبات في التعامل. وهي المؤسسة الاجتماعية التي أنشأها المجتمع لتقابل حاجة من حاجاته الأساسية، وهي تطبع أفراده تطبيعًا وتكشف ميولهم واستعداداتهم وتستثمرها وتعد كل فرد للمهنة التي تناسبه وأصبحت ترسم الخطط لتلاميذها ليتعلموا الاعتماد على النفس من سن مبكرة، كما أصبحت نقطة الالتقاء للعلاقات العديدة والمتداخلة، لذا أصبحت قوة اجتماعية موجهة تعمل على بناء الشخصية السويّة وإكساب التلميذ الخبرات التي تهيئه لمواجهة تحديات الحياة الاجتماعية.
ومع ذلك لا يمكن الاقتصار على ما تقدمه المدرسة، فالمسؤولية اجتماعية تقع على المجتمع والوالدين والمربين والدولة ومؤسساتها. والمدرسة مؤسسة اجتماعية أوجدها المجتمع لها دور رئيس في عملية التنشئة.
أساليب المدرسة لتنشئة الطفل اجتماعيًّا
تتبع المدرسة أساليب عدة في عملية التنشئة الاجتماعية للطفل وتطبيعه اجتماعيًّا ليكون عضوًا صالحًا يسهم في خدمة المجتمع والعمل على تقدمه وتطوره المستمر. وحتى نتعرف أكثر إلى هذا الدور الكبير للمدرسة فلا بُد من أن تتوافر لها أركان أساسية وتتمثل في: المعلم، والمادة المقدمة للطفل، وطريقة توصيلها له، وأنماط السلوك المتوافرة في البيئة المدرسية، ومتابعة ومواجهة مشكلات التلاميذ والتعليم الوزاري.
- المعلم (المربي): هو الركن الأساسي في المدرسة، والمصدر الذي يعتبره الأطفال نموذجًا يستمدون منه النواحي الثقافية والخلفية التي تساعدهم على أن يسلكوا سلوكًا سويًّا، مما يكون له بالغ الأثر في نجاحهم لتلقي العمل بجهد أقل ووقت أوفر، ومن هنا تكمن أهمية إعداد المعلم إعدادًا تربويًّا ونفسيًّا ليكون على دراية ومعرفة كاملة بخصائص النمو ومدرك لسلوك التلاميذ في كل مرحلة من مراحل النمو بحيث يميز ما بين السلوك الطبيعي وغير الطبيعي للمتعلمين، فيقدم لهم المعرفة بطريقة تتناسب مع قدراتهم واستعداداتهم وميولهم متفطنًا إلى ضرورة إثارة الدافعية والتنافس بين التلاميذ.
- المادة المقدمة للطفل: وهي الركن الأساس الثاني، إذ يستطيع الطفل أن يستفيد منها إذا كانت تشبع حاجاته وفي مستوى نضجه العقلي والعكس بالعكس، كما أنّ الأطفال يستطيعون أن يتعلموا بطريقة أكثر سهولة إذا كانت المادة المقدمة لهم تقع في مجال اهتمامهم، ومعنى ذلك أن يكون تقديم الخبرات للطفل مستندًا إلى تحديد علمي دقيق للوقت المناسب، وهذا يتطلب من واضعي المناهج والمقررات الدراسية معرفة كاملة باستعدادات الطفل وتهيئته للتعلم ومعرفة ظروف البيئة التي يعيش فيها وأفضل الطرق التي يُمكن استخدامها لتعليمه وتثقيفه.
- الطريقة التي تقدم بها المعلومات للتلاميذ: وهي ركن مهم من أركان المدرسة الفعالة، وهي الأسلوب الذي يتبعه المعلم في توصيل المعلومة للتلاميذ، واستخدامه الجيد للوسائل التعليمية المختلفة، فيجب أن تعتمد طريقة التدريس على أنشطة مختلفة تثير الطفل وتنمي ثقافته، وتُبعده عن الرتابة التي تدعوه إلى الملل والسرحان، كما يجب على المعلم أن يهيئ الأذهان لما يريد أن يقدم من معلومات، لأن عملية التعلم مشروطة بالاستعداد للتعلم مع بيان الهدف من كل درس محاولًا ربط المعلومات النظرية بواقع حياة الطفل قدر الإمكان.
- متابعة ومواجهة مشكلات التلاميذ: وهو ركن مهم في المدرسة الحديثة الفعالة يكمن في الاهتمام بمشكلات التلاميذ، وتسعى إلى حلها بأساليب تربوية عن طريق الأخصائي الاجتماعي أو النفسي، فقد يعاني التلميذ من مشكلات ناجمة عن عدم إشباع حاجته النفسية، التي تتخذ صورًا عدة مثل: عدم القدرة على التكيف والكذب والسرقة واللامبالاة أو الغش … الخ.
- التعليم الموازي: على المدرسة أن تقدم للطفل خبرات وأنشطة مختلفة وأن تقدم المعرفة من خلال المتعة، إذ بالإمكان تهيئة خبرات جديدة للطفل ومحببة لنفسه في مجالات عديدة، مثل التربية المسرحية لإكساب الشجاعة الأدبية والتربية الموسيقية لتنمية الذوق والتربية الفنية لتنمية الإحساس بالشكل واللون والجمال وأن يهتم بالأنشطة والمسابقات والرحلات الترفيهية والتربوية والتعامل مع الحاسوب وشبكة المعلومات، واكتشاف المواهب في المجالات المختلفة والاهتمام بها وتشجيعها، حتى لا تخلق شخصية ذات قطب واحد أكاديمي فقط.
تحديات تواجه المدرسة
هناك تحديات كثيرة تواجه المؤسسات التربوية ومنها المدرسة في عملية التنشئة الاجتماعية للطفل ليكون مواطنًا صالحًا مفكرًا مخلصًا يحمل ثقافة المجتمع وقيمه والاعتزاز بماضيه وصورة مستقبله ومن هذه التحديات:
- العولمة: ويشير هذا المفهوم إلى أنّ المعلومات بدأت اقتصاديًّا ثم سياسيًّا فثقافيًّا ويساندها في الجانب الأخير- الثقافي- أمران، الأول: النجاح على المسار الاقتصادي والسياسي، والثاني: ما توافر لها من مقومات تجعلها خطرًا على ثقافتنا عامة والتنشئة الاجتماعية لأجيالنا.
- تقدُّم نظم الاتصال: لاسيما بعد استخدام البصرية منها في منظومات الاتصال التي ساعدت على نقل المعلومات بكثافة عالية وبسرعة الضوء فضلًا عن الأقمار الصناعية التي أدت إلى زيادة الكمية والنوعية في نقل المعلومات ما يؤدي إلى تغييرات جوهرية في مفاهيم التنشئة والتعليم والتدريب، وتحتم وجود نماذج ثقافية، وأخلاقية يمكن من خلالها التعامل مع معطيات ثورة الاتصالات وفي الوقت ذاته الحفاظ على الهوية.
- شبكة الإنترنت: فنظرًا للنقص الكمي والتدني الكيفي في نوعية المواقع المؤسسية التي تعني بتقديم برامج ثقافية وترفيهية وتربوية وأخلاقية للنشء العربي وفق استراتيجية واضحة مبنية على تخطيط لاحتياجاتهم الفعلية من ناحية، وتحليل مضمون ما تقدمه المواقع الأخرى البديلة من ناحية أخرى، فإن النشء ينخرط فيها بحكم عدم اكتمال النضج وخصائص مراحله النمائية وطبيعة محتوى وشكل تلك المواقع المحملة بحمولة ثقافية وأخلاقية تحتاج إلى العديد من الدراسات التحليلية لمكنونها ومدلولها ومضامينها التربوية الأخلاقية ومدى تأثيرها.
- الأدبيات المترجمة: وهي التي تمتلئ بها الساحة العربية والإسلامية، وتجتذب القصص المترجمة خاصة فئات كثيرة، ونظرًا لجاذبيتها ومواءمتها في صورتها وشكلها الأدبي لطبيعة خيال النشء تؤتي ثمارها بشكل سريع وتجعل مضمونها من الأفكار والقيم يسري في كيانهم من خلال رموزها وأبطالها وموقفهم دون أوامر مباشرة أو تلقٍ خطابي صريح، ويأتي ذلك في إطار مقومات العولمة التي سهلت تدفق الأفكار المعلومات كما سهلت تدفق البضائع.
المصادر والمراجع:
- دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية للطلاب .
- ما هي التنشئة الاجتماعية؟ و ما أهميتها؟ .
- عمر أحمد همشري: التنشئة الاجتماعية للطفل، ص 20 و21.