حرص الإسلام على أن تكون الدّعوة من الداخل إلى الخارج، ليصبح لها ظهر ورُكن شديد، وقاعدة صلبة ومنطلق متين، فأكد أهمية دعوة الأقربين أولا، حيث لا داعيَ إلى قطع المسافات من أجل دعوة إنسان ما قد يقبل بها أو يرفضها ويقف حجر عثرة في طريقها، في حين أنّ الأقربين والمجاورين في السّكن أو العمل محتاجون لمثل هذه الدعوة.
وهؤلاء الأقربون معروفون عند الداعية أو المربي، ولا يحتاج إلى جمع المعلومات عنهم، وهم يعرفونه فلا داعيَ لكثير من المقدمات، وهم يعتبون عليه إذا أهملهم وذهب إلى الأبعدين، وهو يعيش بينهم، فهم العَين الساهرة في الخير والشر، وهم الشّهداء على السّراء والضّراء، وهو عند الله مسؤول عنهم، وقد أخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- على قومه أنهم لا يُفقّهون جيرانهم ولا يُعَلِّمونهم فتوعدهم بالعقوبة وأمهلهم سنة للقيام بهذا التكليف.
دعوة الأقربين في القرآن والسنة
وقاعدة دعوة الأقربين أولا، أكدها الله- عز وجل- في آيات كثيرة، فجاء في دعوة إبراهيم- عليه السلام- لأبيه، فقال: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الأنعام:74]، وهنا نجد أن إبراهيم- عليه السلام- قد بدأ بأبيه وأسرته، وصدع بالعقيدة ولم يخشَ فيها لومة لائم، ولم يُجامل على حسابها أبًا، ولا أسرة ولا عشيرة ولا قومًا.
وأشار القرآن إلى دعوة إبراهيم ويعقوب- عليهما السلام- لبنيهما، فقال تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [سورة البقرة:132]، ويستفاد من الآية أن كلا من إبراهيم ويعقوب- عليهما السلام- وصى ابنه بلزوم الدين الذي اصطفاه الله تعالى لعباده، وهذا أعظم ما يوصى به.
وقال الله- تبارك وتعالى- في سياق قصة نوح- عليه السلام- مع قومه حين ركبوا في السفينة: (وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍۢ كَٱلْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُۥ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍۢ يَٰبُنَىَّ ٱرْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلْكَٰفِرِينَ) [هود: 42].
وعندما بدأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالدعوة أمره الله تعالى أن يُنذر عشيرته الأقربين، فقال: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين) [الشعراء: 214]، وهؤلاء إن استجابوا للداعي كانوا أعوانًا وأنصارًا له في دعوته، ثم تأتي إلى المجال الأوسع والأرحب بالتدريج.
قال الرازي: “ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، ذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولًا ثم على الأقرب فالأقرب ثانيًا، لم يكن لأحد فيه مطعن البتة، وكان قوله أنفع وكلامه أنجع”.
وخصص الله تعالى في آية أخرى أمرًا بدعوة أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم-، فقال جل شأنه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) [ الأحزاب: 28، 29].
والمدعو في الآية هنا، زوجات النبي- صلى الله عليه وسلم- التسع اللاتي مات عنهن، خمس من قريش: عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة- رضي الله عنهن-، وثلاث من سائر العرب: ميمونة وزينب بنت جحش، وجويرية- رضي الله عنهن-، وواحدة من بني هارون: صفية- رضي الله عنها-، علمًا بأن أول زوجات النبي- صلى الله عليه وسلم- خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- تُوفّيت في السنة السابعة من البعثة وقيل العاشرة.
وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: قال: “لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صعد النبي- صلى الله عليه وسلم- الصفا فجعل ينادي: يا بني فِهْر، يا بني عَدِيّ- لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو. فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد”.
وقبل ذلك لإسلامِ السيدة خديجة- رضي الله عنها- أثرٌ عظيم في مواساة النبي- صلى الله عليه وسلم-، فكانت نِعْمَت الزوجة ونعم المعين ونعم السند، لقد واسَتْه بمالها وبرقَّتِها، ووفائها وعطائها وقلبها الكبير؛ لهذا كان- صلى الله عليه وسلم- يحبها ويحبُّ مَن يُحبها، فكان يكرم صديقاتها إكرامًا ووفاءً بها ولها.
وقد تجلَّت هذه المساندة في مواقف كثيرة، منها: أنها أخذَتْه إلى ابن عمها وكان عليمًا بدين النصرانية، فصدَّقه، ومنها: ما قالته للنبي- صلى الله عليه وسلم- لما عاد إليها يرتعد ويقول لها: “زمِّلوني زمِّلوني”، ومنها: ما قدمت من مالِها.
ولما دعا النبي- صلى الله عليه وسلم- صديقه أبا بكر- رضي الله عنه- كان لذلك عظيم الأثر في شد أزر النبي- صلى الله عليه وسلم-، فكان يدافع عنه، ويدفع عنه الأذى، ويواسيه بماله، حيث قدم كل ماله وترك لأولاده الله ورسوله، وكان صاحب الغار، ونعم الصاحب في الهجرة، وفي الشدة، وكان- رضي الله عنه- يشتري العبيد فيحررهم، فيدخلون في الإسلام، فكان لذلك أثر كبير في استمرار الدعوة وتقدُّمها، وثباتها في مواجهة العقبات.
أسباب دعوة الأقربين أولا
ولما شدد الإسلام على ضرورة دعوة الأقربين أولًا، كان ذلك لأسباب عديدة أبرزها ما يلي:
- لأن دعوة الأقارب مسؤولية أُولى على الداعية؛ لحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ” (البخاري). ومن هنا جاءت أهمية صلة الرحم، ودعوة الأقربين.
- لأن هناك حبًّا فطريًّا لشخص الداعية من الأقربين؛ وبهذا فإن الأقربين سيكونون أقرب إلى الإجابة؛ فالقريب ليس بينه وبين الداعية حواجز قَبَلية، أو عنصرية، أو غير ذلك من الحواجز.
- لأنه بذلك سيكون في حماية قبيلة تُدافع عنه، وتتبنَّى قضيته، وكثيرًا ما يكون ذلك واقعًا على الرغم من رفض القبيلة اعتناق ما يدعو إليه الداعية، ومع هذا فإن هذه الحماية تُعطي له قوَّة كبيرة؛ خاصة إذا كان ينتمي إلى عائلة كبيرة وشريفة، فما بالنا لو آمنت هذه العائلة بما يقول، فإنها عندئذٍ تُصبح عضدًا قويًّا له في دعوته.
- السير على نهج النبي- صلى الله عليه وسلم- في الدعوة، حيث بدأ بعشيرته قبل الخروج من مكة، وهو تدرج مطلوب، فقد ظل- صلى الله عليه وسلم- يدعو حتى لم يبقَ بيتٌ في مكة إلا وعلم بالإسلام، وكان فيه رجل مسلم، إما يُعذَّب وأما يُضطَهد، وأما يُطارد، ثم بدأ يدعو القبائل من خارج مكة، فكان يَعرض نفسه على القبائل في المواسم والأسواق، وغشِي الإسلام يثربَ وما حول مكة.
بماذا يبدأ الداعية؟
وقبل أن يُطبّق الداعية قاعدة دعوة الأقربين أولًا، عليه الالتزام ببعض النصائح ليحصد ثمار دعوته، وليَجد من أقاربه وعشيرته مَن يَدعمه ويُؤازره، وهي:
- البدء بالصغير قبل الكبير: ذلك لأن الصغير لم يصلب عوده على فكر معين أو سلوك معين، والتعامل معه أسهل من التعامل مع الكبير الذي اختار طريقه، وكثرت ارتباطاته ومسؤولياته، وحقق مركزًا اجتماعيًّا أو مكاسب دنيوية يخشى عليها. ثم إن الصغير الذي يُقبل على الدعوة يدخل مباشرة في الصياغة والتكوين، ولا يبذل الداعية معه وقتًا طويلًا في تخليته من الشوائب والعادات الجاهلية، وإنما ينصرف إلى تحليته وتعبئته بالفضائل والعادات الإسلامية، وهذا لا يعني إهمال الكبار، لكن إقبال الصغار والناشئة على الدعوة أسرع، وصغير اليوم هو رجل الغد.
- البدء بالمتواضع قبل المتكبر: لأن التواضع يدل على إمكان قَبول الحق، في حين أنّ التكبر يدل على سفه الحق وغمط الناس، ومن هنا وجدنا أتباع الرسل هم من فئة الشاكر المتواضع أو الفقير الصابر الضعيف، والجهد مع هذا الصنف من الناس يؤدي ثماره في الغالب، ولا يعني هذا حرمان الأصناف الأخرى من الدعوة.
- البدء بالمثقف قبل الأمي: وذلك للدور الذي يقوم به المثقف في المجتمع، إلى جانب أن المثقف أقدر من غيره على مُحاكمة الآراء واختيار الأفكار، ومن يختار الفكرة عن وعي فإنه في الغالب يلتزم بها، ثم إن المثقفين هم موضوع الاختلاف بين أصحاب المذاهب والمادة المتنازع عليها بينهم.
- البدء بغير المنتمي قبل المنتمي: لأن غير المنتمي يقع في مركز وسط بين المذاهب والتجمعات، وأما المنتمي فقد انتقل من المركز إلى الطرف الآخر، والجهد المطلوب لنقله إلى مركز التأثر أضعاف الجهد المطلوب لغير المنتمي؛ علمًا بأن المنتمي إذا غير انتماءه عن قناعة وفكر فإنه سيتحول إلى الدعوة مع خبرة واسعة واستعدادات كبيرة، ولكنّ هذا قليل.
- البدء بزميل العمل أو المهنة قبل غيره: لأن أفراد كل مهنة بينهم تعاون تلقائي، ومجالات الحديث بينهم مُهيّأة، ونقاط الاشتراك كثيرة، فالطبيب مع الأطباء أقدر منه بين المهندسين، والمحامي بين المحامين أقوى منه بين المعلمين، ولما كان الداعية يمتاز بنظافة السلوك- وهذا متوقع- وبالبعد عن روح التنافس الدنيوي فإنه مُؤهّل للاتصال بزملائه والتأثير فيهم.
- مراعاة التخير وفقًا للمرحلة التي تمر فيها الدعوة: فقد تكون المرحلة مرحلة تجميع وَسِعة انتشار، وقد تكون مرحلة عمل مُحدد، تربوي أو اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي. وفي كل مرحلة تُراعى مقتضياتها ويكون التخيّر وفق هذه المقتضيات. وقد نفهم قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ بأحبِّ هذين الرجُلين إليك بأبي جهلٍ أو بعمرَ بنِ الخطابِ” (الترمذي وأحمد) على ضوء المرحلة التي كانت تمر فيها الدعوة في مكة فقد انتشرت الدعوة بين الضعفاء والفقراء ووصلت إلى مرحلة تريد أن تعلن فيها عن نفسها، وشخصية كشخصية عمر تناسب المرحلة الجديدة، وهذا ما حدث يوم أن دخل عمر- رضي الله عنه- في دين الله.
إن الداعية أو المربي عليه دعوة الأقربين أولًا امتثالًا لقول الله- تبارك وتعالى-: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين)، والعشيرة هنا تشمل الأسرة، والجيران والأصدقاء، فهو مسؤول عن تبليغ رسالة الإسلام إليهم بتودُّد ولين، وبالحكمة والموعظة الحسنة والقدوة والأسوة، وبالمجاملات، وبالهدايا والعطايا، وبالكلمة الطيبة، والمواقف الحميدة، لتنتشر الدعوة وتقوى شوكة الإسلام.
المصادر والمراجع:
- سيد قطب: في ظلال القرآن، 2/1138.
- الرازي: تفسير الرازي، 24/172.
- موقع تيار الإصلاح: كيفية الدعوة إلى الله؟
- الدكتور راغب السرجاني: الجهر بالدعوة.. وأنذر عشيرتك الأقربين.
- الشوكاني: فتح القدير 4/275.
- ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/ 393-406.
- ابن القيم: زاد المعاد 1/ 105-114.
- الدكتور أكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة 2/ 643-653.
- الندوي: السيرة النبوية، ص 357-362.