بين التعلق بالأشخاص والحب شَعْرة صغيرة قد تُخرج الإنسان من الحب المشروع إلى التعلق المذموم الذي يُؤثر على العملية التربوية سلبًا، ويتسبب في اختلال معايير التربية، ونشأة التعصب للبعض على حساب الانتماء للحركة والفكرة والمنهج ذاته.
فالتّعلق بأي شخص أمر مذموم، وهو من مصائد الشيطان التي يصيد بها قلوب بني آدم، وداء عضال في الحركات والكيانات، فلا بُد للجميع أن يكون في يقظة دائمًا من هذا الداء الذي قد يتسلل دون سابق إنذار.
والتعلق يختلف من شخص لآخر، فهناك من لا يستطيع أن يخرج منه لفترات طويلة، ويعيش وسط ذكريات تكون هي المسيطرة على تفاصيله كافة، ليصبح أسيرًا للماضي ولا يُريد أن يرى الحقيقة للشخص أو الكيان الذي تعلق به، وربما تحدث له صدمة، لذا يجب أن تعطي كل ذي حق حقه. يقول جورج برنارد شو: “لا تربِط سعادتك بشخصٍ أو شيء، فالأشخَاص راحلون والأشياء لا تدُوم”.
مفهوم التعلق بالأشخاص
التعلق بالأشخاص أمر قلبي ربّما يظل في مضمون التوازن أو يخرج إلى معنى العشق والافتتان والحزن إذا لم يجد هؤلاء الأشخاص حوله، لذا ربما يُعرف التعلق بمعنى: الهيمنة وعدم الاستقلال إلا بوجود الشخص الذي قد تعلقت به.
ويصفه الأخصائيون النفسيون بالتعلق المرضي ويقصد به: حالة عاطفية تحدث لبعض الأشخاص وهي مرتبطة بالحياة اليومية ونمط تصرفاتنا مع الأشخاص وسلوكياتنا، مثل التعلق بأحد الأصدقاء بشدة أو التعلق بأحد الأشخاص في الجانب العاطفي والحب، ويكون التعلق في هذه الحالة علاقة قهرية لا تميزها روابط مشتركة وتكون خاضعة لظروف نفسية حدثت لفترة من الوقت، هذه العلاقة قد ينتج عنها عدم تقدير الذات، والكثير من التصرفات التي تسبب الضغوط النفسية للطرف الآخر (1).
ويقول الشّيخ أحمد رضا: اعتلقه: أحبّه، وتعلّق الشّيء: علقه من نفسه، وفلانة: أحبّها.
ويقول محمد الباشا: عَلِق – عَلَقاً وعُلُوقاً وعلاقَة الشّيء الشّيء وبه: نشب فيه واستمسك به، فلانٌ فلاناً وبه: تمكّن حبّه من قلبه.
أمّا حسن سعيد الكرمي فيقول: تعلّق يتعلّق تعلّقًا: الولد بأبيه عند الفراق: أمسك به وتشبّث، وتعلّق الرّجل المرأة أو بها: أحبّها، وتعلّق الشّوك بالثّوب: تشبّث، وتعلّق الثّوب على الشّجرة: سقط عليها وعلق (2).
التعلق بالأشخاص في القرآن والسنة
جاء معنى التعلق بالأشخاص في القرآن بمعنى الحب لكن يتضح أنه حب يصل للعشق مثل قوله سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]، فهذه الأشياء يظل الإنسان متعلق بها إلا من رحم ربي وضبط ميزان قلبه فجعلها في يده لا في قلبه.
وفي قوله سبحانه وتعالى عن الحالة التي وصلت إليها امرأة العزيز من التعلق بسيدنا يوسف عليه السلام: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف:30].
وقد حذّرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – من الإفراط في محبة الأشخاص، وندبنا إلى الوسطية والاعتدال في ذلك فقال: “أحبِبْ حبيبَكَ هونًا ما، عَسى أن يَكونَ بَغيضَكَ يومًا ما، وأبغِض بغيضَكَ هونًا ما عسَى أن يَكونَ حبيبَكَ يومًا ما” (الترمذي).
وربط النبي الكريم الحب بالله حتى لا يصل إلى درجة التعلق المذموم، لأن الحب والبغض لا يكون إلا لله سبحانه، فقال – صلى الله عليه وسلم-: “إذا أحبَّ أحدُكم أخاه فليُعْلمَه إيَّاه] ( الترمذي).
الفرق بين الحب وبين التعلق بالأفراد
لا شك أن الجميع بحاجة إلى الحب، لأن بدونه لا معنى ولا قيمة للحياة، غير أنه أحيانًا ما يصبح الحب كارثة حينما يتحول إلى التعلق بالأشخاص أو الكيانات، وهناك فروق بين الحب الطبيعي وبين التعلق الذي قد يؤثر على أخلاقيات المرء ومنها:
- الحب يعني الإيثار على النفس مع مَن تُحب والعمل على جعله سعيدًا، بينما التعلق يعني الأنانية بحيث تبحث ممن تعلقت به أن يجعلك سعيدًا، وأنه لك وحدك.
- والحب يأتي مع الراحة والطمأنينة والسعادة وهو أمر دائم، لكن التعلق يأتي من الخوف، وبخاصة الخوف من الفقد وهو أمر مرحلي ربما يزول إذا فقدّت الثقة فيمن تتعلق بهم.
- يقوم الحب على التفاهم بين كلا الطرفين دون وجود خلافات تحتاج إلى حلول جذرية، بينما قد يتخلل التعلق شعور جامح بالغيرة التي عادة ما تكون مفرطة وفي غير مكانها الصحيح.
- والحب يجعل الطرفين يسعيان لنجاح العلاقة بينهما، وهو بخلاف التعلق حيث يظل طرف مفتون بالشخص الذي يحبه ويعتقد فيه رأيه وتصرفاته الصواب دائما.
- وفي الحب يستطيع المحب أن ينتقد من يحبه ويقدم له النصيحة، لكن المتعلق يستحيي أن ينتقد محبوبه حتى لا يخسره (3).
أسباب التعلق بالأفراد
ويُعد قلة تقدير الذات أهم أسباب داء التعلق بالأشخاص الذي يصيب بعض الناس، فيما توجد أسباب أخرى نشير إلى بعضها، وهي:
- ضعف محبة الله وتعظيمه في قلب العبد، وبالتالي لا يستطيع أن يفرق بين الحب لله والتعلق الممقوت للأشخاص، لأن التعلق بالله وحده لا يكون معه في القلب شيء آخر ويكون عاصمًا من الزلل، وهو ما جاء في قصة سيدنا يوسف – عليه السلام – قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].
- الجهل العام وقلة العلم بحقيقة الحب الحقيقي، ما يجعل الإنسان متعلقًا ومفتونًا بأصحاب اللسان الحلو، فالمرء إذا قلّ علمه وضعفت معرفته اشتبهت عليه الأمور، ولم يُميّز بين الحق والباطل، وربّما تعلق بشخص وظنّ أنه يُحبه في الله حيث ألبسه الشيطان ثوب الحب في الله دون أن يدري.
- الفراغ وعدم شغل الأوقات بما ينفع ويفيد، فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك هي بالباطل، ولهذا قال بعض السلف: “العشق حركة قلب فارغ”.
- كثرة المعاصي، وبخاصة معاصي الخلوات، بل والأخطر الذنوب التي يظن صاحبها معها أنه يحسن صنعا، قال تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:104].
- ترك الواجبات التي أوجبها الإسلام والانشغال بالحرام المغلف الذي لا يعتبره صاحبه حراما حتى يتملك القلب، يقول الإمام ابن تيمية: “إن ترك الواجب سبب لفعل المحرم” (4).
مظاهر التعلق بالأفراد
يستطيع المرء أن يُفرّق بين التعلق بالأشخاص أو الحب – وإن كان الشيطان يُلبِس على البعض الأمر- لكن مظاهر التعلق المذموم ربّما تتجلى في:
- انشغال القلب دائمًا بالشخص المحبوب، سواء في حضوره أو غيابه.
- المسارعة في تلبية طلباته وقضاء حاجاته وإيثار ذلك على كل شيء حتى على كثيرٍ من الطاعات.
- الغيرة عليه من مصاحبة الغير له وجلوسه معه، وتُعد هذه العلامة من أبرز علامات التعلق وأوضح أماراته.
- الحديث عنه دائمًا أمام الناس وذكر صفاته الحسنة، والتغاضي عن صفاته السيّئة، وغض الطرف عنها والتماس المبررات لها، بل ربما رأى المساوئ حسنات، وهذا من فساد القلب والعياذ بالله.
- الغضب عند امتناع محبوبه عن لقائه أو تأخره عنه لسبب من الأسباب أو انشغاله بغيره من الناس، فيعتريه من الغضب والقلق والاضطراب لذلك (5).
أخطار التعلق بالأفراد
ويترتب على داء التعلق بالأشخاص بعض الأخطار، ومنها:
- الانشغال بذكر محبوبه عن ذكر الله وهو ما وصفه الله سبحانه بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبٌّونَهُم كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدٌّ حُبّاً لِّلّهِ}[البقرة:165].
حتى بلغ بالشاعر الأندلسي أحمد بن كليب النحوي أن ينشد:
وصلك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل
- الحسرة والشقاء لتعلق القلب بالمعشوق، فمَن أحبّ شخصًا غير الله وتعلق به عُذّب به، بل تبرأ منه في الآخرة.
- الانشغال بالمعشوق سواء كان شخصًا أو كيانًا عن مصالح الدين والدنيا، قال – صلى الله عليه وسلم – : “مَن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه” (صحيح الترمذي).
- الوقوع في المعاصي وارتكاب المنكرات واليأس والإحباط والقنوط من رحمة (6).
علامات التعلق بين المربي والمتربي
للتعلق بين المربّين والمتربين علامات، منها:
- البحث عن المربي في كل زاوية ومكان بحيث لا يسمع المتربي إلا منه فقط ولا يأخذ إلا على يده فحسب.
- الإقبال بالحديث واستنطاق المتربّي؛ فما يكاد يقبل إلا على ما يتعلق به، وما أن يراه ويلتقيه لم يدع سؤالًا إلا سأله ولا طرفة إلا حدّث بها؛ رغبة بالأنس.
- انتقاء المربي العبارات والحرص على تخيرها وجاذبيتها، والتكلف بالحديث حتى لا يقع في نقد من يحب أو يسمع من ينقده.
- الإنصات لحديث المتربي إذا حدث إنصاتًا لا يكون لغيره مثله.
- الغبطة والسرور التي تتملك المتربي إذا وقعت عينه على مربيه حتى ولو كان في حالة حزن وجزع وضيق مما يحيط حوله. يقول أبو العلاء المعرّي:
علامة من كان الهوى في فؤاده إذا لقي المحبوب أن يتغيرا.
- الإسراع بالمسير نحو المكان الذي يكون فيه المربي، والتعمد للقعود والدنو منه، بل والاهتمام الزائد بشؤون المتربي الخاصة.
- تغيب المربي عن مواعيده؛ حتى ما كان منها مهما لانشغاله أشد الانشغال بمتربيه، بل استشاطته غضبا إذا عوقب المتربي ولو على خطأ فعله (7).
الآثار المترتبة على التعلق بالأفراد
يتكون أي فصيل من أفراد يتميزون ما بين قادة وجنود، لكن الجميع وفق نياتهم يعملون لله – عز وجل – ولا ينشغلون إلا بالمنهج والفكرة.
إلا أن داء التعلق بالأشخاص – خصوصًا القادة والمؤثرين – قد يصيب بعض العاملين داخل الكيانات الإسلامية، ما يترتب عليه خلل تربوي في كينونة الصف المقام عليه قواعد الكيان الإسلامي، حتى يصير هذا القيادي صاحب صوت أوحد على المتعلقين به، فلا يرون إلا أفكاره، ولا يسمعون إلا كلامه، دون إمعان النظر فيما يقول أو إنزاله على تعاليم كتاب الله وسنة نبيه.
وربّما يكون التعلق بكيان أو حركة، وكأن ما تقوم به كامل الصواب ولا يجوز نقدها نقدًا بناءً موضوعيًّا للوصول إلى أفضل الأمور.
ففي عام 1937م حدث أن افتتن أشخاص ببعض الإخوة أمثال الشاب أحمد رفعت ومحمد عزت حسن (عضو مكتب الإرشاد) بسبب كلامهم المعسول وآرائهم، حتى إن أحمد رفعت تطاول على الدعوة ومُرشدها حسن البنا، وشعر أن البعض يلتف حوله، فأعلن السيطرة على المركز العام وتعطل العمل فيه ما يقرب من ستة أشهر تأثرت الدعوة فيها كثيرًا وذلك نتاج تعلق البعض به (8).
علاج التعلق بالأفراد
لكل داء دواء إذا أحسن التعامل معه، ومن طرق علاج التعلق بالأشخاص:
- الاستعانة بالله سبحانه وصِدق اللجوء إليه بشغل أوقات الفراغ فيما يقرب العبد من ربه ويعلق قلبه به وحده سبحانه.
- إعداد وتأهيل المربي، إعدادًا وتأهيلًا يليق بالمهمة المنوطة به في تربية الأفراد حتى لا يكون سببًا في التعلق المرضي لدى من يربي.
- النظر في مفاسد مثل هذه العلاقات وما تجلبه من شغل القلب واضطرابه وحبسه وذله وبعده عن الله سبحانه وتعلقه بأحد غيره.
- لا بُد للمربي من منهاج يسير عليه في تربيته لأفراده، وأن يعلم أهداف ومقاصد المنهاج وما هي أسسه ومنطلقاته.
- حسن اختيار المربي ومراعاة مناسبته للمتربين، والتحقق من صفاته الأساسية والإيمانية والتحقق من محافظته والتزامه بالعبادات والأخلاق لكونه سيكون قدوة لهؤلاء.
- المتابعة المستمرة سواء للمربي أو المتربي والنظر فيما يلقنه لهم للوقوف على مدى ارتباطه بالمنهاج السليم في التربية (9).
المصادر
- أمنية قلاوون: التعلق المرضي.. أعراضه وأسبابه وكيفية التخلص منه، 11 يناير 2017،
- أحمد رضا: معجم متن اللغة، جـ4، صـ188/ محمد خليل الباشا: الكافي (معجم عربي حديث)، دار النشر. شركة المطبوعات للتوزيع، لبنان، صـ705.
- 5 فوارق بين الحب الحقيقي والتعلق العاطفي: 29 أكتوبر 2015،
- الإفراط في محبة الأشخاص: 18 نوفمبر 2008،
- الإفراط في محبة الأشخاص: المرجع السابق.
- حمود بن إبراهيم السليم: العشق الشيطاني (الإعجاب)، 7 فبراير 2014،
- السيد راضي أحمد ملحم: نحو فهم ظاهرة التعلق بين المربي والمتربي، دار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن، 2006م.
- جمعة أمين عبدالعزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، الكتاب الثاني، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2004م.
- السيد راضي أحمد ملحم: مرجع سابق.