تحتل حُسن الجيرة مكانة بارزة بين كيان أي مجتمع إنساني، وهي من الأمور التي اهتم بها الإسلام الحنيف وحثّ عليها، فقد أوصى الإسلام بالجار وأعلى من قَدْره، وجعل له حرمة مصونة، وحقوقًا مرعية، وكان أكثر ما يميز العلاقة بين الجيران في المجتمعات العربية قديمًا، الوئام والترابط والتعاون.
لكن مع مرور الأيام وتقدم التكنولوجيا تحوّلت هذه العلاقة إلى قطيعة وخصام ونزاع بلغ ببعض الجيران إلى الاختصام أمام ساحات المحاكم، وقلّ التسامح والتناغم بين الجيران عما كان عليه.. فلماذا وصلت العلاقة إلى هذا الحال؟
مفهوم الجيرة
يأتي مفهوم الجيرة من كلمة الجار وهو الشخص الذي يعيش بالقرب منك، بغض النظر عمّا إذا كان مسلمًا أم غير مسلم، وهو المعنى الذي ذكره ابن عابدين- فقيه الديار الشامية (1784 – 1836) رحمه الله- بقوله: الجار- وفقا للعُرف- هو المنزل الذي يقع بجوار منزلك أو الشخص الذي يعيش في المكان نفسه.
وإن كان هناك معان أخرى للجار كالجَار الذي يجير غيره، أي: يؤمنه ويحميه ممّا يَخاف، وأيضا الجار المُستجير الذي يَطلب الأمانَ والحماية (1).
أهمية الجيرة في القرآن والسنة
تمنع رابطة الجوار من التنافر، والشحناء، والبغضاء، والحقد، وتزرع بين الجار وجاره التراحم والتعاون في مختلف مجالات الحياة، ما يدل على رُقي المجتمع، وعُلو أخلاقه، وهو ما اهتم به القرآن وقت نزوله وترجمته السنة النبوية أقوالًا ومواقف عملية للنبي- صلى الله عليه وسلم- يقول تعالى مؤكدا أهمية الجيرة بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36]، حيث أوضحت الآية الكريمة عظمة الجار على مختلف أنواعه.
وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- يحث فيه على حق الجار بقوله: “مَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فليكرِمْ جارَه، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وما حقُّ الجارِ على الجارِ؟ قال: إن سألك فأعْطِه” (مسلم).
والحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “ما زال جبريلُ يوصيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنه سيورِّثُه” (أبو داود والترمذي وأحمد).
وشدد النبي- صلى الله عليه وسلم- على عدم إيذاء الجار فقال: “واللهِ لا يؤمِنُ واللهِ لا يؤمِنُ واللهِ لا يؤمِنُ، قالوا: وما ذاكَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: جارٌ لا يؤمنُ جارُهُ بوائقَهُ، قالوا: يا رسولَ اللهِ وما بوائقُهُ؟ قال: شرُّهُ” (البخاري).
أنواع الجيران
وتتنوع الجيرة من منظور الشريعة الإسلامية إلى ثلاثة أصناف على النحو التالي:
الأول: جار له حق واحد: وهو حق الجوار، وهو الجار غير المسلم، ولا تربطه بجاره صلة قُربى.
الثاني: جار له حقّان: حق الجوار والإسلام، وهو الجار المُسلم، ولا تربطه بجاره صلة قربى ورحم.
الثالث: جار له ثلاثة حقوق: حق الجوار والإسلام والقُربى، وهو الجارُ المُسلم من الأقارب.
ويقول الدكتور محمد فؤاد شاكر- أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة عين شمس- الجوار في الإسلام لا يقصد به جوار البيت فقط؛ وإنما الجوار قد يكون في العمل، أو في مكان تحصيل العلم، وقد يكون في السفر (2).
لماذا تدهورت العلاقة بين الجيران؟
أسباب كثيرة قد تُؤدي إلى تدهور علاقة الجيرة بين الناس، فقد تصل إلى الشجار وساحات القضاء، ومن هذه الأسباب:
- هجر سُنّة النبي- صلى الله عليه وسلم-، وهذا نتيجة لضعف تعاليم الدين الإسلامي.
- عدم معرفة حقوق الجار التي وَرَدَت في القرآن الكريم والسُّنة المطهرة.
- عدم وجود شجاعة كافية للتعرف إلى الجيران.
- صنع المشاكل بسبب هفوات صغيرة سواء من الرجال أو الأبناء أو الزوجات.
- السعي وراء الرزق طوال الوقت وعدم وجود وقت للتعارف.
- الحياة المنعزلة وغيرة النساء على أزواجهن (3).
مظاهر العلاقات الأخوية بين الجيران في الماضي
كانت علاقات الجيرة فيما مضى يسودها الوئام والانسجام، والتعاون والتلاحم، والتكافل والتكاتف، والتواد والتراحم، وكانت حياة الناس خالية من المشاكل والتعقيدات، وتسود بينهم العلاقات الأخوية القائمة على حب المساعدة والإيثار.
وقد كان الجار حتى وَقت قريب حاضرًا في كل المناسبات والأحداث اليومية التي يمر بها جيرانه، يتزاورون فيما بينهم، ويُعاون بعضهم بعضًا، حتى كنت تراهم مع بعضهم البعض في الأفراح والأتراح لا تعرف من صاحب الفرح أو مَن يحمل الهم والحزن، بل إنها كانت تعوض المرء عن علاقاته العائلية، وعندما كانت امرأة تذهب إلى الحقل مع زوجها، تترك أولادها عند جارتها حتى تعود، تفعل ذلك وهي على يقين تام أنّ جارتها لن تخذلها، وغيرها من مظاهر التكافل والتلاحم والترابط بين الجيران.
لقد تغيرت معاني الجوار، وأصيبت العلاقات بين الجيران بالفتور، فالجار في غالب الأحوال لم يعد ذلك الأخ والأب والصديق، كما كان في السابق، ولم يعد يُراعي مشاعر جاره ولا ظروفه، ولم يعد يشارك في أفراحه وأتراحه إلا في أضيق الحدود، ومن باب المجاملة على الأكثر. بل إن الجار أصبح مصدر الأذى لجيرانه (4).
مظاهر أذى الجيران
النفس المؤمنة جُبلت على تمني الخير لغيرها عامة ولجِيرانها خاصة الذين يتقاسمون معهم الجيرة وسرعة إغاثة الملهوف، غير أنّ النفوس المريضة تؤذي جيرانها بأشكال متعددة ومتغيرة من أنواع الإيذاء، كحَسد الجار على ما أتاه الله من نِعم وفَضل، بل يتمنى زوال هذه النّعم عن جاره.
ليس ذلك فحسب، بل هناك أشكال كثيرة من الإيذاء كالسّخرية منه واحتقاره، أو إشاعة أخباره وأسراره بين الناس، أو الكذب عليه وتنفير الناس منه، أو تتبّع عثراته والفرح بزلاته، أو مضايقته في المسكن أو موقف السيارة، أو إلقاء الأذى عند بابه، أو التطلّع إلى عوراته، وعدم التزاور بين الجيران بحجة الانشغال في أمور الدنيا.
وكل ذلك وغيره، يُقسيّ القلوب على بعضها، ويزيد من الفرقة ويزرع الظنون السيئة والعداوة أحيانا، بل يؤدي إلى قتل شعيرة السلام وتجاهل الجيران بعضهم البعض عند اللقاءات المتكررة، وعدم تقديم يد العون والمساعدة لبعضهم عند الحاجة (5).
حقوق الجار على جاره
يحث المنهج الرباني على إحياء روابط علاقة الجيرة في أى مكان، فقال تعالى: {وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعض} [التوبة:71]، ومن أعظم الولاية ولاية الجار لجاره التي أوصى الله بها في كتابه، فأكد الكثير من الحقوق، ومنها:
- إلقاء السلام عليه؛ لِمَا في السلام من تقريب للقلوبِ، وتثبيت للمحبة والود، وهو من الأخلاق الحميدة، والصفات الرفيعة التي حثّ الإسلام المسلمين عليها، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “والَّذي نفسي بيدِه لا تدخلوا الجنَّةَ حتَّى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا أولا أدلُّكم علَى شيءٍ إذا فعلتُموهُ تحاببتُم أفشوا السَّلامَ بينَكم” (مسلم).
- زيارته في مرضه، والسؤال عن صحته، والدعاء له بالشفاء والصبر، والسير في جنازته إذا مات، وتقديم العزاء فيه، والمساهمة في إعداد الطعام وتقديمه لأهله.
- دعوته إلى المناسبات، مثل: الأعراس، وحفلات النجاح وغيرها، كذلك تلبية دعوته إلى مناسباته.
- ستر عيوبه، وعدم التكلم بها أمام الناس، وحفظ عرضه، حيث كان الجار في القديم إذا مرّ ووجد باب جاره مفتوحًا أغلقه سترًا لعورته وحرمته وحفظًا لسره.
- أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، والأخذ على يده إلى الخير.
- عرض البيت عليه في حال الرغبة في بيعه، لأنّه أولى الناس به.
- تقديم النصيحة الصادقة له في كلّ وقت، وتعظيم حرماته، وتجنّب غدره أو خيانته أو المكر له أو معاونة الآخرين عليه.
- الإحسان إليه قَولا وفعلا، وحمايته وتأمينه، وَرد الغيبة عنه، وعدم إلقاء القاذورات أمام بيته، وإماطة الأذى عنه، أو السعي في الفتنة بينه وبين الناس، قال رجلٌ: “يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها وصَدقَتِها وصيامِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانِها؟ قال: هيَ في النَّارِ” (أخرجه أحمد).
- عدم إيذائه بتطَاول البنيان عليه، وعدم رفع الأصوات وإيذائه بها، مثل صوت الأغاني الصاخب.
- تفقده في كل وقت، والاهتمام بقضاء حوائجه قدر الإمكان.
- تحمل أذاه، والصبر عليه، وتقديم الطعام له ومواساته إذا كان فقيرًا، وزيارته في الأعياد، وتهنئته.
- تمني الخير لجاره كما يتمناه لنفسه، ورعاية أبنائه وأسرته عند غيابه عن بيته، وتقديم الخدمات التي يحتاجونها لهم (6).
فوائد حسن الجوار
لحسن الجيرة فوائد يلمسها المسلم في الدنيا ويبقى أثرها له في الآخرة، ومنها:
- زيادة الإيمان لقول النبي- صلى الله عليه وسلم- :”ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جارَهُ” (مسلم).
- يورث حب الله وحب رسوله لقوله- صلى الله عليه وسلم-: “فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ يُحِبَّكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ، فَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَحْسِنُوا جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكُمْ” (مجمع الزوائد).
- حسن الجوار يزيد في العمر، ويُعمر الديار، فعن عائشة أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “صلةُ الرحمِ وحسنُ الجوارِ وحسنُ الخلقِ يُعمِّرانِ الديارَ ويزيدانِ في الأعمارِ] (أخرجه أحمد).
- الإحسان للجار سبيل دخول الجنة، “قال رجُلٌ: يا رسولَ اللهِ متى أكونُ مُحسِنًا؟ قال: “إذا قال جيرانُك: أنتَ مُحسِنٌ فأنتَ مُحسِنٌ وإذا قالوا: إنَّك مُسيءٌ فأنتَ مُسيءٌ” (صحيح ابن حبان) (7).
أخيرا
إنّ حُسن الجيرة من أساسيات بناء المجتمع الإيماني الذي يتعاون فيه أفراده على محبة الله والقرب منه من خلال تبادل المحبة والمودة التي أوجبها الإسلام على أتباعه، فمن شأن الجوار مكافحة الأمراض الاجتماعية التي تُعاني منها كثير من المجتمعات في عصرنا الحاضر.
المصادر والمراجع:
- هل تعلم عن الجار: 15 يوليو 2019،
- صبحي مجاهد: حسن الجِيرة أساس المجتمع الفاضل،
- ياسمين أنور: العلاقة بين الجيران: كيف تعمل على بناء علاقة صحية مع جيرانك؟،
- علاقات الجيرة والجيران – علاقة الجيران بين الماضي والحاضر: 2018،
- عبدالله قهبي: من صور إيذاء الجار، 8 نوفمبر 2007،
- عاتكة زياد البوريني: مفهوم حسن الجوار، 20 سبتمبر 2018،
- ندا أبو أحمد: حقوق الجار، 2 يوليو 2012،