الإنصات مهارة وفن قد لا يجيده الجميع، بل إن كثيرًا منا يجهله ولا يضعه ضمن قاموس يومياته وأحاديثه، لطبيعة نفسية تمرست على رفع الصوت والصراخ أثناء النقاش، كنوع من فرض الرأي، وإلقاء حجر في فم الطرف الآخر حتى يصمت.
يتصور البعض مخطئا، أن الصراخ يقدمه كبطل في الحوار، ويتناسى أن مهارة الإنصات هي القدرة على استقبال الرسالة وتفسيرها بدقة في عملية التواصل، وهي المفتاح الأساسي في عملية التواصل الفعال.
لذا يتطلب الإنصات الفعّال التركيز واستخدام الحواس الأخرى وليس سماع الكلمات المنطوقة وحسب.
قال الحسن بن علي، رضي الله عنهما، مؤدباً ابنه: يا بني إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ولا تقطع على أحد حديثاً وإن طال حتى يمسك (1).
ويقول الكاتب الأمريكي مارك توين: “إذا كان من المفترض أن نتحدث أكثر مما ننصت لكنا امتلكنا لسانين وأذن واحدة”.
الإسلام وقواعد الاستماع
تضافرت النصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف في وجوب حفظ اللسان وعدم إطلاق العنان له فيما لا خير فيه من الكلام، ولقد كان صلى الله عليه وسلم خير منصت، يستمع للرجل والمرأة والصغير والكبير والمسلم والكافر.
يقول الله تعالى تأكيدا على هذه المعاني والقيم: {وإِذا قرِئَ الْقرآنُ فاسَتمعُوْا لَهُ وأَنصُتوْا لعلَّكم ترحمُون} (الأعراف: 204). فقد حث الله تعالى المؤمنين على حسن الإنصات والإصغاء من أجل تدبر ما يقال.
وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الحج: 46).
وروى ابن سعد عن أنسٍ رضي الله عنه قال يصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ( كَانَ إِذَا لَقِيَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَتَنَاوَلَ أُذُنَهُ، نَاوَلَهُ إِيَّاهَا، ثُمَّ لَمْ يَنْزِعْهَا حَتَّى يَكُونَ الَرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَنْزِعُهَا عَنْهُ) [صحيح الجامع].
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على شر القوم يتألفهم بذلك، وكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ حتى ظننت أني خير القوم. (رواه الطبراني).
وفي حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع عتبة بن ربيعة حينما انتدبته قريش لمناقشة محمد صلى الله عليه وسلم في طبيعة رسالته، ظل يستمع النبي له بكامل جوارحه، حتى إذا فرغ قال له: “أفرغت يا أبا الوليد؟” قال: نعم! قال: “اسمع مني”، فتلى عليه آيات من سورة فصلت (البداية والنهاية لابن كثير). فيا للأدب منه صلى الله عليه وسلم! يا للأدب يوم تركه حتى انتهى من كلامه.
قيمة الاستماع بين الناس
الإصغاء باهتمام إلى شخص ما إحدى أفضل الطرق لإظهار الاحترام له، وتكوين صلة إنسانية عميقة معه. وعندما تصغي لشخص ما بعقلك وكل كيانك، فهذا يبعث له برسالة مضمونها أنك تقدر ما يقوله وتحترمه.
غير أن واقعنا يتجلى منه حقيقة مؤلمة وهي أن معظم الناس يقضون الوقت الذي يتكلم فيه الطرف الآخر في تحضير إجاباتهم عليها، والتدريب عليها، والقليل جداً هم من يحسنون الاستماع للآخرين بحق.
ولكي ننجح في تأثيرنا أو استثمار الحديث مع الآخرين فإننا نحتاج إلى إشارات تدل على حبنا للتواصل ومتابعة الحوار معهم، وسوء الفهم.. وسوء الظن يجران وراءهما كثيراً من النتائج السلبية التي تنعكس بشكل واضح على مجرى الحديث وعلى إمكانات حل النزاع بشكل إيجابي وفعال.
فمهارة الاستماع والإنصات لها قيمة وأثر بين الناس، مثل:
- توفير الوقت والجهد.
- التقليل من احتمال سوء الفهم، وفضّ النزاعات؛ فالاستماع الفعّال يسهم في تجنّب سوء الفهم ومنع نشوب الخلافات والشجارات.
- التحفيز على العمل الجماعي.
- تعليم احترام الآخرين، والإسهام في بناء علاقات قويّة وطيبة بين الشخص المتحدّث والمستمع.
- تعليم اتخاذ القرار، حيث يجعل الشخص يطلع على أكبر قدر من الآراء والمعلومات فيحللها ويتخذ قراره السليم.
- تطوير القدرات العقلية، حيث تعتمد مهارة الإنصات على حاسة السمع في حفظ المعلومات ومن ثمّ استخلاص الفكرة العامة للنص والتنبؤ بالنتائج(2).
أسباب عدم اكتساب مهارة الإنصات
يظن البعض أن التزام الصمت حينما يتحدث أحدهم يعني بالضرورة أنّك مستمع جيّد، فهذا ظن خطأ، أو أن المتحدث قد يقع في أخطاء تصرف المستمع عن الإنصات له، كالتكرار غير المفيد، أو بطء المتحدث أو رتابة الحديث.
غير أن بعض النفسيين وضح بعض أسباب عدم إنصات الأفراد للآخرين، وربما تكون أسباب جوهرية نفسية، إلا أن المرء يستطيع تغييرها، مثل:
- التسرع: ففي حالة كون المنصت من الأشخاص غير الصبورين فلن يستطيع الاستماع إلى النقاشات الطويلة، وسينتظر الوصول إلى الجانب الذي يريد الاستماع إليه.
- الملل: الأشخاص الملولين هم أكثر الأشخاص الذين لن يستطيعوا الإنصات طوال الوقت، خاصة في حالة طول وقت النقاش.
- التشتت: كأن يكون الشخص مهموما بهم شديد أو منتظرا خبرًا هامًا أو قلقا من موقف يمر به.. إلى غير ذلك.
- عدم وجود رغبة لدى المستمع للاستماع وينتج ذلك من شعوره بعدم أهمية ما يقال.
- الاستماع بغرض الانتصار وهو داء سيء جداً يعتاده البعض وسببه الرغبة دائما في تخطيء الآخر، إذ إن المستمع عندئذ يبدأ بالتخطيط للرد على المتحدث من أول كلمة يقولها(3).
فوائد تعلم فن الإنصات للآخرين
حسن الإنصات للآخرين دليل كبير على حسن الخلق بصفة عامة، فلا ريب أن حسن الاستماع والإنصات للآخرين مؤشر كبير ومهم لصفة محمودة جدًا وهي “الاحترام”، وأعني بالاحترام هنا احترام المرء لنفسه قبل غيره، فمقاطعة الناس وعدم إتاحة فرصة لهم للكلام دليل قاطع على الغوغائية والهمجية، ولذا فمن فوائد حسن الإنصات:
- فوائد نفسية، فإنَّ المتحدث عندما يجد من يصغي له بجد، ويشاركه في أفكاره، أو مشاكله فإنَّ ذلك يحقق له راحة نفسية كبيرة.
- فوائد فكرية، فإنَّ المستمع الجيد يضيف إلى علمه علماً جديداً، وأفكاراً جديدة قد يحصل عليها ممن هو أقل منه فضلاً عمن هو أفضل منه علماً ومعرفة.
- فوائد اجتماعية، فإنَّ المستمع الواعي يستطيع أن يكتشف شخصية المتحدث من خلال حديثه، وقسمات وجهه وحركاته، وما في تلك الشخصية من قوة، أو ضعف، وما تحمل من أفكار وعقائد، وما تضمر في داخلها من أهداف، وبذلك يجد مفاتيح الدخول إليها (4)، ويقول علي بن أبي طالب – رضى الله عنه: [مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ].
وللإنصات مهارات يحتاجها الداعية بل والإنسان العادي، ومنها:
- مهارة الفهم: وتحتاج هذه المهارة إلى الاستعداد للاستماع بفهم للكلمات والجمل، ثم القدرة على متابعة المتحدث وعدم صرف الذهن عنه بالشواغل المختلفة، ثم القدرة على استيعاب الفكرة العامة للحديث.
- مهارة الاستيعاب: وتحتاج هذه المهارة إلى القدرة على فهم الأفكار منفصلة في الحديث المسموع ثم الربط بين تلك الأفكار ثم القدرة على تحليلها إلى أفكار جزئية مكونة.
- مهارة التذكر: وتحتاج إلى القدرة على معرفة محددات النص المستمع إليه والجديد الذي احتواه والقدرة على ربطه بخبرات سابقة تسهل تذكره له والقدرة على الاحتفاظ بكلماته ومعانيه أو بأحدهما في ذاكرته (5).
وسائل لاكتساب مهارة الإنصات
يحتاج المربي أن يطبق آداب الاستماع وخطواته قبل أن يعلمها غيره فلا يقاطع متحدثا ولا يشوش عليه كما عليه أن يهيئ جواً ممتعاً للحديث المراد الاستماع إليه ولا يجعله شيئاً جافاً أو حديثاً أكاديمياً جامداً.
وعليه، فيجب على المربي تمرين نفسه وتدريبها ليصبح مستمعًا أفضل، وفيما يلي مجموعة من النصائح البسيطة والعملية التي تساعد المربي والداعية على تعزيز مهارات الاستماع الفعّال وتقويتها:
1- الشعور بأهمية موضوع الحديث يعطي دافعية داخلية للرغبة في الإنصات والاستماع.
2- الإقبال بالوجه نحو المتحدث واستخدام حاسة البصر للمساعدة في الاستماع.
3- طلب التكرار عند تشتت الذهن أو الغفلة.
4- إعطاء الفرصة الكاملة للمتحدث ليعبر عن مراده.
5- ملاحظة التعبيرات النفسية والعاطفية والحركية المختلفة للمتحدث أثناء الحديث.
6- تجنب أخذ الأحكام على الحديث قبل انتهاء الاستماع.
7- محاولة التدوين ليعين على تركيز السماع.
8- عدم مقاطعة المتحدث حتى ينتهي من عرض فكرته.
9- محاولة فهم الموضوع كما يريده المتحدث لا كما يريده السامع.
10- التحلي بالصبر والحلم والسكون والوقار وكما قيل: “أول العلم الصمت ثم حسن الاستماع” (6).
وهو المعنى الذي لخصه الشاعر أبو تمّام بقوله:
من لي بإنسان إذا خاصمته وجهلت كان الحلم ردَّ جوابهِ
وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى بهِ
أخيرا
تأتي مهارة الاستماع بالعديد من الفوائد التي تعود على الإنسان من خلالها، ودورها الفعّال في التأثير بالآخرين، فالناس يحبون من يسمع لهم، ويقدر آراءهم ويشعرهم بأهميتهم.
المصادر
- إبراهيم بن صالح الحميضي: فن الإنصات، 15 يوليو 2020،
- تعرّف على أهم 6 فوائد لمهارة الإنصات: 277 يوليو 2019،
- خالد روشه: الاستماع والإنصات.. أولى المهارات التربوية، 22 يوليو 2013،
- من فوائد حسن الإصغاء:
- خالد روشه: الاستماع والإنصات، مرجع سابق.
- عبير حماد: مهارات الإنصات: المبادئ العشرة للإنصات، 18 نوفمبر 2016، https://bit.ly/3u6lZIp