كغيره من أمراض القلوب يتسلل حب الشهرة والعجب إلي القلوب رويدا رويدا حتى يتملك من قلب صاحبه، وقد لا يشعر الإنسان بذلك إلى أن يتحكم في الجوارح والسلوك.
وحب الشهرة والظهور من الشهوات الخفية المخيفة التي تتملك قلوب العباد خاصة بعض المتصدرين للعمل العام، تتسلل إليها خفية حتى تصير من موجبات الردى، فتأكل الحسنات وتحبط الأعمال، فقد روى البزار من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاث مهلكات: شُح مطاع، وهوى مُتبع، وإعجاب المرء بنفسه”، ويقول الإمام سفيان الثوري ناصحا صديقه: “احذر حب المنزلة، فإن الزهادة فيها أشد من الزهادة في الدنيا”، ويقول الحسن البصري: “كفى بالمرء شراً أن يشار إليه بالأصابع”، ويقول الفضيل بن عياض: “ما أحب أحد الرئاسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير”.
وهنا نود أن نوضح أن التذكير بكل ذلك ليس مدعاة لكل الناس لترك التقدم لمسؤولياتهم أو مناصبهم، ففي ذلك إبعاد للصالحين عن دائرة العمل العام، ومما لا شك فيه أن الشر الذي يتسبب فيه ذلك أكثر بكثير من تواجد الصالحين في تلك المساحات والأدوار، بينما ما نود نشير إليه هو أنه من الواجب تعهد القلب لضبط بوصلة النية باستمرار، ومراجعة النفس لإصلاح كل خلل يظهر فيها، وبطبيعة الحال يكون ذلك بما لا يقعد عن القيام بالواجبات.
المظاهر والمؤشرات
حرص المرء أن تكون صورته حسنة في قلوب الآخرين وأن تعلو منزلته في العالمين هو أمر فطري، لكن الانحراف يبدأ عندما يتحكم هذا الشعور الفطري في سلوك الإنسان فيصبح المحدد والمحرك الرئيس لسلوكه، والباعث الأساس علي الحركة، و المرجح بين الأعمال أداء وتركا، ويصبح حينذاك الحصول على رضا العباد على حساب رضا رب العباد .
وتزداد خطورة هذا المرض في عصرنا مع ازدياد التقدم في تقنية المعلومات ووسائل الاتصالات وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي والقنوات الإذاعية والتلفزيونية؛ إذ يظهر هذا الأمر ويتضخم عند بعض من يتصدر في تلك المساحات، فيصبح لا هم له سوى إعجاب الناس بأعماله وانتشار شهرته. ومن هنا تأتي أهمية التحذير والوقاية من هذا المرض الخلقي الرديء، الذي من الممكن تسميته بالمرض القاتل الصامت؛ لأن أخطر الأمراض هو الذي لا يشعر به المريض إلا عند الفتك به، فكيف إذا كان يستمتع به ويحرص عليه؟
كما أن خطورة هذا المرض في هذا العصر وتغلب حب الشهرة على دوافع المرء أدى إلى انتشار التفاهات والحرص على ما يعجب الناس لينال حظا ومكانة عندهم لا الحرص على من ينفع الناس ويفيدهم، وفي السابق كان هذا الأمر يقتصر على فئة محدودة من الفنانين في إطار حرصهم على النجومية بصرف النظر عن الوسائل التي يصلون بها لذلك، واليوم أصبح مرضا عاما لا يخص فئة معينة، فكم الفيديوهات والمنشورات التافهة على شبكات التواصل ليس لها هدف سوى لفت الأنظار وتحصيل مزيد من الإعجاب لصاحبها، ومن هنا تزايدت وانتشرت مساحة التفاهة في المجتمع والحياة.
الاكتشاف المبكر
كسائر الأمراض الخطرة يأتي الاكتشاف المبكر لها كأول خطوات العلاج منها، وحب الشهرة إذا اكتشفه العبد مبكرا ربما كان أقدر على التخلص منه ويأتي ذلك من تعهد النفس بالمراجعة والمراقبة أولا بأول بعد كل عمل؛ فإذا وجد نفسه يتطلع إلى مدح الناس أو يتضجر من النقد والنصيحة أو تأبى عليه نفسه الرجوع إلى الحق إذا روجع فيه؛ فإن معنى ذلك أن هذا المرض بدأ يتسلل إليه فليسارع بالعلاج؛ فالعجب وحب السمعة والشهرة يبدأ بشعور في النفس ثم لا يلبث أن يتحول إلى مظاهر كارثية كالكبر والبطر وما أدراك ما الكبر؟ ألا يكفي قوله تعالي: “كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ” وقوله تعالى: “أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ”، والكبر هو سبب ونتيجة لخلق حب الشهرة والظهور؛ فإذا وقع الإنسان في شراكهما أصبح يدور في دائرة مغلقة، فكلما كثر إعجابه بنفسه امتلات نفسه تكبرا وغطرسة وكلما امتلئت تكبرا كثر إعجابه بنفسه، يقول ابن قدامة رحمه الله: “واعلم أن العُجب يدعو إلى الكِبْر لأنه أحد أسبابه، فيتولد من العُجب الكِبْر، ومن الكِبْر الآفات الكثيرة، وهذا مع الخلق؛ فأما مع الخالق: فإن العُجب بالطاعات نتيجة استعظامها، فكأنه يمُنُّ على الله تعالى بفعلها، وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها، ويعمى عن آفاتها المفسدة لها؛ وإنما يتفقد آفات الأعمال من خاف ردّها دون من رضيها وأعجب بها، والعُجب إنما يكون بوصف كمال من علم أو عمل …”.
علاج العجب وحب الشهرة
أولًا: الإخلاص:
في القرآن سورة تسمى سورة الإخلاص، تعدل ثلث القرآن؛ فمدار الأعمال كلها على الإخلاص ولا يوضع في ميزان المرء من الأعمال إلا ما كان منها خالصا لله وما سوى ذلك سيكون هباءً منثورا؛ فعلى الإنسان أن يراجع نيته قبل العمل وبعده، مع دوام التعلق بالله سبحانه وتعالى فهو الباقي بعد فناء الخلائق، فكل شيء هالك إلا وجهه؛ وليتذكر العبد تلك الحقيقة القرآنية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص: 88)، وقوله تعالي: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الشورى: 36).
ثانيًا: تذكير النفس بسوء عاقبة العجب وتحذيرها من من مكر الله وغضبه:
يقول تعالى: {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ} و قلوب العامة لا أمان لها ومن الجهل الاعتماد عليها إذ أن قلوبهم تتجاذبها الأهواء والتقلبات والمصالح ولا تستقر على حال ويصعب الرهان عليها والاعتماد عليها فربما جاء غيرك وسبقك إليها فانفضوا إليه وتركوك قائما.
ثالثًا: رد الفضل إلى الله في أي نعمة تدعو إلى العجب:
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (النحل: 53)، فلم التفاحر والعجب بشيء لا فضل للإنسان فيه؛ فإذا أعجب الإنسان بحسن مظهره فالله هو من صوره بهذا الشكل الجميل ففي أحسن تقويم خلقه وقدره فالفضل في الحسن للخالق وليس للمخلوق، وإذا أعجب بماله فالله هو من بسط له الرزق فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وإذا أعجب بعلمه وهدايته فالله هو من علمه وهداه إلى ذلك ولو شاء الله ما اهتدى. وقد قص علينا القرآن أمر قارون عندما أعجب بماله فقال: {… إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي …} ورفض ما ذكره به قومه ولم يتنبه حتى خسف الله به وبداره الأرض؛ وفي قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف رد الفضل إلى الله، وقيل له: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}؛ فلم يتنبه إلا وقد أحيط بثمره وأصبحت جنته صعيدا زلقا: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا}.
رابعًا: دوام تذكر الآخرة:
وتذكر الآخرة يحقر ما سواها؛ فالعاقل لا يبيع آخرته بعرض فان من دنياه، يقول ابن القيم في معرض كلامه عن ذم العجب وحب الشهرة: “لا يجتمعُ الإخلاصُ في القلبِ ومحبةُ المدحِ والثناءِ والطمعُ فيما عِندَ الناس، إلا كما يجتمعُ الماءُ والنارُ، والضب والحوتُ، فإذا حدثتكَ نفسُكَ بطلب الإخلاصِ فأقبِل على الطمع أولًا فاذبحهُ بسِكين اليأسِ، وأقبِل على المدح والثناء، فازهَدْ فيهما زُهدَ عُشاقِ الدنيَا في الآخرة، فإذا استقامَ لك ذَبحُ الطمع والزهدُ في الثناءِ والمدح سَهُلَ عليك الإخلاصُ، فإن قلت: وما الذي يسهلُ على ذَبحَ الطَّمعِ، والزهدَ في الثناءِ والمدح؟ قلتُ: أما ذَبحُ الطمع فيُسَهِّلُه عليك عِلمُكَ يقينًا أنه ليس من شيءٍ يُطمَعُ فيه إلا وبيد الله وحدَه خزائنُه لا يملكُهَا غيرُه، ولا يُؤتي العبدَ منها شيئًا سواه، فاطلبه من الله، وأما الزهدُ في الثناء والمدح، فيسهلُه عليكَ علمك أنه ليس أحدٌ ينفعُ مدحُه ويزينُ، ويضرُّ ذمُّه وَيشِينُ، إلا الله وحدَه، كما قال ذلك الأعرابي للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ حَمدِي زَينٌ، وإنَّ ذَمِّي شَينٌ، فقال صلى الله عليه وسلم: ذاكَ اللهُ عز وجل ـ فازهد في مدح من لا يَزِينُكَ مَدحُه، وفي ذمِّ من لا يَشنيُك ذمُّه، وارغَب في مدحِ من كل الزين في مدحهِ، وكلُّ الشَّينِ في ذمَّه، ولن يُقدَرَ على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدتَ الصبرَ واليقينَ كنتَ كمن أرادَ السفَر في البحر في غير مركب”. انتهى.
الله يعصم أنبياءه وأصفياءه
فلننظر ونتدبر كيف يحمي الله أنبياءه وأصفياءه من هذا الخلق الرديء وهم أشرف الخلق وأعلاهم منزلة فيردهم إلى فضله ويذكرهم بنعمته يقول لموسى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ} ويقول لعيسى: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ}، ويقول لمحمد: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8)} (الضحى). صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، وكذلك يربي المؤمنين برد الفضل في إيمانهم وهدايتهم إليه: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات: 17).