يموت العلماء أو المصلحين أو الدعاة، ويظل علمهم شامة مضيئة يستنير بها الناس في ظلمات الجهالة، وتجري عليهم الحسنات في قبورهم، وممن نحسبهم من هؤلاء حامد شريت الذي لم يُخلّف كُتبًا، لكنه خلّف أجيالًا تربّت على يديه بالمواقف العملية.
وأناس كثيرون يعملون لدينهم ولرفعته، غير منتظرين مالًا ولا شهرةً، كصاحب النقب الذي ضحى بنفسه من أجل الله وحده، واختفى ولا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وهكذا كان “شريت” الذي ضحّى من أجل دينه ودعوته حتى لقي الله شهيدًا داخل ظلمات السجون.
نشأة حامد شريت
وُلِدَ الشيخ حامد شريت في قرية ريفا بمحافظة أسيوط بصعيد مصر، لأسرة كريمة، وقد كان الوالد أحد علماء الأزهر الشريف، وحرص على تربية أبنائه تربية إسلامية، فألحقهم بالتعليم الأزهري، وتخرج الشيخ حامد في كلية دار العلوم، وعمل في التدريس تارة وفي الخطابة تارة أخرى.
وأعطى الشيخ حامد جُل وقته للعمل داخل جماعة الإخوان المسلمون، وكان له دور عظيم وسطها حتى اعتُقل عام 1954م وحُكِمَ عليه بالأشغال الشاقة المؤبّدة، وعُذّب عذابًا شديدًا في السجن الحربي، وظل داخله مات على إثر تناول وجبة سمك فاسدة عام 1966م(1).
الشيخ حامد شريت وسط الإخوان
وكان حامد شريت وأخوه الشيخ أحمد شريت من أوائل الذين تعرفوا على دعوة الإخوان المسلمون وهى ما تزال في مهدها، فالتقيا مع عدد من أصدقائهما وتعاهدوا جميعًا على العمل لتكوين جمعية تدعو إلى الإصلاح والعمل لدين الله، في الوقت الذي كان الإمام حسن البنا يضع الغرس في العام نفسه لدعوة الإخوان بالإسماعيلية، حيث شكلوا جمعية الحضارة الإسلامية، لكنهم ما إن اتصلوا بالإمام البنا حتى اقتنعوا بتوحيد الجمعيتين تحت مظلة الإخوان المسلمون لتصبح جمعية الحضارة الإسلامية أول فرع لشعبة الإخوان المسلمون بالقاهرة.
يقول الأستاذ البنا في مذكرات الدعوة والداعية: وفي صيف عام 1929م الموافق 1348هـ دعت جمعية الحضارة الإسلامية الإمام الشهيد لإلقاء محاضرة لرواد الجمعية بعنوان “الإسلام أساس السعادة”، وبعدها اجتمع أعضاء الجمعية وقرروا الانضمام إلى جمعية الإخوان المسلمون في الإسماعيلية، وعرضوا ذلك على الإمام الشهيد فوافق على ذلك، وأشار عليهم أن يتخذوا دارًا جديدة غير هذه الدار، فتم اختيار دار جديدة هي منزل سليم باشا حجازي بسوق السلاح.
وعمل الإخوان بأنفسهم حتى أصبحت الدار مقصدًا لكثير من الطلاب والشيوخ، وكان منهم الشيخ محمد فرغلي والشيخ أحمد حسن الباقوري والشيخ محمد أحمد شريت وأخواه حامد وأحمد، والشيخ عبد اللطيف الشعشاعي، والأستاذ محمد النبراوي، والشيخ جمال العقاد السوري الحلبي، وقامت الإسماعيلية بجهود مشكورة في إمداد فرع القاهرة الناشئ بالمعونات المادية حتى تصبح منبرًا لدعوة الإخوان في العاصمة المصرية(2).
وما إن فقه آل شريت دعوة الإخوان وفهموا منهجها ومبادئها حتى حملوا الشعلة وأسسوا أول شعبة للإخوان المسلمون في أسيوط واختير الشيخ مصطفى الرفاعي اللبان والشيخ حامد ليكونا أول ممثلين لإخوان أسيوط في مجلس الشورى العام للإخوان المسلمين عام 1933م.
مواقف تربوية
وامتلأت حياة الشيخ حامد شريت بمواقف تربوية، استفادت منها أجيال عاصرته وأخرى سمعت عنه، ومن هذه المواقف:
- لجان لزيارة المحافظات: فحينما شكّل الإمام البنا لجان لتزور المحافظات والشُّعَب، كان الشيخ حامد على رأس إحدى المجموعات، وكذلك الشيخ عبد الباري خطاب، فزارا المنوفية والقليوبية ومراكزها، شبين الكوم، وقويسنا، ومنوف، وتلا، وأشمون، وشبين القناطر، وطوخ، وبنها، وقليوب، واستطاعا أن يأثرا في الناس بحسن حديثهما ومواقفهما العملية التي اتسمت مع الإسلام.
- قدرة تنظيمية وهمة عالية: أصبح الشيخ حامد محل رعاية خاصة من الإمام البنا لِمَا وجده فيه من عُلو همة وروح وثابة، ففي 19 من ذي الحجة 1356هـ الموافق 20 من فبراير 1938م عُقد مؤتمر طلبة الإخوان المسلمون الذي كان برئاسة الإمام البنا، واختير الشيخ حامد ليكون سكرتيرًا للمؤتمر لقدرته التنظيمية وقربه من الطلاب، وكان يعاونه محمد عبد الحميد أحمد عضو مكتب الإرشاد ومحمد الجنيدي جمعة عضو مكتب الإرشاد.
وافتتح المؤتمر بكلمة للشيخ حامد سكرتير المؤتمر جاء فيها: للإخوان مبدأ معلوم ومنهاج مرسوم، وفكرتهم في كل أدوارها وخطواتها ومناهجهم “إسلامية” صريحة واضحة لا تتلوى ولا تتلون، ولا تستمد من غير الإسلام وتعاليم الإسلام وقواعد الإسلام.
أولى خطوات هذا المنهاج الإسلامي: التكوين الذاتي أو إعداد النفس وتسوية الصف وحصر الفكرة في حيز محدود يؤمن بها ويعمل لها.
- والخطوة الثانية: مصارحة الأمة بها ودعوتها إليها، والآن وقد استقام صف الإخوان ونادتهم حاجة الأمة وظروفها أن يتقدموا وأصبح الإنقاذ موقوفًا على انتشار هذه الفكرة والأخذ بها والعمل على تحقيقها فإن الإخوان يستعينون بالله في أن يتقدموا بخطوتهم الثانية داعين الأمة إلى منهاجها وما هو إلا الحق والصبر والأخذ بالجد والحزم والوحدة المنتجة والعمل الدائب والإيمان العميق وهي دعائم نهضات الأمم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: 24)(3).
ونشط الشيخ حامد في لجنة المؤتمر ووضعوا أهدافًا لبثها بين الشباب والناس كان منها:
أولًا: الاتصال الدائم بروابط الشباب بشعب الأقاليم لتوحيد الجهود وتنظيم نواحي النشاط.
ثانيًا: مطالبة شباب الإخوان بضرورة الاشتراك في “النذير”، والمساهمة في أعباء الدعوة المالية بدفع سهم الدعوة أو اشتراك محدد في كل شهر، على أن يعهد بتنظيم تحصيل الاشتراكات إلى الأخ حسن صادق، وتنظيم توزيع النذير إلى الأخ أحمد حجازي.
ثالثًا: على كل مندوب أن ينظم اجتماعًا دوريًّا لطلبة الإخوان بالكلية أو المدرسة مرة كل أسبوع، ويعهد إلى الأخ محمد حسين أبو سالم بتنظيم هذه الاجتماعات.
رابعًا: عقد اجتماعات دورية عامة بالدار للتعارف بين طلبة الكليات والمدارس في مساء الخميس من كل أسبوع.
خامسًا: تنظيم الطلبة بشعب القاهرة على أساس يكفل نشر الدعوة بالأحياء، على أن يعهد إلى الشيخ حامد بالإشراف على ذلك التنظيم(4).
شريت وقيادة النظام الخاص
كانت مصر والبلاد العربية والإسلامية تقع تحت المحتل الغربي، ورأى الإمام البنا أنّ هذا المحتل لن يجلو عن البلاد إلا بمنازلته ومقارعته وإظهار القوة له، لكون المفاوضات غير مُجدية مع مِثل هذا المحتل.
لذا شكل النظام الخاص للقيام بعمليات نوعية ضد المحتل وأعوانه، والتصدي لمحاولات الصهاينة افتراس فلسطين، ووضع له قيادة حكيمة تضبط إقاعه فاختار خمسة من رجالات الإخوان المشهود لهم ليكونوا مشرفين على هذا الجهاز، كان الشيخ حامد واحد منهم، بالإضافة إلى صالح عشماوي، وحسين كمال الدين، وعبد العزيز أحمد، ومحمود عبد الحليم، كما اختار خمسة ليقود النظام على رأسهم السندي ومشهور والصباغ وأحمد حسن وأحمد حسنين.
يقول محمود عبد الحليم: “كان ذلك في عام 1940 حين دعا خمسة منا هم: صالح عشماوي وحسين كمال الدين والشيخ حامد وعبد العزيز أحمد ومحمود عبد الحليم، وعرض علينا الدواعي التي رآها تقتضي الاستعداد وإنشاء نظام خاص تواجه الدعوة به مسؤولياتها في المستقبل.
واقتنعنا برأيه فكوّن منّا نحن الخمسة قيادة هذا النظام، وعهد إلينا بإنشائه وتنظيمه وتدريبه، على أن يكون على أساس من العسكرية الإسلامية القوية النظيفة”(5).
بين أتون المحن
كان لنشاط الشيخ حامد شريت أثرًا في وضعه في دائرة استهداف الأمن، فاعتقل للمرة الأولى في مارس 1947م بتهمة التظاهر أمام محكمة الاستئناف، وجاء في جريدة الإخوان المسلمون اليومية: “كان أمس موعد النظر في قضية التظاهر التي اتُّهم فيها الأستاذ حَامِد شريت أمام محكمة الاستئناف، إذ أبت النيابة إلا أن تستأنف، بعد أن صدر الحكم ببراءته ابتدائيًّا، فكان أن تأيد حكم البراءة استئنافيًّا. وليس أدل من هذا على تعنت رجال الإدارة والنيابة مع الأبرياء العاملين لخير وطنهم فى حدود الدستور والقانون، ولسنا ندرى لحساب من هذا التعنت الذى لا مبرر له ولا عذر فيه.
ولما كانت وزارة المعارف قد أصدرت أمرها بإيقاف الشيخ حامد، فضلاً عن أمر نقله إلى الأقصر الذى لا تمليه مصلحة العمل فوق إضراره بمصالحه وظروفه العائلية، فإن الأمر الآن أصبح يقتضي إلغاء هذين الأمرين الجائرين وإعادته إلى مدرسة أسيوط الابتدائية الأميرية كما كان، تصحيحًا للأوضاع، وإحقاقًا للحق وتأمينًا للناس، وأما كفارة الظلم والمثوبة على الصبر فأجرهما عند الله تعالى. وما عند الله خير وأبقى.
وقد أرسل الإمام البنا بخطاب لوزير المعارف آنذاك السنهوري باشا حيث أعاده لوظيفته مرة أخرى بمدرسة أسيوط الأميرية(6). كما أنه اعتقل في محنة عام 1948م حيث ظل في السجن لفترة ثم خرج مع بقية إخوانه.
وبعدما تعرضت الجماعة للمحنة الشديدة عام 1954م نال “شريت” من العذاب الشديد، وحُكم عليه بعشر سنوات.
ثم اعتقل مرة أخرى عام 1965م، حيث يقول أحد رفاقه في السجن: بعد انتهاء النيابة من التحقيق جمعوا إخوان أسيوط بما سموه تنظيم أسيوط ورأيت ساعتها كل الأحباب وعلى رأسهم الشيخ حامد ولا أنسى حين أمروا الإخوان باعتلاء ظهر الشيخ حامد واحدًا بعد الآخر وكان يومًا عصيبًا.
ودخل الطاغية حمزة البسيوني عصر أحد الأيام إلى السجن الكبير الذى كُنّا فيه راكبًا حصانه، وكان قصير القامة ممتلئ الجسم ذو شارب طويل وله منظر يُمكن أن تتعرف إلى أحد مناظر الشيطان إذا نظرت إليه وكان يعقب زيارته للسجن تكديرة للضباط والجنود لكي ينشطوا في تكدير الإخوان، كان الشيخ حامد يُقيم في زنزانة قريبة من زنزانتي وكان يرافقه فيها الدكتور محمد بديع(7).
ولم يترك الشيخ حامد تراثًا فكريًا ولا مؤلفات لكنه ترك رجالًا حملوا الدعوة وانطلقوا بها في ربوع الأرض، ومنهم الدكتور بديع الذي تعلم منه الكثير فترة إقامته معه في الزنزانة. وظل الشيخ حامد حصنًا حصينًا لشباب الدعوة حتى اصطفاه الله شهيدًا- نحسبه كذلك والله حسيبه.
المصادر والمراجع:
- محمد الصروي: الإخوان المسلمون في سجون مصر (من عام 1942م-1975م)، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2007م.
- حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2002.
- جمعة أمين عبدالعزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمون، الجزء الثاني، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2004، صـ 262.
- جمعة أمين عبدالعزيز: أوراق من تاريخ الإخوان، الجزء الرابع، صـ 180.
- محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، الجزء الأول، دار الدعوة للنشر والتوزيع، الإسكندرية، 1999.
- المرجع السابق.
- محمد الصروي: مرجع سابق.