جبر الخواطر.. عبادة الطيبين
هؤلاء المنكسرةُ قلوبهم، المحبطة آمالهم
المخذولون الآيسون
وكلنا يا صاحبي على هذا الحال حتمًا واردون
إلى أي شيء حينها نحتاج أو يحتاجون؟!
إن كلمة قد تسقط على جدار قلوبنا اليابس فتحييه
وأخرى قد تصبح شعلة تهدينا في نفق مظلم
وأخرى تمر بحلوقنا الظمأى فترويها
وهذه الكلمات لا تنبعث إلا من أفواه الجبارين
أولئك الذين استلهموا اللطف من اسم الله الجبار
من يَجبُر ضعف القلوب وفاقتها
من يَجبر الفقرَ بالغنى والعلةَ بالصحةِ والخيبةَ بالأمل
لجبَرِه تعبدَ رسولُ الله بين كل سجدتين فقال:
(اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني)
والذين يستلهمون تلك المعاني يصير جَبرهم لطفًا ورأفةً لا قهرًا وغلظةً
جبرًا للخواطرِ ومراعاةً للمشاعر
سبحانه من يَجبر بتلبية الحاجات
فجَبَر خاطرَ نبيه حينما قلّب وجهه في السماء
رغبةً أن تكون وِجهة الصلاة إلى البيت الحرام
أطلعه الله على علمه بحاجته فقال
(قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا)
رد موسى عليه السلام إلى أمه المكلومة
لا لشيء إلا ترضيةً لخاطرها
(فَرَدَدْنَٰهُ إِلَىٰٓ أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ)
والجَبرُ كذلك بتفقد الأحباب
حين عدّ الصحابة كل من فقدوهم في إحدى الغزوات حتى فرغوا منهم جميعهم
عقّب رسول الله قائلًا:
(لكني أفقد جليبيبًا)
وهو صحابي بسيط لم يكن يفتقده أحد
الرحمة المهداة صلوات الله وسلامه عليه
كان يتفقد طفلًا يقال له أبو عمير
فيسأله حين يلقاه عن طائره النغير
(يا أبا عُمَيْر ما فعل النُغَيْر!)
هذا اللطف النبوي
تراه حين يلحظ صحابيًا يطيل المكوث في المسجد في غير أوقات الصلاة
فيتفقد أحواله ويسأله.. فيشكو له همًا ودينًا
فيوصيه بدعاء يُذهب الهم ويقضي الله به الحاجات
كثير من الجبر يكون بالكلمة
(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)
(وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا)
لما قيل لعمر بن الخطاب أنه فظ غليظ
طيّب رسول الله خاطره بقوله
(والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك)
حين ضحك البعض من دقة ساقي عبد الله بن مسعود
أنكر عليهم رسول الله ذلك وقال
(والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد)
سَرِية من المسلمين حين ظنوا أنهم هلكوا لفرارهم من العدو
قالوا يا رسول الله (نحن الفرارون)
فقال (بل أنتم العكّارون -أي العائدون إلى القتال- وأنا فئتكم)
هذه الرقة لمن يحسنون فن المواساة
من يَجبرون خواطر الغير بالاعتذار والاعتراف بالخطأ
ولا ينكرون على الغير مشاعرهم وأحزانهم
من يرفعون همم المحبطين
فيذكّرونهم بمحاسنهم ومحامدهم ونقاط قوتهم
والجبر كذلك في تلبية الدعوات
قد أورد رسول الله حقوق المسلمين على بعضهم
لِما يعلم ما فيها من جبر للخواطر
فقال صلى الله عليه وسلم:
(حق المسلم على المسلم خمس:
رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز
وإجابة الدعوة وتشميت العاطس)
جبر الخواطر بالإنصات إلى الغير
وما موقف أم المؤمنين عائشة وحديث أم زرع عنا ببعيد
فقد أطالت أم المؤمنين عائشة الحديث
وأطال خير الخلق لها الإنصات
متفاعلًا مع حديثها، لا يسفه، ولا يظهر التململ
توقفه امرأة عجوز في الطريق
فيقف لها طويلًا تكلمه في حاجاتها
حتى تيقن عدي بن حاتم وهو يرقب هذا الموقف
أنه ليس بملِك وإنما نبي كريم
كان عطاء بن أبي رباح يقول
(إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به
فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئًا)
وللصغار مع جبر الخواطر كلام
كان رسول الله يترك طفلًا يلهو فوق ظهره وهو ساجد
كي لا يكسر خاطره
يمر على الصبيان فيسلم عليهم
في حين يغفل الكثيرون عن رؤيتهم
يستأذن طفلًا على يمينه أن يعطي شرابًا لشيخ على يساره
فيأبى الصغير فيقر له رسول الله بحقه
والحال أن كل ضعيف بحاجة إلى من يجبر خاطره
يتيمٍ كان أو فقير، مريضٍ كان أو عجوز
وإلا فكيف نفهم هذا التوجيه الإلهي؟!
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ)
وقد قال الله مُنكِرًا على بعض عباده
(كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ )
لا يَجبر الخواطرَ ضيقو الصدور.. المشغولون بأنفسهم
عندما تتأمل الغاية وراء أمر الله
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ)
تعرف حينها كيف ومتى يكون جبرُ الخواطر
فالداخل على مجلسٍ يحتاج للشعور بهذه الفسحة والقبول بين الجالسين
والفسحةُ قبل أن تكون في المقاعد فهي في النفوس و المشاعر
يجبر الخواطرَ محبو الخير لغيرهم
الطيبون أصحاب الأثر الطيب
المتعبدون لله بها
لعله ينجيهم بها من المخاطر
يقول الإمام سفيان الثوري
(ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم)
يجبر الخواطر الواعون لحديث نعمان بن البشير
(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)
ولا عجب فغايةُ كثيرٍ من أوامر شرعنا الحنيف جَبرُ الخواطر
وأكثر الجبر لا يحتاج إلى جَهد كبير
ولا يلزمه مالٌ وفير
إنما إنصاتٌ ومواساة.. وبسمة وكلمة