لقد اصطفى الله سبحانه أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- بكتاب جاء فيه توجيهات قرآنية وأوامر ونواهٍ وخريطة رُسِمَت من لدن رب كريم لفلاح ونجاة الناس وصلاحهم إذا التزموا بما جاء من تعاليم ربانيّة، قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأنعام: 155].
وتوجيهات القرآن تدعو إلى بناء الإنسان من الداخل؛ قلبه ومشاعره وإرادته، حتى إذا استقام حاله على توازن واعتدال واستقر على هدى من الله، استطاع أن يواجه المصاعب والأزمات وما يتعرض له من أمور الدنيا من غنىً أو فقر أو صحة أو مرض وغير ذلك.
توجيهات قرآنية شاملة
واشتمل كتاب الله العزيز على توجيهات قرآنية وتعليمات ربانية عديدة، فلم تترك جانبًا من جوانب الحياة إلا وعالجته، ووضعت قواعد للمسلمين يرتكزون عليها في علاج هذه الجوانب، وفي الوقت نفسه تركت لهم مساحة واسعة للتراحم بينهم وسكتت عن أشياء رحمة بالأمة الإسلامية.
وهذا المعنى أوضحه النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله: “إنَّ اللهَ فرض فرائضَ فلا تُضيِّعوها وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياءَ فلا تنتهِكوها وسكت عن أشياءَ رحمةً بكم غيرَ نسيانٍ فلا تسألوا عنها” (حديثٌ حسن، رواه الدَّارقُطْني وَغَيْرهُ).
وحينما بعث الله النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- أمره بعدم الرّكون أو السكون أو ترك الناس في حالهم، لكنه أمره بأن يُنذرهم ويوضح لهم الطريق فقال تعالى: { قُمْ فَأَنْذِرْ}، ثم تتابعت التوجيهات على شخص نبيه كرسالة إلى أمته من بعده فقال تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ* وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ* وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:3-7]، وهي آيات تحمل توجيهات نحو الإيجابية وترك السلبية أو الجزع أو الخوف من تبليغ دعوة الله ودينه للناس.
وهو ما يجب على كل مسلم أن لا يترك سبيلًا ولا وسيلة شرعية إلا وسلكها، لأن الخطب عظيم والمسؤولية كبيرة؛ فلا مجال للتقاعس ولا للتدثر بشهوات الدنيا والتلهي بها، ولا مجال لأن يكون أحدنا في موقف المتفرج الناقد المثبط فقط؛ بل يجب أن يكون لاعبًا أساسيًّا له دور إيجابي وواضح في حمل الأمانة حتى تصل إلى الناس.
وعلى المسلم أن يجعل مقصده فقط لله سبحانه. يقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “مَنِ التمسَ رضا اللَّهِ بسَخطِ النَّاسِ كفاهُ اللَّهُ مؤنةَ النَّاسِ، ومنِ التمسَ رضا النَّاسِ بسخطِ اللَّهِ وَكلَهُ اللَّهُ إلى النَّاسِ” (صحيح الترمذي).
ومن التوجيهات المهمة التي جاءت في القرآن الكريم، عدم المنّ على الله أو على عباده بشيء، مصداقًا لقول الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}[الحجرات]، فهو توجيه إلى عدم المنّ بما يُقدّم من الجهد، أو استكثاره واستعظامه.
وهو المعنى الذي ذكره الشهيد سيد قطب في تفسير الظلال بقوله: “بل حين لا تستشعره من الأصل لأنها مستغرقة في الشعور بالله؛ شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه، وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله، لا المنّ والاستكثار) (1).
الصلابة والثبات
ويحمل كتاب الله، توجيهات قرآنية لبناء شخصية المسلم وجعلها قوية صلبة لا تزعزعها الخطوب ولا تنكسر أمام الحوادث، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، فهذا حث على الإقدام وعدم الخوف أو الحزن من فوات أو ضياع شيء قد قدّره الله، لأن مشاعر الحزن والضيق والأسى مشاعر سلبية لا تحل المشكلة.
قال ابن تيمية– رحمه الله-: “وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام وأن العاقبة للتقوى”.
وجاءت الكثير من التوجيهات لتقويم وبناء شخصية المسلم بناء قويًّا مستقيمًا، فقال تعالى على لسان لقمان لابنه: “وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” [لقمان:18].
يقول الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله-: “الخيلاء شعور طفولي بالعظمة والفخر، وحديث المرء عن نفسه أو قومه باعتزاز ينشأ عن الجهل أو الذهول عن حقوق الآخرين، وفي الإسلام حرب موصولة ضد الاختيال والاستكبار)(2).
تربية الأولاد
وأوجبت الشريعة الإسلامية على الآباء أن يُحسنوا تربية أبنائهم ورعايتهم، وحرّمت تضييعهم وتضييع حقوقهم، حيث جاءت توجيهات قرآنية أكدت هذا المعنى، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}[الطور:21].
يقول الإمام أبو حامد الغزالي- رحمه الله-: “الصبيُّ أمانةٌ عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرةٌ نفيسةٌ خاليةٌ عن كل نقشٍ وصورة، وهو قابلٌ لكل نقش، ومائلٌ إلى كل ما يُمالُ إليه، فإن عُوِّد الخيرَ نشأ عليه، وسَعِدَ في الدنيا والآخرة أبواه، وإن عُوِّد الشر وأًهْمِلَ إهمال البهائم، شَقِيَ وهَلَكَ،وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه”.
ولقد أورد القرآن الكريم كثيرًا من هذه التوجيهات التي حافظ عليها الأنبياء أنفسهم نحو أبنائهم، فهذا إبراهيم الخليل يدعو الله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}، وهذا يعقوب- عليه السلام- يتعهد أولاده حتى رمقه الأخير، قال تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة:133]. وهو ما أوجبه الإسلام من حسن التعهد في تربية الأولاد بما هو صالح لهم في الدنيا والآخرة (3).
العناية بالدنيا مثل الآخرة
ولم يأمر الإسلام أتباعه بالتنسك أو الرهبنة وترك السّعي أو العمل والإصلاح وتعمير الدنيا، أو ترك ما أحله الله للإنسان من متع في هذه الدنيا. بل جاءت توجيهات قرآنية تحض المسلم على الأخذ بنصيبه من الدنيا مع إخلاص النية لله حتى تتحول كل العادات لعبادات فينال عليها المسلم الأجر والثواب.
قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].
وهو ما يجب أن يدركه كل مسلم، فمع حرصه على تعلّم العلوم الشرعية يحرص على تعلّم باقي العلوم التي تَعُود عليه وعلى أمته بالنفع والتقدم ومنافسة باقي الأمم حتى لا تظل الأمة الإسلامية في ذيل الأمم.
وكما يحرص على القيام لله والخشوع والتهجد والاجتهاد في العبادة يحرص على العمل وإعمار الأرض والتمتع بما وهبه الله من نعم في الحلال، ونشر البهجة والسعادة على قلوب الناس(4).
توجيهات للمرأة المسلمة
ولأن النساء شقائق الرجال، فقد جاءت توجيهات قرآنية في كتاب الله تؤكد الحقوق والواجبات للطرفين بالتساوي، إلا ما كان يخص كل منها حسب طبيعة الخلق، فقد اهتم القرآن بتوجيهات للمرأة المسلمة- وإن كانت تشترك في كثير من التوجيهات التي وجهها الله للرجال- لكن خصها ببعض التوجيهات الربانية لمكانتها العظيمة.
وجاءت التوجيهات لنساء النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن ورائهن كل مسلمة، حيث قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[الأحزاب:32، 33].
بل جاء التوجيه بعد ذلك للجميع في أمر الحجاب حتى يغلق الله سبحانه منافذ الشر والتأويل أنها فقط لنساء النبي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}[الأحزاب:59](5).
إن العظمة التي جاء بها القرآن الكريم لا تقتصر على الاعتقاد الصحيح وتوحيد الخالق سبحانه فقط، بل عظمته تجاوزت آفاق الحياة التي لا حد لها، بتقويم سلوك النّفس المسلمة وتصحيح معاملاتها.
فالقرآن الكريم منهج ودستور حياة يضبط اعوجاج الإنسان، بمنحه فيضًا تلو الآخر من الطهر والحب والجمال، وذلك بنظرته الشمولية، وقواعده الكلية التي تصلح لكل زمان ومكان.
المصادر والمراجع:
- سامح بسيوني: توجيهات ربانية، 20 مارس 2016.
- محمد العبدة: بناء الشخصية الإنسانية في القرآن.
- فضل عبد الرحمن جلال الدين: تربية الأولاد كما يراها القرآن، 22 أبريل 2012.
- الدكتور عبد الحليم عويس: المبدأ القرآني في بناء الإنسان والحضارة، 29 ديسمبر 2011.
- خالد بن عبد الرحمن الشايع: توجيهات قرآنية لأمهات المؤمنين وللنساء المسلمات، 13 يوليو 2017.