تمرد أولادي
أنا أم لأربعة أبناء، أكبرهم على مشارف العشرين، تُوفي زوجي منذ عامين تقريبا وتركهم لي مع قليل مما ترك من مال أنفقه عليهم والحمد لله، سؤالي ليس من غياب الزوج، وليس شكواي كذلك من نقص المال وإنما من أمر الأبناء الذين أصبحت أعترف الآن وبكل صدق أنني لا أستطيع تربيتهم، بل أؤكد لك أنهم أصبحوا الآن أقوى مِنّي، وكلما زادت أعمارهم يوما قلت سطوتي وقُدرتي على تربيتهم، حتى صار ابني الأكبر يفعل الآن ما بدا له بلا رادع ولا ضابط بعدما فشلت كل محاولاتي لضبطه ولجمه لكنه كان أقوى مِنّي.
وأخوه الأوسط يذهب نحوه تارة ويعود نحونا تارة إلا أنه بدأ الآن يتمرد عليّ هو الآخر في تجربة ثانية قريبة من تجربة أخيه، وأختهما وإن كانت أقل منهما بكثير، إلا أنني كثيرا ما أجد نفسي – أيضا- ضعيفة أمامها ولا أدري إن كان ضعفي هذا حقيقة أم هو شفقة عليها وحبًا لها.
المهم أنني الآن بدأت أرفع الراية البيضاء، وأسلم لهم؛ لأنني فشلت فشلا ذريعا في أن أربي أبنائي الذين لم أخرج من الدنيا إلا بهم، غير أنني أعود فأحاول المقاومة فأثبت على القليل الذي أملكه من مقومات التربية حتى لا يكتمل ضياعهم.
فهل العيب في أبنائي أم في الجيل كله الذي لم يعد يحترم أما ولا أبا ولا معلما، وبِمَ تنصحني في هذا البلاء الذي لا يرفعه عني إلا الله سبحانه وتعالى.
الإجابة:
بداية تذكري أختي السائلة أنه: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) و( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا)، وأن قدر الله لا يأتي إلا بخير، لو علم سبحانه ألا طاقة لك ما كتبها عليك، ما زال يمكنك أن تقدمي الكثير.
أولًا، وقبل كل شيء ننصحك بأن يكون لك زاد يملأ خزان العطاء لديك، فكما قال سلمان الفارسي وصدّقه رسول الله: (إن لربك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا فأعط كل ذي حق حقه)، سواء أكان هذا بكتاب أو مع صديقة أو وسط العائلة. فقد زاد الحمل عليك وتضاعفت مسؤولياتك، بل وصارت عليك مسؤوليات لا تتوافق مع طبيعتك كأنثى وهي مسؤوليات الأب، لذلك فقد صار لزامًا أن تأخذي كما تعطين لكي يستمر عطاؤك، وليس شرطًا أن يكون الأخذ من أبنائك.
اجعلي لك مستشارًا ناصحًا حكيمًا صبورًا تعودين إليه في المواقف التي تحتارين فيها أو تصعب عليك، يدعمك بالرأي ويُساندك.
الأمر الثاني ربما بات من الضروري أن تضعي أهدافًا مختلفة مع أولادك للمرحلة الحالية، بدلًا من السيطرة وامتلاك زمام الأمور ضعي هدفًا لفترة (إظهار الحب والاحتواء) أو (التغافل)، فقد يعينك بعض التغافل على امتلاك زمام الأمور مرة أخرى كما يقول الشاعر:
ليس الغبي بسيد في قومه ******* لكن سيد قومه المتغابي
وتذكري أن أبنائك قد ألمّ بهم مصاب كما ألمّ بك، وفقدوا أباهم وسندهم تمامًا كما فقدت أنت زوجك وسندك، هذا أدعو أن يترفق بعضكم ببعض، وأن يرحم ويعذر بعضكم بعضًا. وتنبهي لئلا تؤاخذي أولادك بجريرة افتقادك لزوجك أو المصاعب المادية التي تواجهينها، تأكدي أنك تتعاملين معهم بمنأى عن هذه الضغوطات التي لمحت لها في بداية الرسالة.
مفهوم جدًا بل وطبيعي الخوف الذي بداخلك وعظم الحِمل الذي تشعرين به فوق ظهرك، عليك أن تتعاملي مع هذه المشاعر التي تسيطر عليك لأنها ربما السبب خلف توترك وعدم قدرتك على احتواء أبنائك، اعترفي بها وعبري عنها واقبليها ثم تذكري نعمة الله أنه لم يكتب عليك وفاة زوجك وهم في سن صغيرة، بل شب أكثرهم عن الطوق وأصبحوا شبابًا. كما توفاه الله بعد أن صار للبيت نظامٌ وقواعد وعادات فلا تحتاجين أن تُؤسسي من جديد.
كما عليك أن تحاولي يا سيدتي تقبل طبيعة السن الذي يمرون به، فربما هو السبب في تصرفاتهم وليس عدم قدرتك على تربيتهم أو ضعفك، فسن العشرين وما قبله بفترة ليس سن الملاحقة ولا المشاجرة ولا التحقيقات ولا التقييد، أعطهم قليلًا من الحرية لأنك لو لم تفعلي فسينتزعونها ولو رغمًا عنك.
عليك أن تُدخلي في حياتهم أحد الأقارب الذكور جَدًا أو عمًا أو خالا، يكون مقبولًا لديهم، حكيمًا، ودودًا، يقترب منهم ويحاول مصاحبتهم ويكون لهم مستشارًا وناصحًا، حتى لو ابتعدوا عنك تطمئني لهروبهم إليه.
لا تكثري – أعانك الله- من الشكوى أمامهم ولا تنعين حظك معهم ولا تعلنين نفاد صبرك، بل أظهري الصبر والحكمة والرضا، اجعليهم يرونك مبتسمة راضية هادئة، واجعلي هذا سمت البيت، اجعليهم يلتفون حولك، بكلمة طيبة وتربيتٍ على ظهورهم وأكلة شهية، اسمعيهم أنك راضية عنهم، وأنك تشعرين بمشاعرهم، حتى لا يصبح البيت منفرًا لهم.
بعد فترة من الكف عن الشجار وإعادة ملء رصيد الحب بينكم، أخبريهم بطبيعة احتياجك منهم، ماذا تنتظرين وتتوقّعين، اطلبي منهم المساعدة، قولي (أنا أحتاج لمساعدتكم) وقومي بتوزيع المسؤوليات المناسبة لكل منهم، وأطلعيهم على طبيعة وضعكم المادي وما يتطلبه.
واحذري في الوقت نفسه أن تكون وفاة والدهم سببًا في إفسادهم بسبب تساهلك معهم في الخطأ أو عدم توجيههم بحجة الإشفاق عليهم، تستطيعين أن تغدقي عليهم حنانًا وعطفًا لكن مع تعليمهم الصواب والخطأ والحزم معهم في الخطأ، عوديهم العطاء ومشاركة الآخرين همومهم ومساعدتهم، بدلًا من العيش في دور الضحية واستساغة الأخذ دائمًا، فقد يخلط البعض بين الحزم والقسوة ويجعل وفاة الأب سببًا للتدليل الدائم وتلبية كل الرغبات ظنًا منه أن غير ذلك قسوة لن يتحملوها.
استعيني بالله كثيرًا واستشعري معيته وناجيه طويلًا في السجود، ورددي دعاء النبي الذي أوصى ابنته فاطمة بترديده صباح مساء (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) وناجيه أن تتمي رسالتك مع أولادك على خير وأن يرزقك برهم ويقر عينك بهم، وتقربي لله بالطاعات ولو بتخصيصك طاعة بنية صلاح أحوالهم.