للصيام دوره الجليل في الانتصار على شهوات النفس، والوقوف أمام ملذاتها، والحد من سيطرتها وطغيانها وجموحها، فهو فرصة للتغيير الحقيقي الذي يتوق إليه الإنسان، هكذا اقتضت حكمة الله وهدايته لعباده المسلمين.
إلا أننا نشاهد مظاهر منافية لمعاني التربية المقصودة من صيام هذا الشهر الفضيل، حيث أفرغ بعض الصائمين شهر رمضان من غايته، وأعرضوا عن حكمته بالبذخ في النفقات على الأكل والعزائم والولائم والسهر والحفلات، وهو ما لم يحث عليه القرآن الكريم أو السنة النبوية، التي حثت على الاقتصاد في هذا الشهر، والإكثار من الصدقات والزكوات للفقراء والمحتاجين.
حكمة الصيام
الصيام مدرسة يتربى فيها المسلم على طاعة الله سبحانه، فيترك ما اعتاده من التقصير في الواجبات، ويحرص على ترك ما اعتاده من المنكرات، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: [مَن لم يدَعْ قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدَع طعامه وشرابه]( رواه البخاري).
كما أن للصيام أثرًا تربويًا في سلوك الصائم نحو الآخرين بحسن التعامل معهم بالأخلاق الحسنة التي دعا إليها الإسلام، وتجنب الأخلاق المذمومة التي حذر منها الإسلام، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: [وإذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم] (متفق عليه).
يقول أحمد طه فرج إن “الصيام فيه تقديم رضا الله على النفس، وتخليص للإنسان من رق الشهوة والعبودية للمادة، وتربية عملية على ضبط الغرائز والسيطرة عليها، والتضحية بالطعام والشراب ابتغاء وجه الله وحده، قال صلى الله عليه وسلم: [قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي] (رواه البخارى ومسلم)(1).
لعلكم تتقون
شرع الله تعالى لعباده شهر الصيام، وجعله فرضا من فرائض الإسلام، ذلك الشهر العظيم الذي تضمن أسرارا عجيبة، وفوائد جليلة، حيث اقترن بتقوى الله عز وجل، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
تقول الدكتور موزة بنت محمد الربان، رئيسة منظمة المجتمع العلمي العربي، عن اقتران التقوى بالصيام وأثرهما على نفس وحياة المسلم: “في عز الحر والعطش يشعر الصائم بجفاف الحلق واشتهاء الماء، ويختلي بنفسه لا يراه أحد، حتى أثناء الوضوء، ويدخل الماء إلى أقرب مسافة من البلعوم، وليس بينك وبين إدخاله وشربه وتحقيق ما تشتهي سوى إرادة البلع، والتي إن حدثت لا يعلم بها أحد، لكنك لا تفعلها لأنك تدرك أن الله مطلع عليك”.
يجسد هذا معنى الشعور بمراقبة الله والإحساس بوجوده سبحانه معك في كل حال وآن. هذا الشعور إذا تمكن من الإنسان بلغ به مراتب الإحسان والذي عرّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث جبريل الذي رواه البخاري: “…أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”(2).
إن الخوف من الجليل ومراقبته تحت شعار (الله مطلع علي ويراني) من أجَّل الفوائد التي اقترنت بالصيام في تهذيب أخلاقيات وسلوكيات النفس البشرية.
الشعور بالفقراء
من فوائد الصيام التي شرعها الله وقرنها بالتقوى استشعارُ المسلم الصائم معنى الحرمان، ليشعره الله بآخرين يعيشون حياة الحاجة مكرهين ومجبرين لفقرهم وقلة حيلتهم، وفي هذا يقول الشيخ محمد المختار الشنقيطي: “في الصيام خير كثير، فإنه يذكر الأغنياء بالفقراء والمحتاجين، فإن الإنسان إذا جاع وعطش مع قدرته أو علمه أنه في آخر النهار سيجد الطعام وسيجد الشراب، سيتذكر الفقير الذي لا يجد طعاماً ولا شراباً، ولذلك قالوا: إن هذا الصيام فيه مصلحة عظيمة للإنسان من جهة تذكره للضعفاء، وخاصة إذا كان من الأغنياء والأثرياء.
فإن الغني ربما ينسى إخوانه من الضعفاء والفقراء بسبب ما فيه من الغنى، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) .
فالإنسان إذا استغنى أصابه الطغيان، ولكن إذا جاع كما يجوع الفقير، وظمئ كما يظمأ الفقير، دعاه ذلك إلى أن يتذكر هؤلاء الضعفاء فيعطف عليهم (3).
هذا الشعور الذي يجب أن يتبعه مسارعة لتفقد حال الفقراء والمساكين، ومعاونتهم على نوائب الدهر وتوفير الطعام لهم، وليس فقط الشعور بجوع الفقير لأنه على كل حال جائع ولن ينفعه صيام الآخرين، لكن ينفعه منهم تفقد حاله وإطعامه.
حتى أن النبي اهتم بهذا الجانب فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبدالله بن عباس: [ ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ] (صحيح الجامع).
وحول معنى هذا الحديث، يتحدث المستشار محمود الخضيري، “الذين يعرفونه كثير والذين يطبقونه قلة، وهو ما نعاني منه نحن المسلمين، نعرف الكثير عن الجوانب الإيجابية في ديننا ولكن ما نطبقه منها هو أقل القليل، فقد يبيت الفقير هو وأسرته وأطفاله الصغار جوعا، ويبيت جاره يعاني أحيانا من التخمة، وقد يبيت الجار مرتعدا من البرد في حين أن جاره يتقلب بين الأغطية المختلفة يختار منها ما يتناسب مع الجو، قد يكون مريضا لا يجد ثمن تذكرة العلاج وأجر الطبيب في حين أن جاره يذهب للطبيب ليس للعلاج ولكن للاطمئنان على أن الصحة جيدة (4).
أكلما اشتهيت!
يقول الصحابي الجليل عبدالله بن عمر: رأى عمر بن الخطاب لحماً معلقاً في يدي فقال: ما هذا يا عبدالله ؟ قلت اشتهيت لحماً فاشتريته. فقال عمر: أو كلما اشتهيت اشتريت.
وكذلك الصيام ليس شهرًا لتلبيه ما تشتهيه النفس من ملذات الطعام والشراب، لكنه شهر لكبح جماح النفس وتزكيتها وتربيتها وفق السلوك القويم الذي حث عليه الدين الحنيف.
فليس من حكم الصيام أن تمتلئ موائد الصائمين بشتى أنواع الطعام، حيث حذر الله من ذلك بقوله: ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141].
التربية الادخارية
واقعيا تعاني بعض الأسر من الإسراف، حتى في المباحات، وفي شهر رمضان تصل بالبعض إلى حد التبذير.
يقول محمود مصطفى الحاج: موضحا الفرق بين المعنيين، فالتبذير يعني: صرف الأموال في غير حقها؛ إما في المعاصي، وإما في غير فائدة؛ لعبا وتساهلا بالأموال، أما الإسراف: فهو الزيادة في الطعام والشراب واللباس، في غير حاجة، وبالطبع هذا ما يفعله الكثير خلال شهر رمضان المعظم.
ويقول الدكتور أشرف دوابة: الأسرة أحوج ما تكون في رمضان لترتيب أوراقها الاقتصادية، وترشيد الاستهلاك وتدعم الادخار، فقد كشفت أكثر من دراسة أن أكثر من 45% من الوجبات التي يتم إعدادها تذهب إلى صناديق القمامة، لا سيما في دول الخليج العربي، كما تشير العديد من الإحصاءات إلى أن الاستهلاك في رمضان يرتفع بنسبة تتراوح بين 10 و40% عنه على مدار السنة (5).
ولذا من الإحسان في رمضان أن تعمد الأسر إلى حسن الإنفاق في الشهر الكريم، ليكون مدرسة تربوية تصقل النفس بهذه المعاني الادخارية وترشيد الإنفاق لما بعد رمضان وفي كل شؤوننا، حيث تقديم الضروريات على الكماليات.
يقول الدكتور دوابة: ينبغي للأسرة المسلمة الاستفادة من رمضان من خلال تربية ادخارية رشيدة جنباً إلى جنب مع تربية استهلاكية رشيدة، باعتبار أن الادخار يمثل وسيلة مهمة لرفع مستوى دخل الأسرة حال توجيهه للاستثمار، وهو صمام أمان والعاصم لها بعد الله عز وجل في كثير من الأزمات، وفي هذا يقول الحسن البصري: «رحم الله امرأ اكتسب طيباً، وأنفق قصداً، وقدم فضلاً ليوم فقره وحاجته» (الطبري في تهذيب الآثار – باب ذكر ما حضرنا ذكره في ذلك عن السلف من الصحابة والتابعين – حديث رقم 356).
مظاهر سلبية
ظاهرة الإسراف في شهر رمضان المبارك من الظواهر السلبية التي بدأت تتفاقم في المجتمعات الإسلامية وتتخذ أشكالا مختلفة، فمع دخول الشهر الفضيل تزدحم الأسواق لشراء مستلزمات المأكولات والمشروبات بشراهة ملفتة تعكس صور الإسراف والتبذير.
وقد نهى الدين الإسلامي عن الإسراف والتبذير ودعا إلى الترشيد في الإنفاق والاستهلاك قال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31).
ويندرج تحت هذا الإسراف إقامة الولائم والعزائم والتباهي بها، في حين أن كثيرا من العائلات لا تجد قوتها اليومي.
على الوجه الآخر نجد انتهازية واستغلال التجار لظروف الشهر الكريم وحاجة الناس للمواد الغذائية فيرفعون الأسعار، وهي من الأمور التي لا يقبلها رمضان بتربيته ولا حتى في غير رمضان.
إن شهر رمضان شهر عبادة في المقام الأول وقربة إلى الله سبحانه بالأعمال الصالحات والمتنافس فيها، وليس شهر الإسراف والبذخ في وقت لا يجد فيه البعض ما يسد به رمقه.
فالصيام تربية للنفس على الصبر وجهادها للبعد عن مظاهر البذخ والإسراف.. وعليه كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش.
المصادر
- أحمد طه فرج: ما حكمة مشروعية الصيام، 3 مايو 2020م،
- موزة بنت محمد الربان: الصيام والتقوى والبحث العلمي، 21 مايو 2019م،
- كتاب شرح زاد المستقنع للشنقيطي، المكتبة الشاملة،
- محمود رضا الخضيري: ليس منا من بات شبعان وجاره جائع،
- أشرف دوابة: التربية الاقتصادية للأسرة في رمضان، 7 مايو 2019م،