لا يُحقق الهزل نصرًا ولا يُقدّم أمة ولا ينصر قضية، بينما الجدية هي السبيل الوحيد لتحقيق ما نأمل من الغايات، وهي التي تفتح مجال الطاقات الحبيسة في النفس، لأن الإنسان إذا تكاسل وتوانى وتوقف، يصبح كالماء الآسن، وإذا عمل واشتغل جرى في الأعمال كالماء الجاري.
والمتدبر لآيات الكتاب الحكيم وأقوال النبي- صلى الله عليه وسلم- وأفعاله، سيجد توجيهات كثيرة يغلب عليها الجد سواء في القول أو العمل، لتكون أيام المسلم ما بين علم أو عبادة أو عمل، وفي الوقت ذاته فإن قضية الترويح عن النّفس بعد التعب والنصب لها نصيب، لكن الأصل هو في الحياة هو الجد في الأعمال الصالحة.
مفهوم الجدية وأهميتها
والجد ضد الهزل، والتهاون والضعف والرخاوة، وهي إنفاذ التكاليف الشرعية والدعوية توًّا مع المثابرة والدأب، وتسخير كل الإمكانات المتاحة ومغالبة الأعذار والعراقيل التي تعترض سبيلها، لهذا نجد قول الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَّمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 12-13]، لتؤكد مدى تغلغل الجدية في أوامر القرآن.
والجدُّ صفة أساسية وخُلق لازم للمؤمنين الذين عاهدوا الله على أن يَحيوا لدعوته، أو يَموتُوا في سبيلها، حيث تطبع بصماتها وتتحلى مظاهرها في جُل المواقف والأحوال، ونلمس ذلك في النداء الرباني: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، يقول الإمام ابن كثير أي: تعلم الكتاب بقوة، أي بجد وحرص واجتهاد، {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] أي الفهم والعلم، والجد والعزم، والإقبال على الخير والانكباب عليه، والاجتهاد فيه، وهو صغير حدث.
وهذه الصفة يمتطيها عزائم الرجال لتبلغ الأمة المكان الذي ترجوه وتؤمله، يقول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الإسراء:18، 19)، فهذه الآية تشعر بأن مَن أراد الدنيا وهو جاد في مطلبه، فسينال منها، ومن يريد الآخرة ويعمل لها، فسيحصل عليها.
الجدية في الإسلام
وجاء مفهوم الجدية في كثير من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية، فهي من صفات أهل الإيمان، وأولياء الرحمن، الذين امتدحهم الله بقوله: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون) [المؤمنون: 61]، قال القرطبي رحمه الله: يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ أي: الطاعات، كي ينالوا أعلى الدرجات والغرفات.
والله- سبحانه وتعالى- أمرنا بالجد كما أمر من قبلنا، وقال: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] أي: بجد واجتهاد، لذا لا بدّ من المبادرة، والعمل، والتحذير البالغ من التفريط، والإهمال، والكسل؛ لأن الندم هو العاقبة، قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ..) [المؤمنون: 99 – 100].
وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يُوصي أصحابه بقوله: “بادروا بالأعمال” (مسلم)، ويُوقظنا بأمور تنبه الكسلان والغافل: “يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا” (البخاري).
والنبي- صلى الله عليه وسلم- حثنا على الجد بقوله: “الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ”. (مسلم).
وهذه الحياة التي تتسم بالجد لا تعني ألا يكون هناك أوقات للترويح عن النفس، لأن النفوس إذا كلَت عميت، لذلك قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- تعقيبًا على السماح للسيدة عائشة- رضي الله عنها- بالنظر إلى ألعاب الحبشة،: “ليعلم يهود أن في ديننا فسحة”.
وكان العلماء من السلف يذكرون الطرائف أثناء دروس العلم حتى لا يمل طالب العلم، وكان الرسول- صلى الله عليه وسلم- يمزح ولا يقول إلا حقًّا، وكان إذا أعجبه شيء تبسم.
مظاهر جدية المسلم
وللجدية مظاهر وعلامات نذكر أهمها، ليفتش كل امرئ عنها في نفسه، فإن وجدها فليحمد الله، وليستقِم عليها، وإن غابت عنه، فليجاهد نفسه، ليتحلى بها، حتى يكون لبنة قوية سوية في البنيان، ومن هذه المظاهر:
- أن يكون جادًّا في أمور دنياه، في معاملته مع أهله وجيرانه وأفراد مجتمعه: “مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ” (البخاري).
- وأن يكون قويا، وهو ما رأيناها بجلاء في سيرة الصحابة الكرام- رضي الله عنهم- وهم ينهضون بتكاليف هذا الدين، فهذا عمر- رضي الله عنه- عند هجرته يقف متحديًا قريشًا قائلاً: (إني مهاجرٌ، فمن أراد أن تثكله أمه أو تتأيَّم امرأته أو يُيَتَّم ولده فليتبعني، فلم يجرؤ أن يراجعه أحد).
- ومثابر ودؤوب، والعمل المتصل بجدّ وتعب نراه على أكمل وجه في تبليغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لهذه الدعوة في السر والعلن، والعسر واليسر بلا كَلَلٍ ولا مَلَل.. ولما أراد قومه أن يثنوه بالترغيب والترهيب؛ قال كلمة أولي العزئم الماضية، والهمم العالية: “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه”.
- ويكون جادًّا في قوته وقوت عياله متحريًا للمال الحلال ثم إيداعه في المكان الحلال: “لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ” (الترمذي).
- وأن يسخر الإمكانات من نفس ومال، وولد وأهل، وكل ما يملك المرء: ونجد ذلك بارزًا في سيرة خير القرون، فإن حياتهم كلها كانت جهادًا وتضحية في سبيل نصرة هذا الدين. فهذا الصديق- رضي الله عنه- يأتي بماله كلِّه، ويقول: تركت لهم الله ورسوله، وهذا عثمان – رضي الله عنه – يجهِّز جيشًا كاملاً في غزوة العسرة (تبوك)، والأمثلة كثيرة.
- وأن يكون جادًّا في أمور دينه، في عباداته ونسكه، وفي العمل على تطبيق أحكام الله في أرضه.
- وأن يكون حريصًا على الوقت، ويغتنمه في طاعة الله، وخدمة دعوته، وتفقد إخوانه، وصلة أرحامه، وقضاء حوائج الناس.
- لا يؤجل عمل اليوم إلى الغد، فلا تراخِيَ، ولا تسويف حتى لا تتراكم الأعمال، ويقع ما لا تحمد عقباه.
- ومن مظاهر الجد، مغالبة الأعذار والعراقيل: فالمسلم الجاد لا يستسلم أمام المشقات، ولا يضعف أمام العقبات، بل يغالبها، ويبحث دائمًا عن مخارج، ويضاعف الجهد، ويحرص على المشاركة حتى آخر لحظة بأقصى ما يملك. فهذا عمرو بن الجموح- رضي الله عنه- يريد أن يخرج للجهاد، فيمنعه أبناؤه، لأنه أعرج.. فيخبره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالرخصة، فيقول الصحابي: لعلي أطأ بعرجتي هذه الجنة، وقد كان.
قواعد للعمل بجدية
وهناك قواعد لا بُد من أن يسير عليها المسلم ليكون إنسانًا جادًّا، فعليه أن يبتعد عن التسويفُ، ولا يبدد عمره أو يضيع وقته ولا يصاحب البَطَّالِين، ولا يستغرق في المباحات، ولا يكثر من الكماليات، فكل ذلك معاولُ هَدْمٍ تُوهِنُ بِنَاءَ الجِدِّيَةِ في النُّفوس، ومن أهم قواعد اكتساب صفة الجدية ما يلي:
- القاعدةُ الأولى: تقوى الله عز وجل، لقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:2-3]، وقال سبحانه: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا) [البقرة:282].
- القاعدةُ الثانية: لا تُؤَجِّلْ عَمَلَ اليومِ إلى الغَد، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100].
- القاعدةُ الثالثة: أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فعن سَلْمَانَ- رضي الله عنه- قال لأبي الدرداء -رضي الله عنه-: “إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ”، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “صَدَقَ سَلْمَانُ” (البخاري).
- القاعدةُ الرابعة: اعْمَلْ، فإنَّ لمْ تستطعْ فَأَعِنْ غَيرَك، فإنْ لم تستطعْ، فَأمْسِكْ عن الشر، فن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ”، قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟! قَالَ: “يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ”، قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟! قَالَ: “يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ”، قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟! قَالَ: “يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ الْخَيْرِ”، قيل: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟! قَالَ: “يُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ” (البخاري ومسلم).
- القاعدةُ الخامسة: ترتيبُ الأَولَوِيات والبَدْءُ بالأَهَمِّ فالمُهِم، والتدرجُ في العملِ والسعيِ للهدف، كما أرشدَ النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- معاذًا حين بَعَثَهُ إلى اليمن كما في الصحيحين حيثُ قال: “ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ”.
مواقف عملية
ونسوق فيما يلي بعض المواقف العملية عسى أن تنفخ روح الجدية في قلوب السائرين، فينطلقون إلى تحقيق الأهداف:
لما نزل قول الله تعالى في بداية الدعوة: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا) [ المزمل: 1-4 ]، إذا بالنبي يقوم قياما طويلا، حتى أشفقت عليه خديجة- رضي الله عنها- وظل هذا شأنه إلى أن لقي ربه، وتبعه في هذا الأمر أصحابه- رضوان الله عليهم- فشقوا على أنفسهم مشقة بالغة وما خفف عنهم إلا قوله تعالى في آخر السورة: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ) [ المزمل: 20 ].
ولما دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم – أبا بكر الصديق- رضى الله عنه – إلى الإسلام فأسلم، إذا بالصديق- رضى الله عنه- يستشعر المسؤولية، ويجدُّ في الدعوة الفردية، فيسلم على يديه صفوة من خيار الصحابة: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فكانوا نعم الأعمدة الشامخة لدعوة الله، ونصرة الإسلام.
وهؤلاء أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يستجيبون لندائه- صلى الله عليه وسلم- غداة يوم أُحد بالخروج إلى حمراء الأسد، فيلبُّون النداء على ما بهم من جراحات شديدة.. حتى كان يحمل الأقل جرحًا أخاه الأشد جرحًا، بعد فقد الظهر الذي كان يحمله. وهذا الكهل الذي التحق بكتائب الجهاد وقد تدلَّى حاجباه وانحنَى صلبه، فقال له شاب: يا عمَّاه، قد وضع الله عنك وعن أضرابك الجهاد فردَّ الرجل باكيًا: يا بنيَّ، لم أجد اللهُ أعفَى أحدًا حين قال: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: 41] فالمسلم الجاد لا تقعده الدنيا بزخارفها الفانية، ولا يلجأ إلى الأعذار التافهة؛ لأن ما عند الله خير وأبقى.
وهذا العملاق الفذ “جعفر بن أبي طالب”- رضي الله عنه- في غزوة مؤتة تُقطع يُمناه التي تَحمل الراية فيرفعها بيُسراه فتلحق هي الأخرى بأختها فيحتضنها بعضديه حتى تظل خفاقة مرفرفة ما بقيت فيه عين تطرف.
وأثناء معركة القادسية تقدّم من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رجل كفيف، وهو عبد الله بن أم مكتوم وكان مؤذناً لرسول الله مع بلال، وانضم إلى الجيش رغم أن الجهاد رفع عنه لأنه كفيف، وطلب أن يمسك باللواء، فرفض سعد بشدة وقال له: كيف..؟ وأنت كفيف.. فقال له عبدالله.. يا سعد إن المبصر إذا رأى الفرس فسيهرب، ولكنني لا أرى شيئا فسأثبت مكاني، فقال سعد: صدقت…وأعطاه اللواء.. وبعد المعركة وجدوه شهيداً واللواء في يده”.
وهذا صلاح الدين الأيوبي– رحمه الله- القائد العظيم يسيطر عليه همّ الأقصى الأسير، فلا يمزح ولا يضحك ويقول: “إني لأستحي من الله أن يراني أضحك وبيت المقدس في أيدي الصليبيين” فأكرمه الله بتحرير بيت المقدس على يديه.
نستطيع القول إنه دون الجدية تُبدّد الجهود المبذولة، وتضعف شجرة الدعوة، وتخبو رايَتها ويتأخر الركب، ويتقدم الأعداء، وتضيع الأمانة، وهذه الصفة بعد عون الله هي المطية التي تمتطيها عزائم الرجال لتبلغ الأمة المكان الذي ترجوه وتؤمله، وهي بلا شك أمر لازم لإنجاز المهام وتحقيق الأهداف، وقد استعاذ النبي- صلى الله عليه وسلم- من العجز والكسل فقال: أنس بن مالك- رضي الله عنه-: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ، والجُبْنِ والهَرَمِ، وأَعُوذُ بكَ مِن فِتْنَةِ المَحْيا والمَماتِ، وأَعُوذُ بكَ مِن عَذابِ القَبْرِ” (البخاري).
المصادر والمراجع:
- محمد العبدة: العودة إلى التربية القرآنية .. الجدية في حياة المسلم.
- السيد طه أحمد: الجدية في حياة المسلم.
- محمد صالح المنجد: تربية النفس على الجدية.
- محمد ناصر العمر: الجدية قيمة منشودة.
- ياسر الطريقي: الجدية في الحياة.